الخليل- فلسطين الصحفي إسلام حلايقة*"الفجرنيوز" لم تعد تخفى على أحد تلك السلطة التي باتت تمتلكها وسائل الإعلام هذه الأيام، وذاك التأثير القوي في المجتمعات، والقدرة على تحريكها وتغيير سلوكياتها وتعبئتها في اتجاهات مختلفة، وقد تجلت فعالية سلطة وسلاح الإعلام بأوضح صورها خلال موجة الثورات التي عصفت بعدد من الدول العربية بداية هذا العقد، ورأينا كيف تلقى المشاهد العربي مئات الرسائل المتناقضة، وآلاف التحليلات المتباينة، من قبل أطراف سياسية وإعلامية كان يسعى كل منها لخدمة أجندات وأهداف يرغب بفرضها وتطبيقها على الأرض بما يصب في بحر مصالحه. إن إدراك خطورة وفاعلية وتأثير سلاح الإعلام قد دفع بأنظمة سياسية بأكملها لنصب العداء، وإظهار الخصومة لمؤسسات إعلامية بعينها، رغم الفارق الشاسع والكبير بين المؤسستين، فالأولى مؤسسة تاريخية والثانية هي مؤسسة رمزية صورية بحتة، لكن تأثير المؤسسة الرمزية "الإعلامية" على التاريخية "السياسية" دفع بكثير من الأنظمة لمهاجمة تلك الوسائل الإعلامية وتقييد حركتها ومنعها وحجبها والنيل من كوادرها، كما رأينا في ليبيا حيث هاجم القذافي بنفسه بدايات الثورة عدة وسائل إعلامية في مقدمتها قناة الجزيرة، ووصفها بأنها تحريضية وتمثل "رأس الفتنة" في القضية الليبية. وكذا الأمر في مصر حيث تم اعتقال مدير مكتب الجزيرة بداية الثورة، وإيقاف العمل بمكتبها وقطع بثها، وحجبها في الأقمار الصناعية، بل وتم قطع التيار الكهربائي بمصر وحجب مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك فعل علي عبد الله صالح لدى هجومه الناري على قناة الجزيرة ومن خلفها دولة قطر، ووصف تدخلها بالسافر في شؤون بلاده وأنها "كذابة" وتخدم أجندة أجنبية. ولم يكن الأمر مختلف كثيرا في سوريا التي أصلا لم تسمح بأي إعلام غير إعلامها ومن يسبح في فلكه بتغطية الأحداث في سوريا، وكذا الأمر بالنسبة لتونس، والجزائر التي كانت تمنع الكثير من وسائل الإعلام ولازالت من العمل في أراضيها. فهل يعقل أن تجند دولة ما، أو نظام سياسي معين كامل طاقاته لمواجهة وسيلة إعلامية؟ إنها في الحقيقة معادلة جدلية يصعب حلها أو إدراك فصولها دون النظر بتمعن الى ما قاله فلاسفة الخطاب عن سلطة الإعلام وتأثير الخطاب في المجتمعات، ومنهم ميشيل فوكو وألتوسير، وحتى ماركس الذي يرى أن الخطاب المؤدلج نوع من "تشويه الوعي". إذا الإعلام ليس فيه براءة أو تصادف، فالإعلام اليوم بات كما ذكرنا سلطة بالمعنى الحقيقي للكلمة، فالسلطة قادرة على التغيير والإعلام أيضا قادر على التغيير، وكما أن للإعلام وجه وردي: تنموي نهضوي توعوي، فإن لسيفه حدا آخر أكثر خطورة وفتكا في الجماهير، إذا ما استخدم هذا الوجه السلبي بشكل ممنهج كما يحدث اليوم حيال الأزمة السورية وبعض الأماكن الأخرى. ومن أهم الاستخدامات الخطرة للإعلام هو "سياسة التضليل". التي أبدع فيها إعلام النظام السوري إلى أبعد مستوى، والتي عكف خلالها على إبطال حقائق راسخة، وخلق "حقائق" أخرى لا وجود لها على الأرض، فقد خلق أُكذوبة المسلحين الذين يسعون لزعزعة الاستقرار، وأقنع نفسه بها، وعكف لما يزيد عن عام ونصف على تكرارها، وتعبئة أعوانه وعناصره الأمنية بها، من خلال منظومة متكاملة من البرامج الإعلامية التضليلية، وسلسلة مترابطة من المواد المفبركة التي كانت قناة الدنيا رائدة بعرضها، والتي كانت تبث الأكاذيب إلى الداخل السوري، ولاسيما إلى عناصر المؤسسة الأمنية، التي كان محظورا عليها أصلا مراقبة وسائل الإعلام الدولية الأخرى، حيث يتم عرض مشاهد مفبركة لا يحتاج طفل إلى كثير جهد حتى يكتشف زيفها وبطلانها، وتم تقديمها على أنها حقائق، فمثلا كانت تعرض جثث عدد من الجنود الذين قتلهم النظام لترددهم في إطلاق النار على المتظاهرين، أو لمحاولتهم الانشقاق عن النظام، وتم تقديمهم على أنهم جنود تم قتلهم من قبل المسلحين. لقد صاحب هذه السياسات الإعلامية الفاشستية لإعلام الأسد، منظومة أخرى من تصريحات كبار أركان نظام الأسد وساسته، الذين ما انفكوا يطلقون شتائمهم واتهاماتهم يمنة ويسرة، تارة بنقد وسائل الإعلام العالمية المختلفة، وتارة بتحميل المسؤولية لدول وأنظمة سياسية بعينها، وثالثة بالتركيز على نظرية المؤامرة. ولكن محاربة نظام الأسد للإعلام في الساحة السورية لم تقتصر على توجيه النقد والشتائم، بل صاحب ذلك سياسة حجب ممنهجة لكافة الوسائل الإعلامية الدولية مستمرة حتى اليوم، وقتل للصحفيين، بل وحتى قتل من يثبت أنه استخدم آلة تصوير ولو على جهاز المحمول من المواطنين العاديين، وذلك لإحكام سياسة التعتيم الكامل على فظائع قوات الأسد وزبانيته، بينما سُمح لوسائل إعلام أخرى كقناة المنار التابعة لحزب الله اللبناني- حليف نظام الأسد، وكذلك قناة العالم الإيرانية، حيث أن إيران تعد رقم صعب وطرف فاعل في المسألة السورية، وأحد أهم مصادر دعم النظام اللوجستي والعسكري والمالي وغيره، حيث سُمح لهاتين الوسيلتين الإعلاميتين بممارسة عملهما بكل أريحية في الأراضي السورية، وللحقيقة لابد أن نعترف أن هاتين الوسيلتين قد ساهمتا بشكل واضح في التضليل وتعبئة قطاعات ليست بسيطة من الجماهير تعبئة سلبية، فقد استخدمت قناة المنار الهالة التي أحاطت بحزب الله اللبناني بعد حرب تموز 2006، وسخرتها وجيشتها لتبرير جرائم نظام الأسد، والذود عنه قدر المستطاع، وكذلك الأمر بالنسبة لقناة العالم التي تجلى تناقض سياستها بأقذر صوره في تعاطيها مع الثورتين البحرينية والسورية، فقد صورت قناة العالم ما يجري في البحرين على أنها حرب إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وأن البلاد تموج وتهيج وعلى وشك أن تسقط النظام هناك، رغم أن الضحايا (والذين نقدرهم جميعا) يعدوا على أصابع اليد، بينما أغمضت قناة العالم عينها بشكل فاشستي قذر عن قرابة 25 ألف شهيد في سوريا وقرابة المليون لاجئ، عشرات آلاف المعتقلين، وأغمضت هي و"المنار" العين عن هدم المساجد، والتمثيل بجثث الأطفال والنساء، والمقابر الجماعية وغيرها، فأي قذارة وإجرام يقوم بها الإعلام في هذه المرحلة، وهل هذا إعلام أم سلطة قتل، إن ما تقوم به هذه المدارس التضليلية لا يقل خطورة وإجرامية عما تقوم به آلة السحق والقتل الأسدية، وأنه لا يجب بحال من الأحوال أن تفلت مثل هذه الوسائل الإعلامية من الملاحقة القانونية، ولا يجب أن يفلت القائمون عليها من المحاكمة بعد انتصار الثورة السورية، وتطهير البلاد من براثن الأسد. بغض النظر عن درجة التأثير الذي أحدثتها مدارس التضليل هذه، ومدى قدرتها على إقناع الجماهير بما تعرض من أكاذيب، إلا أن سلوك هذا الطريق يسدل الستار بصورة مثيرة للجدل عن درجة الإنحطاط التي وصل لها الإعلام في هذه الأيام، ومدى قدرته على تشويه الوعي، وقلب الحقائق، أو على الأقل خلخلة توازن المتلقي وخلق صراع يفقده القدرة على التركيز، لكن كل هذا المكر والمؤامرات لم تحل دون انشقاق عشرات الآلاف من الجنود والضباط السوريين الشرفاء، كما أن سيل الإعلام الجديد النقي الهادر الذي بات خريره يسمع من بعيد، ستجرف إفك مدارس التضليل، رغم إيماننا أن التضليل كظاهرة إعلامية مرضية لا يمكن القضاء عليها، ولكن يمكن تقييدها وتعريتها. إسلام حلايقة*