ارتفاع عدد قتلى حوادث الطرقات منذ بداية العام الحالي مقارنة بنفس الفترة من عام 2024    المدرب التونسي نصر الدين نابييكتب التاريخ مع كايزر شيفز ويتوج بكأس جنوب إفريقيا    مركز النهوض بالصادرات ينظم يومي 23 و24 جوان القادم لقاءات شراكة افريقية في 5 قطاعات خصوصية    استعدادا لانجاح موسم الاصطياف .. دعوة إلى تنظيم دوريات مشتركة متنقلة للتقليص من حالات الغرق وحماية الأرواح البشرية    جمعية النساء الديمقراطيات ترفض "المبادرات التشريعية التي "تمسّ من مكتسبات المرأة"    عيد الاضحى 2025: وزير الفلاحة يطمئن التونسيين    تطور كبير في صادرات القوارص التونسية    جمعية "آلارت" تقترح مبادلة القمح الصلب لتفادي ضياع المحصول وتدعو إلى إصلاح شامل لقطاع الحبوب    زغوان: تسجيل فائض في التفريخ الطبيعي لخلايا النحل بحوالي 12 ألف خلية جديدة خلال 3 اشهر (رئيس مجمع التنمية لمربي النحل)    قابس: الملتقى العربي للاستثمار السياحي والاقتصادي يختتم فعالياته بجملة من التوصيات    خولة سليماني: "اليوم أشعر أنني حرة أكثر من أي وقت مضى"    غدا.. جلسة عامة بالبرلمان للحوار مع وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية    الأولمبي الباجي ضد الترجي اليوم : التوقيت    عاجل/ تقلبات جوية وأمطار بهذه المناطق بعد الظهر..    وفاة "كروان الإذاعة" عادل يوسف    المسرح الروماني بالجم يحتضن يومي 10 و 11 ماي الجاري النسخة الثامنة من مهرجان " الأيام الرومانية بالجم تيتدروس    القيروان: الدورة الثانية لمسابقة المطالعة بالوسط الريفي    مدينة العلوم بتونس تنظّم يوم الاثنين 26 ماي سهرة فلكية بعنوان السماء الرقمية : علوم البيانات والذكاء الاصطناعي""    مداهمة وكر لصنع مواد مسكرة..وهذه التفاصيل..    النادي الافريقي ينعى المحب ومغني الراب "كافون"..    التوقعات الجوية لهذا اليوم…    نابل: وزير البيئة يؤكد استكمال انجاز مشاريع محطات تطهير وتوفير الاعتمادات لمشاريع حماية الشريط الساحلي    تونس تتوج بذهبية بطولة إفريقيا للفرق في التنس للفتيات دون 14 سنة وتضمن التأهل إلى مونديال التشيك    كلاسيكو ناري اليوم بين برشلونة و ريال مدريد : التوقيت    مواجهات حاسمة في الجولة 29 للرابطة المحترفة الأولى: لقاءات مشوّقة اليوم!    رئيس وزراء باكستان: سيذكر التاريخ كيف أسكتنا الجيش الهندي    اكتشاف أنفاق سرية تحت مبنى الكابيتول الأمريكي (فيديو)    "بلومبيرغ" : ترامب يهمّش مجلس الأمن القومي    حالة الطقس ليوم الاحد    بوتين يقترح محادثات مباشرة مع أوكرانيا في إسطنبول    الجمهور بصوت واحد: النجم فخر الانتماء    النجم يحتفل بالمائوية: مسيرة حافلة بالتتويجات والانجازات    فرع كرة اليد بالنجم السّاحلي: سواعد «ليتوال» حصدت الألقاب وعانقت العالمية    في تظاهرة هي الأولى من نوعها في ولاية سوسة: «حروفية الخط العربي»من أجل تربية فنية وتعزيز الهوية    القيروان تحتلّ المرتبة الأولى وطنيا في إنتاج الحبوب المرويّة    وداعا كافون    المرض الذي عانى منه ''كافون''    تونس: هذه استعدادات وزارة النقل لضمان نجاح الموسم الصيفي    مغني الراب "كافون" في ذمة الله    وفاة مغني الراب التونسي "كافون" بعد صراع مع المرض    عاجل : أحمد العبيدي '' كافون'' في ذمة الله    مغني الراب احمد العبيدي المعروف ب"كافون" في ذمة الله    القصرين: أكثر من 1400 تلميذ ينتفعون بخدمات قوافل طبية حول صحة الفم والأسنان    المهدية: فتح بحث تحقيقي في شبهة سرقة تجهيزات بمستشفى الطاهر صفر    اختصاصي أمراض القلب: قلة الحركة تمثل خطراً صحياً يعادل التدخين    إصلاحات ثورية لتحسين خدمات تصفية الدم: نصوص قانونية و هذه التفاصيل    جنيف: بكين وواشنطن على طاولة الحوار    المهدية: إيقاف 3 أعوان بمستشفى الطاهر صفر بشبهة السرقة    مصر: جريمة مدفونة منذ 8 سنوات.. طفلة تفضح والدتها وتكشف مقتل والدها    الولايات المتحدة تعرض الوساطة بين الهند وباكستان..#خبر_عاجل    باكستان تغلق مجالها الجوي بعد تصعيد عسكري مع الهند    سيدي بوزيد: قطع مؤقت ليومين للكهرباء بهذه المناطق    طقس اليوم: أمطار متفرقة والحرارة في ارتفاع طفيف    معهد البحوث الفلكية في مصر.. لا نتدخل في تحديد توقيت عيد الأضحى والأمر متروك للسعودية    الحكومة الألمانية الجديدة تواجه إرثاً من الصعوبات الاقتصادية    مجلس نواب الشعب ينعى الفقيد النائب نبيه ثابت    ملف الأسبوع: مهلكة عظيمة: لا تتتبعوا عوراتِ المسلمينَ... عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ    منبر الجمعة: واعرباه. وا إسلاماه. هل من مجيب؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصير الشِّعر النبطي! أ.د/عبدالله بن أحمد الفَيْفي
نشر في الفجر نيوز يوم 21 - 06 - 2013


أ.د/عبدالله بن أحمد الفَيْفي
راوح الناس في تسمياتهم الشِّعر اللَّهَجي بين نعته ب«العامّي»، و«الشعبي»، وربما «المحكي»، ودار الجدل حول أيّها أصحّ وأصوب. ولعلّ أدقّ اصطلاحٍ اليوم هو أن يُطلَق عليه: «الشِّعر اللَّهَجي»، أو «اللهجوي». إذ لا هو بالشعبي، بما تعنيه الكلمة، ولم يعُد عامِّيًّا، بما تحمله الكلمة من دلالة ثقافيَّة، ولم يعُد كذلك محكيًّا، بالمعنى التاريخاني أو الشفاهي، وإنْ ورث بعض تلك الخصائص، التي يشاركه فيها الفصيح. وإنما هو في زماننا شِعر لهجةٍ ما، يفهمها من يفهمها ويجهلها سائر العرب.
وكما كان عدم بروز الشِّعر اللهجي على الشِّعر الفصيح في بعض أقطار الوطن العربي بسبب حظر نشر اللهجات في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، فقد ساد طوفان اللهجة وسائل الإعلام المكتوبة والمرئيّة والمسموعة في أقطار أخرى، ولاسيما بلدان الخليج «العربي»، وطغت مساحة الشِّعر اللَّهَجي- الذي كان الطبيعي أن يبقَى شفاهيًّا لا مكتوبًا- على مساحة الشِّعر الفصيح في الإعلام الثقافي. ثم ها نحن اليوم لا نكتفي بارتدادنا عن الثقافة الكتابيَّة إلى الثقافة الشفاهيَّة، وعن الثقافة العالِمة إلى الثقافة الجاهلة العامِّيَّة، ولا بكتابة الأدب اللَّهَجي، بل أصبحنا وأصبحت اللهجات تُدخل في برمجيّات الحاسب الآلي العالميَّة، كما ذكرنا في مقال سالف(1)، بل راحت تُصنع بها الموسوعات المعرفيَّة على «الإنترنت»!
نعم هي ثقافة: أنت تبني وأنا سأهدم، فما يبنيه التعليم يهدمه الإعلام، وما قد يرمِّمه الإعلام يهدُّه الحاسوب، وهكذا دواليك، لتستحيل ثقافتنا العربيَّة إلى أطلال وخرائب، نبكي عليها صبحًا وعشيًّا، ونذرف دموع صالح بن عبدالقدوس:
رَأَيتُ صَغيرَ الأمرِ تَنمي شُؤونُهُ ** فَيَكبُرُ حَتَّى لا يُحدّ وَيَعظُمُ
وَإِنّ عَناءً أَنْ تُفَهِّمَ جاهِلًا ** فَيَحسَبُ جَهلًا أَنَّهُ مِنكَ أفْهَمُ
متى يبلغ البنيانُ يومًا تمامَهُ ** إذا كنتَ تبنيهِ وغيركَ يَهْدِمُ؟!
ربما سأل سائل عن: مصير الشِّعر النبطي في أيامنا هذه؟ هل علينا نسيانه؟ هل هو فاقد للإبداع والجمال؟ ومَن له الحق في دراسته، إنْ كان جديرًا بذلك؟...
وهي أسئلة نمطيَّة (نبطيَّة)، لا تُملّ، وإنْ كانت بلا معنى! فالحق أن ليس من السهولة نسيان الشِّعر النبطي، أو غير النبطي، وليس من الضروري نسيانه، لكن ما كنّا نتمنَّى هو أن يظلّ نبطيًّا- كما كان- وفي حجمه الطبيعي، شِعرًا شفهيًّا، لا مكتوبًا، وأن لا يحتلّ صدارة الثقافة والإعلام ومسرح اللغة والأدب. ولقد رَدَّدْتُ مرارًا: إنّ علينا- إنْ كنّا جادِّين لا عابثين- عدم الخلط بين الاحتفاء غير البريء بالعامِّيَّة، وبصورة تشي بأهداف غير رشيدة، ولا حريصة على اللغة العربيّة، ومستقبل أبنائها، وبين التعامل مع هذا الأدب في إطاره الطبيعي وحدوده المناسبة، ودراسته أكاديميًّا، والإفادة منه علميًّا، بما يخدم اللغة والثقافة والفنون والآداب والوحدة العربيَّة. إذ من الحماقة إهماله إهمالًا، ومن السفاهة النفخ فيه، وتكريسه، بكلّ بلاياه اللغويَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة، في أجيالنا. وممّا أضرّ بثقافتنا، بصفة عامّة، مثل هذا الانشعاب بين إفراط وتفريط.
لا ريب- عندي على الأقل- أن من الإفراط ما أُولي هذا الشِّعر في السنين الأخيرة من احتفاءٍ دَعَوِيٍّ شَعْبَوِيٍّ، لا عِلْميّ، باستثناء جهود محدودة، توظَّف ذاتُها للدعاية والإعلام بهدف تثبيت الأطناب للنبطيَّة والعامِّيَّة بعامَّة، وبخاصَّة في دول الخليج العربي. أي في البلدان التي كان يُفترض أن تكون أكثر بلدان العرب نأيًا بنفسها عن هذه الهاوية، بوصفها أصل العروبة ومعدن العربيَّة. ومع هذا فإنها تبدو- للأسف- أكثر الأقطار سقوطًا في آبار التغريب من جانب، وتضييع العربية بالعاميّات من جانب آخر. وفي الوقت نفسه هي أبعدها احتفاء باللغة العربيَّة، وأضعفها اهتمامًا بها في مناهجها التعليميَّة، حتى بات أبناء الجزيرة والخليج- ويا للمفارقة!- من أضعف خلق الله عربيَّة وأكثرهم عُجمة وأركِّهم تعبيرًا. والأسباب واضحة! كما أن هذه البلدان هي أنأى البلدان اليوم- عربيَّة وأعجميّة- عن إنشاء أيّ مؤسسة جادّة وشاملة لخدمة العربية وحمايتها وتأصيلها. وليس من فراغ، وفق هذا السياق، أن لا ينشأ في هذه البُقعة الجغرافيَّة مجمعٌ واحدٌ للغة العربيَّة عبر تاريخها الحديث كلّه! وكأن لا أمل في إنشائه، لمماحكات فارغة وتعلّات غير مقنعة، حتى لأصحابها. ظلَّت تُنشأ مجامع اللغة في كل أقطار العروبة- كما أنشئ مجمع للغة العبرية لدى أبناء العبرية- وبلداننا تتكفَّف الكلمات، ولا تنهض بدورها التاريخي كما كان يُفترض فيها. أمّا قلب خارطة التراث ليصبح هو التراث العامِّي، فنِحلة مستحدثة، مردُّها إلى الهوى، وحُبّ الماضي القريب، والأهل، والقبيلة، وما دَرَج عليه الناس وتشرّبوه في بيئاتهم المحليَّة المتخلفة حضاريًّا. ذلك الهوى الغلَّاب على كل عقلٍ وهُدَى، الذي طالما أودى بالعرب إلى التيه والمهالك بين أطلال الخرائب والرسوم. وصدق الله في العرب الأجداد والأحفاد: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ومَا تَهْوَى الْأَنفُسُ، ولَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ»!
وإذا كان التغيُّر سنّة كونيّة في كلّ شيء، بما في ذلك اللغات- وهو كذلك حقًّا- فعلام تسعى الشعوب الحيَّة إلى حماية لغاتها من عوامل التغيُّر والانحلال، وإلى تثبيت قواعدها ما استطاعت إلى ذاك سبيلًا، كما نعلم من شأن الإنجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة، ومحاصرة عوامل التغيُّر فيها، أو التصدُّع في بنياتها، إلى أضيق الحدود، وملاحقة ظواهر ذلك بالفرز والدرس والمعجمة، للتنبيه إليه أو الإفادة من الصالح منه، مع حمل الناس حملًا على سلامة اللغة، والمحافظة على نماذجها العُليا، والاعتزاز بها، نقيَّةً من الشوائب وملوِّثات اللغات الأخرى، وعدم التفريط في أصولها وقواعدها وخصائصها، وذلك عبر التعليم والثقافة والإعلام، مع ربط ذلك كلِّه بالغيرة على الهُويّة والقوميّة، إنجليزيَّة كانت أو فرنسيَّة أو جرمانيَّة؟ مع العلم أن لا وجه لمقارنة (الشتات القائم بين اللهجات العربيَّة من جهة واللغة الفصحى من جهة أخرى) بما في تلك اللغات من دوارج. يدلّ على هذا أن استطلاع انطباعات الناس حول مسابقة «أمير الشعراء»، على سبيل المثال، تكشف عن أن اللغة العربية باتت لغة أجنبيَّة في العالم العربي. بل هي أبعد بكثير عن أن تكون لدى العرب في مستوى التواصل مع لغة أجنبيَّة، كالإنجليزيَّة في المشرق، أو الفرنسيّة في المغرب. وهذا لدى أوساط المتعلِّمين، لا لدى الأميِّين فقط. في حين أن الفارق بين لغة التخاطب اليومي في الغرب واللغة المكتوبة- بما في ذلك لغة الأدب- ليس بتلك الدرجة من البَون.
أجل، إن الاختلاف بين التهتُّكات العامّيّة والعربيّة الفصحى مريعة وقديمة؛ ذلك أن العربية في أصلها لغة قبائل متفرِّقة، لا لغة مجتمع مديني موحَّد. إنها لغات قبائل، ليس بينها إلَّا شَفرات السيوف والرماح والسهام والنهب والسلب والسبي والأَسْر. وتاليًا ليس بين لهجاتها إلّا نظير ذلك من الاختلاف والفُرقة والتضاد. وقد ورث العرب ذلك حتى في فصحاهم نفسها. ثم كتب الله عليهم من الخذلان أن ظلَّت قبائلهم في تنافرها وتناحرها وانحطاطها، من نحو ما كانت عليه قبل الإسلام، بل ربما أكثر من ذلك وأكبر، وإنْ أصبحت قبائلهم أقطارًا. فلمَّا جاء عَبَدَة الماضي من الأجيال المحدثة، لم يستطيعوا إلّا التبتُّل في محاريب ماضيهم، كما كان يفعل أجدادهم الوثنيُّون، آخذين سلفيَّاتهم بعجرها وبجرها. وهو عجر وبجر يتخطَّى مسائل اللغة إلى تشوّهات شتَّى، فكريّة واجتماعيّة وعقديّة، في خطاب يسعى إلى تنمية الفهاهة، وتربية السذاجة، وتسخير التقنية في خدمة السماجة المستدامة. وقبليّات اليوم، التي تمثِّل حواضن اللهجات، هي قبليَّات الأمس، أو أشد بؤسًا وانغلاقًا وتعصُّبًا وتقليديَّة. وما الأقطار العربيّة اليوم إلّا قبائل في تشكيلات إشكالية جديدة. بل لقد كان بين قبائل العرب قبل الإسلام من التواصل والتحالف والتعاون والروابط الاقتصاديّة والثقافيّة والأدبيّة واللغويّة- ولاسيما من خلال أسواق العرب ومواسمها- ما عَزَّ نظيره بين أقطار العرب اليوم!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.