الجزء الثاني: كنّا توقّفنا في الحلقة الماضية عند بدء الدكتور الشيخ الصادق الحديث عن المحاكمة لمّا قاطعه النّظام بصلفه المعهود... وإذ نعود اليوم لمواصلة ذات الحديث الذي دار بين الشيخ وصحافي قناة الحوار الأستاذ جمال أحمد، فإنّنا لن نسمح للنّظام بالتدخّل والمشاركة، فقد برهن عن عدم تحضّره وعدم كفاءته وعدم إيمانه بالحوار، فلا نكرهه بعد ذلك على ركوب منازل قصّرت به قامته وهمّته دون بلوغها... فقد توقّفنا لمّا قال الشيخ شورو : ... وفي المحاكمة قضت عليّ المحكمة العسكرية بالسجن بتهمة محاولة قلب نظام الحكم بالقوّة مع أنّه لم تقدّم لإثبات هذه التهمة أيّ دلائل مادّية... وها هو اليوم يواصل فيقول: - الصادق شورو: ... وبعد المحاكمة أُبعدت عن مقرّ سكنى أهلي بالعاصمة إلى سجون كثيرة من أقصى شمال البلاد بالنّاظور إلى أقصى جنوبها بقفصة مرورا بالقصرين والهوارب وقرمبالية... كنت في عزلة انفرادية في كلّ تلك السجون مدّة ثلاث عشرة سنة! لقد عوملت مثل إخواني معاملة مساجين من الدّرجة الثانية مقارنة بمساجين الحقّ العامّ بسبب انتمائنا لحركة النهضة، إذ حُرِمنا حتّى من الحقوق التي كان يتمتّع بها مساجين الحقّ العام. - جمال: (مستوضحا): يعني، ماذا تقصد بالدرجة الثانية؟! - الصادق: يعني، حُرمنا حتّى من الحقوق التي كان يتمتّع بها مساجينُ الحقّ العام؛ فكنّا أقلّ من درجة المساجين العاديين!... وكان من أشدّ المعاملات قسوة عليّ أنّي ضُربت وعوقبت بالسجن المضيّق لأنّني صلّيت إمَامًا بجمعٍ من المساجين بعضهم من الحقّ العام في زنزانة من جناح العزلة بسجن 9 أفريل بالعاصمة وذلك في صائفة 1993، ومُنعتْ عنّي الكتب والجرائد والكرّاسات وأدوات الكتابة والمجلاّت وحتّى اللّباس التقليدي التونسي؛ ولقد كنت أتألّم لِمَا كان يُعاني منه إخواني من شدّة وأذى، فمنهم مَن مات تحت التعذيب في الإيقاف ومنهم من مات في السجن بسبب الإهمال الصحّي ومنهم من كان يتعرّض للضرب والتعنيف والشتم والإهانة من طرف أعوان السجون... لقد أوذوا وزلزلوا زلزالا شديدا. ولقد كان الأذى والشدّة التي لحقت أهالينا أشدّ وأنكى؛ فلقد اشترطت إدارة السجون على زوجاتنا في بعض الزيارات نزع الخمار لكي يسنح لهنّ بزيارتنا فكنّ بين خيارين أحلاهما مرّ، فأبَينَ الزيارة إلاّ بالخمار... ولو أردتّ سرد كلّ البلاء الذي أصابنا وعائلاتنا لحبّرت المئاتِ من الصفحات، ولكن أترك ذلك للتّاريخ وإنّ التاريخ لا يرحم... - جمال: دكتور، تحدّثتْ التقارير كما ذكرت أنت في كلامك عن فترة السجن الطويلة، وأنّك حُرمت من حقّ التداوي وحقّ قراءة المصحف والكتب وحرمت حتّى من حقّ الكتابة!... ما هو الجرح النفسي قبل الجرح الجسدي الذي نتج عن هذه المعاملة الصعبة في فترة السجن؟! - الصادق: في الحقيقة كنت أواجه كلّ هذه الشدّة وهذه المصاعب بالتوجّه إلى الله عزّ وجلّ وبترتيل القرآن والذكر والقيام... فكلّ هذا يسّر لي مقاومة هذه المعاملة الشديدة، والحمد لله... - جمال: نعم، دكتور أنت دخلت في 12 نوفمبر 2007 في إضراب مفتوح عن الطّعام، وذلك للمطالبة برفع المضايقات التي تعرّضت لها في حينها في سجن العزلة ولكي يُمكّن أفراد أسرتك من زيارتك وأيضا كان ذلك احتجاجا على حرمان أقاربك وأحدهم شقيقك عبّاس شورو من التدريس في الجامعة! هل مازالت هناك آثار لتلك المعاملة وهل يمكن اعتبار الإفراج عنك نتيجة لمسلسل الأضرابات التي قمت بها؟؟! - الصادق: في الحقيقة، الإضرابات ورفض المعاملات القاسية التي كنّا نُعامل بها كان لها أثر - حسب رأيي – في قرار خروجنا من السجن، ولكن رغم ذلك فبعض الآثار مازالت باقية؛ من ذلك أنّ زوجتي وابني لم يُمَكّنا من جواز سفرهما، كما أنّ أخي لم يُمَكّن من التدريس ولم يعوَّض له عن السنوات التي لم يُسمح له فيها بالتدريس في الجامعة... فهذه قضايا لازالت قائمة... - جمال: دكتور، قد تمّ الآن الإفراج عنك وعن جميع معتقلي الحركة، هل يمكن أن تعتبر هذا انفراجا سياسيا وبداية مرحلة جديدة، خاصّة وأنّ الدكتور (قلت لعلّها زلة لسان) زين العابدين بن علي أكّد بأنّ تونس ليست دولة بوليسية؟! - الصادق: في الحقيقة قبل ذلك ولو سمحت، فإنّي أريد اغتنام هذه الفرصة لأهنّئ بحرارة إخواننا المسرّحين وعائلاتهم وأحمد الله لهم أن جمع شملهم بعد فراق طويل. وأهنّئ بحرارة كذلك أبناء حركة النهضة بعودة إخوانهم إليهم وأهنّئ كلّ مَن سعى وبذل الجهد من أجل إطلاق سراحنا وسراح كلّ سجين سياسي أو "مدني" (قلت: اشتبهت عليّ)؛ وإنّه مَن لم يشكر النّاس لم يشكر الله ومن لم يشكر الله فقد كفر بنعمته، ولذلك فإنّي أشكر الله تعالى أوّلا على نعمة الخروج من السجن ثمّ أشكر كلّ المنظّمات والشخصيات السياسية والحقوقية والإعلاميّة والمحامين والمثقّفين العاملين على إعلاء كلمة الحقّ المبين... وإنّي لأشكر كلّ أبناء حركة النهضة على ثباتهم وصمودهم وإقدامهم وجرأتهم، فلقد زلزلوا هم وعائلاتهم زلزالا شديدا فما وهنوا وما ضعفوا لما أصابهم من شدّة! وإنّي أشكر أيضا لإخوتنا في المهجر سعيهم وجهدهم لإطلاق سراحنا والتخفيف من وطأة السجن علينا، وأسأل الله أن يعيدهم إلينا سالمين غانمين مأجورين بإذن الله تعالى. وإنّي لأشكر شكرا خاصّا عائلات المساجين وأقاربهم والنّساء منهم خاصّة، فلقد نِلن أشدّ العذاب في المعتقلات وانتهكت حرماتهنّ وتحمّلنَ مشقّة السفر لزيارة المساجين وتعِبْنَ تعبا شديدا في تربية الأبناء والقيام بشؤونهم داخل المنزل وخارجه... ولقد كنّ مثلا للرّجال أنفسهم في الصبر والثبات والإيمان واليقين، وتحمّل الأذى والتعب والمرابطة. فهذه تحيّة شكر وتقدير لكنّ جميعا وهنيئا لكنّ بما صبرتم وبشرى لكنّ جنّة عرضها السماوات والأرض أعدّت للصابرات... قلت: لاحظت غياب العسكريين والنوفمبريين والمغيّرين عن شكر الشيخ، ربّما لعدم تجرّئهم على فعل الخير، فقد ذكرهم كثيرا في غير هذه المواطن، ولكلّ مقام مقال، ولكلّ بضاعة مستهلكوها، "وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى وأنّ سعيَه سوف يُرى ثمّ يُجزاه الجزاء الأوفى"... يتبع بإذن الله تعالى...