عندما كان لأمّة العرب, في سالف الأزمان, شأن كبير بين الأمم والأقوام, كان سيفها يرهب الأعداء حتى قبل أن يُستل من غمده. وقد نال هذا السيف الكثيرمن الأسماء والصفات والنعوت ما لم ينله شيء آخر في تاريخنا وتراثنا الأدبي. الى درجة إن جميع الشعراء القدامى جعلوا منه ضيف شرف دائم الحضور في قصائدهم. وكانت لديه القدرة, حسب رأي المتنبي وأمثاله, على رفع شأن قوم ما أو الحطّ منه. فالسيوف كما يقول"إن تصغّرمعشرا صغروا - بحدّها أو تعظّم معشرا عظِموا". وفي زماننا هذا لايختلف الحال بالنسبة للحذاء. لأن سيوفنا, التي لا نجيد حتى مسكها باليد بالشكل الصحيح, فهي أما صدأت وتآكلت وأما أنها اصبحت وسيلة لّلهو والتسلية والرقص مع مَن ينبغي أن يُقطع رأسه بها. وكان لحذاء منتظرالزيدي الموجّه نحو رأس المجرم بوش الصغيرأشدّ مضاضة على أمريكا من وقع الحسام المهنّدِ. فقد أذلّ حذاء الزيدي وأهان وأرعب رئيس أعظم أمبراطورية في التاريخ, الا وهو مجرم الحرب جورج بوش, الذي كان يتبختركالطاووس بين خدمه وحشمه من عراقيي المنطقة الخضراء. وفي ذات لوقت صنع الحذاء, الذي كان قبل تلك الواقعة مجرد حذاء ينتعله الانسان, من شاب عراقي ضاق ضرعا بما فعله المحتلون القتلة وعملاؤهم من أركان الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق بعد إحتلاله, بطلا قوميا ومثالا نادرا ورائعا للتمرد والتحدّي على طغيان الغزاة وجبروتهم. فانتشر خبرذلك الحذاءالطائرنحو رأس الشرالأمريكي إنتشارالنار في هشيم المظلمومين والمضطهدين والمسحوقين من قبل إمبراطورية الشر وسياستها العدوانيةالتي يُراد منها تجويع وإفقارالشعوب ونهب ثرواتها وإنتهاك سيادتها تحت ححج واهية كالديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات وحقوق الانسان وما شاكل ذلك. فصار يُرفع في تظاهرات الاحتجاج في كلّ مكان, كما لو كان سيفا مشهرا في وجه الأعداء بيد إن واقعة الحذاء, رغم ما تتضمنه من معاني رمزية عميقة, ورغم كونها ردة فعل ناضجة وذكية وبكل تأكيد مدروسة, لم تسلم من عمليات إستغلال وابتزاز من قبل أولئك النفر, من دعاة اليسارأو ممن لفظته الأحزاب والتنظيمات والتيارات والحركات وفاتتهم جميع القطارات السياسية. فحاول هذا البعض أن يحصرما قام به الصحفي منتظرالزيدي من عمل بطولي في خانة اليسار. الى درجة إن أحدّهم, وهو عبد الأميرالركابي, كتب مقالا لم أقرا منه الاّ العنوان, لأنني في الحقيقة أجد صعوبة بالغة, خشية أن أُصابُ بالغثيان, في قراءة أكثر من سطرين متتالين مما يكتب هذا الركابي, قال فيه إن عملية رشق بوش الصغيربالحذاء من قبل الصحفي منتظرالزيدي هو عملية "رد إعتبار لليسارالعراقي". وهذا يعني بمفهوم المدعو الركابي ومن هم على شاكلته, إن المواطن العراقي لا يملك شعورا وطنيا ولا قِيما ولا أخلاقا ولا كرامة ولا مشاعرا ولا عواطف إنسانية الاّ إذا كان يساريا أو يمينيا أو من هذا أو ذاك من الأحزاب. ولو أن منتظرالزيدي رمى حذاءه باتجاه رأس حميد مجيد موسى )سكرتيرالحزب الشيوعي العراقي التابع للسفارة الأمريكية في بغداد( لقنا فعلا أن عمله هذا هو ردّة إعتبار لليسارالعراقي. رغم إننا على قناعة تامة بان لا حميد مجيد موسى ولا عبدالأميرالركابي ولا العشرات من أولئك المتصدّين في المياه العكرة والباحثين عن أمجاد وبطولات وهم جالسون في مكاتبهم الأنيقة في دول أوروبا, لهم علاقة باليسارالعراقي أو بغيره من اليسارات. مع إحترامنا وتقديرنا طبعا للكثيرمن الشخصيات اليسارية التي ما زالت رغم المصائب والظروف القاسية واقفة بصمود وصبر في خندق الشعب العراقي ورافضة باصرار وقناعة كلّ ما نتج عن الاحتلال من مشاريع عدوانية عنصرية وطائفية وحزبية لا هذف لها غير تدمير العراق وتفكيكه وتحويله الى دويلات وأمارت وضيعات عائلية وعشائرية ومناطقية. ولعلّ ذاكرة بعض المنظّرين, من يساريّ المكاتب الأنيقة, تناست إن أجدادنا أبطال ثورة العشرين أمثال شعلان أبو الجون والشيخ ضاري"هز لندن ضاري وبكّاها" وغيرهم المئات من أبناء العراق الشرفاء, لم يعرفوا لا يسارا ولا يمينا ولا أحزابا ولا منظّرين عاطلين يبحثون لهم عن موطيء قدم وسط الأحداث. فقد سطّروا ملاحم رائعة في المقاومة والتحدي والرفض مستخدمين كل الوسائل والأسلحة المتوفرة لديهم أنذاك بما فيها العصي والسكاكين والفؤوس وتمكّن أجدادنا الأبطال, بحسّهم الوطني العميق وقيمهم العربية الاسلامية المُثلى وشعورهم العالي بالمسؤولية أمام الشعب والوطن, من دحر وهزيمة بريطانيا العظمى,أكبر إمبراطورية في العالم يومئذ دون أن يسمعوا حتى كلمة واحدة عن اليسار. فالانسان, قبل أن يكون من هذا الحزب أو ذاك, هو مواطن يتنمي الى وطنه الذي تربى بين أحضانه وتشبّع بقيمه وأخلاقه وتقاليده ومحبّته وتقاسم معه الفرح والحزن, الدموع والابتسامات, الإيجابيات والسلبيات. وقد قال الشاعر"بلادي وإن جارت عليّ عزيزة - وأهلي وإن شحّوا عليّ كرامُ". وهذا ما فعله الصحفي العراقي منتظرالزيدي. لقد قام بصفع بوش الصغير بفردتي حذاء نيابة عن الجميع. لم يقل إنه فعل ذلك لأنه ينتمي الى هذه الجهة أو تلك. بل بالعكس فقد نقل عنه شقيقه عدي, الذي زاره في معتقل"الديمقراطية النموذجية" في المنطقة الخضراء ما يلي:" رفضَ أن تقوم أية جهة بتسييس موقفه الجريء هذا. إنما أهداه الى جميع العراقيين الذين دفعوا ثمنا باهظا لجرائم الاحتلال الأمريكي في العراق". ويكفيه فخرا, ويكفينا أيضا, إنه إبن العراق الأبيّ. هذا الوطن الذي عودّنا على صنع المآثر والمعجزات, ولو بالأحذية والقنادر أما أولئك الذي لا يرون في المواطن العراقي الاّ يافطة حزبية أو بوستر دعائي أو راية طائفية فعليهم قبل كلّ شيء الخروج من أبراجهم العاجية والنزول الى الشوارع لمواجهة الحقيقة وجها لوجه. [email protected]