كل حلقات العنف التي شهدتها وتشهدها تونس كأنها بيد واحدة, وموجهة في اتجاه واحد, ولعل رجال الأمن هم أول من ابتدأ دوامة هذا العنف، فكيف لا يكونون وراء كل العنف الحاضر والقادم؟ للحديث في هذا المجال نقطتان لا يجب ان ننساهم، الأولى احداث سليمان سنة 2006 و 2007, حيث كان من بين المورّطين مجموعة من الأمنيين المعزولين والخطيرن، ومنهم من ادعى بأنه صار سلفيا، وفي الحقيقة لم تكن سوى تصفيات حسابات، ولكن النظام السابق قام باعتقال العشرات وخاصة من بين الطلبة والذين يعرفون بأداء صلواتهم في المساجد، وهاهي بعد الثورة تجرى اعادة المحاكمات وظهور الأبرياء. والنقطة الثانية، احداث الثورة التونسية نفسها، حيث قام اعوان الأمن بقتل شباب تونس الثائر، ولعل جبل الشعانبي، مسرح الأحداث الحالية، كان شاهدا على ان القتلة، من رجال الأمن، الذين ذبحوا شهداء تالةوالقصرين كانوا يبيتون لياليهم ايام 8، 9 و 10 جانفي 2011 في الشعانبي نفسه، وهذا بشهداء اغلب سكان القصرين، فهم يعرفون جيّدا قتلتهم. وما بعد الثورة، وخاصة في عهد الراجحي، الذي وافق في حركة غريبة غير متناسقة مع الوضع الراهن بإنشاء نقابات للأمن، بدى رجال الأمن كأنهم القوة الوحيدة التي تتحكم في مصير البلاد، اذا قرروا العودة والعمل يستتب الأمن في اقل من اربع وعشرين ساعة، وفي أغلب الوقت هم يرفضون العمل، ويتركون الوضع رهنا للفوضى وقطاع الطرق، لينشأ مع الوقت لدى المواطن ذاك الإحساس المفرط بوجوب وجود رجال الأمن بين السكان على الفور، مع قناعته التامة بأنهم ليسوا سوى قتلة والقانون لم يطالهم ولم ينل منهم. وبعد ان تكونت النقابات، تغيّر الوضع وأصبحنا امام قوّة ضاربة باتت تتهيكل شيئا فشيئا، ثمّ وجهت سهامها مباشرة في وجه الحكومة الضعيفة أصلا، ولا ننسى ابدا، تلك الحركة الاستعراضية التي قامت بها وحدات التدخل حينما ورد خبر بإمكانية اقالة السيد العجيمي, المسئول الأمني الكبير التي تعلقت به شبهات حول قتل وجرح المواطنين بالقصرين، اذ وفي توقيت واحد، التحق 12 الف عون امن من وحدات التدخل الى ثكناتهم في حركة احتجاجية على هذا القرار. ثم جاءت احداث درناية في بوشبكة القصرين، التي قتل فيها وكيل بالحرس الوطني، ثم اختفى القتلة، وقد طالب انذاك رجال الأمن بإلغاء العمل بالتعليمات، التعليمات التي منعتهم من اطلاق الرصاص على قتلة الوكيل والذين يقفون امامهم مباشرة، والسؤال الخطير الذي طرح انذاك، لماذا نتحدث على اعطاء تعليمات ونحن في مواجهة مباشرة سقط فيها قتيلا؟ وهل هناك متسع من الوقت لكي نطلب الأذن للدفاع عن النفس؟ ان هذا الحديث لا يستقيم إلا في حالة واحدة، أن يكون القتلة من طينتنا ونعرفهم ونريد المحافظة على حياتهم !!. وبعد الأحداث الدامية، التي ذهب ضحيتها شاب في مقتبل العمر، اسمه انيس الجلاصي، خرجت نقابات الأمن لتطالب بالعديد من المطالب, مادية واجتماعية ومهنية، ولكن المطالب الغير معلنة كانت أخطر، فهم يطالبون بإخلاء جميع زملاءهم الذين تمّت ادانتهم في احداث قتل شهداء الثورة، والمطالبة باعادة كل الضباط الكبار الذين استبعدهم وزير الداخلية آنذاك علي العريض، وقاموا بحركات احتجاجية عدّة، منها الهجوم على التأسيسي, ولا ننسى ابدا عندما اعتدوا على وزير الداخلية السيد الراجحي قبل ذلك. ولم تتحقق مطالبهم، ووعدوا على السنة قياداتهم بمواصلة النضال وتحقيق اهدافهم جميعها معلنة وغير معلنة. وتواترت الأحداث، اغتيال شكري بلعيد، حرق زوايا, اعتداءات بالعنف, وكان الفاعل مجهولا, وفشلت وزارة الداخلية في الكشف عن الجناة. ثمّ حلّت كارثة انفجار الألغام في جبل الشعانبي, التي ذهب ضحيتها الكثير من ابناء الوطن، ووجهت الأنظار الى اربعة احداث مهمّة قام بها رجال الأمن. الحدث الأول، الدماء تسيل في الشعانبي والأرجل مقطوعة والأعين مصابة، ورجال الأمن يقتحمون المجلس التأسيسي لفرض مطالبهمم المعلنة، وهي للاستهلاك الأعلامي، والمخفية والتي تمثّل عامود تحركاتهم. الحدث الثاني، ان الألغام لم تصب ألاّ الرتب الدنيا ومنها تلميذ، وكأن الأحداث موجهة للتضحية ببعض هذه الرتب الدنيا، فالمفروض وبعد الانفجار الأول ان تصل الفرق المدرّبة على انتزاع الألغام. الحدث الثالث، الألغام التي انفجرت كانت في نفس المنطقة التي يقع تمشيطها، وفي نفس الأماكن التي تمّ تمشيطها فعلا، وذلك بشهادة بعض رجال الأمن والجيش معا، وهو ما يعني ضرورة بان "الأرهابي" كان على مقربة من مسرح الجريمة او هو في مسرح الأحداث، فلا يعقل ان تكون كل القوات الأمنية والجيش على عين المكان والمجرم يحفر ويزرع الألغام !!! الحدث الرابع، تصدّر بعض رجال الأمن والذين لم يكونوا في مسرح الأحداث للكثير من وسائل الأعلام لتوجيه الرأي العام، بوجود ارهابيون بجبل الشعانبي، وهم سلفيون، وقد اعطوا أوصاف دقيقة للباسهم وطول لحاهم، وكأنهم رأوهم فعلا، ولكن الواقع يقول بان لا احد رأى ارهابي في الجبل، فكل من تمّ اعتقالهم كانوا شبان من الأحياء الشعبية الفقيرة، وتبقى ملابسات اعتقالهم غير واضحة. والحدث الخامس، انه وبعد ان تمّ تسريع تقديم مطالب الأمنيين الى المجلس التأسيسي انقطعت اصوات الألغام ولم ينفجر آخر بعدها، وعاد رجال الأمن لحزمهم المعروف، ودخلوا الأحياء الشعبية واعتقلوا من اعتقلوا وفتشوا كل الأماكن وأرعبوا المجرمين الذين اختفوا كالجرذان. بعد هذا الأفكار، لا يجب ان ننسى او ان نتغافل على توجيه الاتهام الى رجال الأمن على مسؤوليتهم على كل أحداث العنف. فقد صار معلوما بان استتباب الأمن او انفلاته صار امرا مرتبطا بمطالب رجال الأمن، وستتحقق كل مطالبهم سيستتب الأمن في الأيام القادمة. د. محجوب احمد قاهري