اخيرا.. وجدت العربية من ينتصر لها. لابداء التعجب والاستغراب يقال في العادة: سبحان الله يجعل سره في اضعف خلقه. وفي حالتنا هذه ينطبق المثل على موضوع حديثنا في هذا المقال. ففي ظل تفاقم الاعتماد على اللهجات العامية في التواصل في جميع البلدان العربية بدون استثناء، فقد انحسر استعمال العربية الفصحى الى النشرات الاخبارية والمناسبات الرسمية. بل الادهى من ذلك ان من تجرأ على التحدث بالفصحى خارج المجال الاكاديمي يصبح محلا للسخرية والتندر من طرف البقية الا من رحم ربك. ويبدو انه لاحل لهذه المعضلة، على الاقل في المدى المنظور، على الاقل من طرف من يهمهم الامر. بل ان هناك من يحد شفرته متوعدا بجعل لهجة بلاده في صدارة اللهجات العربية. لكن يبدو ان الله قيض لهذه اللغة الجميلة ان تنبعث من جديد لتغادر مجال المناسباتية الى مجال اللغة المحكية والرسمية في ان واحد. من كان يتصور ان ماعجزت عنه كل القنوات الرسمية يمكن ان تحققه قناة مثل قناة البراعم للاطفال. ومرة اخرى تحرز شبكة قنوات الجزيرة قصب السبق في مجال منسي من الجميع وتبين بالكاشف بعد نظر القائمين عليها. ويبدو ان من يقف منافحا هذه المرة لرد الاعتبار لهذه اللغة الجميلة هم اطفالنا الصغار. وبالاحرى هم البراعم من لا تتجاوز اعمارهم الثلاث سنوات. هذا الكلام ليس من قبيل التنظير ولا التمني ولكنه الواقع الذي يبعث على الامل والحلم. كانت مفاجأة سارة ان اكتشف ان ابني التوأم بدا بالتكلم بالفصحى وهما في هذه السن المبكرة. في البداية كنت احسبها خصلة خاصة بابني لكن تبين لي بسؤالي، سواء هنا في ايطاليا او في تونس، ان الامر عام وان كل الاطفال الذين يتابعون قناة البراعم للاطفال يتكلمون الفصحى وان بنسب متفاوتة. وهاانا ساورد بعض الامثلة مما يتحدث به ابني يوميا: " اريدها حقا، بردانة فعلا، لاتعجبني ابدا انها مقززة، تعجبك تماما، اقول لك سر ساهديك زهرة حلوة بديعة، هذا ليس عدلا، عندي حل، اعطني دميتي ثم اخرجي، البسيني فستان الاميرة وبعد ذلك امشي، يالجمالها، مااجمل رائحتها، انها لذيذة حقا، السرير واسع لنا جميعا، انا ولد طيب/ خارق، اعطني بيضة/جزرة/برتقالة، اعطني المزيد من العصير، وانا ايضا، وانا كذلك، اركبيني، اعطني الزيتونة، هل نسيت ذلك، امي احبك كل الحب، دعيني لا تضربيني، لقد اختفى الضوء، ارجوك ماما، ماما حبيبتي اعطني خبزا، كدت اختنق، بيضاء مثل السكر سمراء مثل العسل، انت سريعة مثل الارنب، هل تحب المساعدة، حسنا، هي ارنب رسامة، انا اسر منك، انه يدغدغ، وصلنا، دائما تنسين اشياء ... ". هذا الكلام وغيره كثير هو المتداول على لسان ابني. وهو امر قد يجعلنا نستنتج بسهولة ان عودة العربية الفصحى الى الواجهة كلغة محكية امر ممكن. اعرف ان هذا الامر سيغضب الكثيرين من الذين يعتقدون بنهاية هذه اللغة ودخولها طي النسيان وكنت اود ان لا اخيب ظنهم. لكن العتب على هؤلاء البراعم الذين ابوا الا خلط الاوراق من جديد وبعث الروح في هذه "الجثة المحنطة" على حد تعبير رفيق روحانة في برنامج الاتجاه المعاكس. وقد تكلم الاستاذ روحانة بلسان شريحة كبيرة نسبيا من المثقفين العرب الذين لهذا السبب او ذاك اصبحوا يعتقدون باستحالة عودة اللغة العربية كلغة علم وثقافة. وقد يعتقد انه لكي تتبوأ العربية مكانتها من جديد يكفي رعاية هؤلاء اللبراعم حتى يواصلوا على هذا المنهج فينشأ جيل يتكلم العربية منذ الصغر، حتى اذا توالت الاجيال حلت المشكلة نهائيا. وهذا كلام جميل ومريح للكثيرين لكنه ليس صحيحا تماما. لان هؤلاء البراعم ماان يكبروا قليلا وتقل مشاهدتهم لبرامج هذه القناة ويندمجوا شيئا فشيئا في الحياة العامة حتى يقل اعتمادهم على الفصحى ويلتجئوا الى اللهجات المحكية لبلدانهم. فكيف العمل للحفاظ على هذا الانجاز والاضافة اليه بحيث تنبعث الروح في هذه الجثة الممحنطة؟ لاشك انها مفاجأة سارة تلك التي اتحفتنا بها قناة البراعم وذلك سواء أكان القائمون عليها يرجون هذه النتيجة ام لا. لكن هذه الخطوة لوحدها غير كافية. فلايمكن الاعتماد فقط على مااتت به الصدفة لوحدها بل لابد من الاضافة اليه من تخطيطنا حتى نتحكم بهذه الطريقة في مصيرنا ولا نترك الاحداث تجرنا بدون هدف محدد سلفا. لنبدأ بأصعب الحلول واقربها الى الاستحالة وهو ان تعم حالة من الوعي الحاد جموع الجماهير العربية وتقرر الحديث بالعربية الفصحي. في هذه الحالة تكون المسألة قد حلت وعادت العربية الى سالف نشاطها ومكانتها التي تستحق. اما الحل الاكثر واقعية فهو ان تتبنى جهة ما القضية وتدافع عنها. نعني بالجهة هنا احد الاحزاب العربية الموجودة في السلطة والتي تتخذ قرار اعادة الاعتبار لهذه اللغة. يتمثل هذا الاجراء في فتح حوار جاد داخل اطر الحزب تشارك فيه القواعد بكل جدية لتتخذ قرارها الطوعي في الاخير بالتكلم وعائلاتها عربية فصحى في كل مناحي الحياة. ثم يأتي القرار من اعلى هرم السلطة ليلزم كل الموظفين سواء العاملين في القطاع العام او الخاص للتكلم بالعربية الفصحى في العمل. وكل مخالف يتعرض لعقوبات قد تصل الى الفصل من الوظيفة. بعد هذه العملية سيصبح لدينا شرائح واسعة من المجتمع تتحدث بالعربية في انتظار الانخراط الطوعي للبقية في هذا المشروع بعد ان يروا ثباته ونجاحه. لكن المشكل ان الانخراط في هذا المشروع من طرف عامة الناس يجب ان يكون طوعيا وباختيارهم والا فلن ينجح البتة. غير ان الانظمة الموجودة الان في اعلى هرم السلطة في العالم العربي غير شرعية وايمانها بالحوار يكاد يكون منعدما وبالتالي من المستبعد ان تخوض في مثل هذا المشروع وحتى ان مشت فيه فان نسبة استجابة القواعد له ستكون ضعيفة او منعدمة. اما ان فرضته بالقوة فان هذه قادرة على التملص من هذا القرار كما تملصت من غيره كثير لتبيقى الامور تراوح مكانها وكأن شيئا لم يكن. في انتظار ان تتحقق هذه المشاريع/ الاماني فاني ساواصل الاستمتاع بما يتحفني به ابناي من روائع لغة الضاد بلكنتهما وبنطقهما المحرف لبعض الكلمات ومواصلة التندر بها مع امهما او مع الاصحاب.