أعلن محمد اليازغي، يوم 12 يناير في الرباط أنه لن يترشح لمنصب الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مؤكدا اعتزامه الإقتصار على العمل كعضو في المجلس الوطني. وفيما قرر المجلس الوطني للحزب، عقد دورة أخرى يوم 26 يناير الجاري، للنظر في القضايا المتعلقة بالمؤتمر الوطني القادم، لا زال الجدل قائما في المغرب حول أسباب تراجع حضور اليسار بكافة تلويناته على الساحة السياسية والفكرية.
أثارت ندوة نظمت يوم الخميس 10 يناير بالرباط حول أزمة اليسار المغربي أسئلة كثيرة تمحورت حول الشأن اليومي في ممارسات هذا اليسار الذي تعثر في الانتخابات التشريعية الأخيرة ودفع باهظا ثمن عدم وقوفه خلال السنوات الماضية على التدهور الذي اصاب رصيده السياسي والاجتماعي.
الندوة التي نظمتها مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد للعلوم والثقافة أجمع خلالها المشاركون الذين مثلوا أطياف اليسار المغربي، على اعتبار ما وقع في انتخابات 7 سبتمبر 2007، من حيث عزوف الناخبين عن المشاركة، مساءلة قاسية للطبقة السياسية بكافة مكوناتها تعكس في العمق عدم رضاهم عن الممارسة السياسية بالمغرب وحافزا للتساؤل حول آفاق وصيغة المشروع الديمقراطي المغربي.
لكنه كان أيضا عقوبة لليسار المغربي الذي شعُر بأنه خيب الآمال التي عقدها عليه المواطن المغربي ولام ابتعاده عنه وعن قضاياه ليتركه وأبنائه إما فريسة الفقر والقهر أو للمتشددين يعيدون صياغته لدفعه نحو ما يظنون أنه طريق الخلاص.
أسئلة كثيرة...
كان المطلوب من المشاركين بالندوة حسب الورقة التقديمية الاجابة على أسئلة كثيرة مثل: ماذا وقع في سبتمبر 2007؟ هل اليسار في وضعية تراجع في المسار السياسي؟ كيف يمكن استجلاء وتوضيح دلالات الاحداث التي أفرزتها الحياة السياسية؟ ما هي المخاطر التي تحوم حول مصداقية المشروع الديمقراطي؟ هل يمكن تصور مشروع لدمقرطة المؤسسة السياسية مع تهميش دور الاحزاب؟ وهل يمكن للمشروع الديمقراطي أن يستمد حيويته فقط من تواجد قوى مضادة ضمن المجتمع المدني وعلى هامش الحقل المؤسساتي، في اتجاه تهميش وتقليص النظام التمثيلي ثم إلغائه؟
كما طرحت أسئلة أخرى على المشاركين من قبيل: ألا يشكل الدفع نحو بناء نظام تمثيلي حقيقي وشفاف، الركن الضامن والاساسي لتطور وترسيخ الديمقراطية في المستقبل وتأمين الاستقرار السياسي للبلاد ككل؟ ما هي المخاطر التي يحملها هذا التطور في ثناياه، في المدى القريب والمتوسط؟
بالمقابل، وبالنظر الى جسامة الرهانات المجتمعية، ما هي المبادرات التي ينبغي لقوى التقدم أن تأخذ بها لمراجعة ذاتها بغية إعادة بناء مصداقية جديدة للعمل السياسي الديمقراطي وإثبات نجاعته لدى الرأي العام؟ وهل يمكن اعتبار التأمل الجماعي في اقتراع سبتمبر 2007 عنوانا لمرحلة جديدة تبتدئ بتشخيص معمق ومشترك يمهد إلى بلورة نقط التقارب في أفق تعزيز مكانة قوى التقدم ورسم قواسم العمل المشترك بينها من أجل دمقرطة فعلية للدولة والمجتمع؟
.. وإجابات متعددة
الاجابات على هذه التساؤلات كانت شبه موحدة وإن كانت التباينات في إشارة كل طرف إلى الآخر بالغمز وتحميل كل طرف للآخر الجزء الأكبر من المسؤولية التي وصل اليها اليسار المغربي.
فالاحزاب المشاركة بالحكومة منذ 1998 حملت، بالاضافة إلى أوضاعها الذاتية، الأطراف اليسارية الأخرى مسؤولية التشتت التي أصيبت بها قوى اليسار وأدت إلى خسارتها جميعا دون أن يستفيد أي من أطرافها. وذهبت إلى أن الحل كان أيضا موحدا ويتمثل في وحدة اليسار المغربي من أجل ضمان انتقال ديمقراطي حقيقي لبناء مجتمع ديمقراطي حداثي.
إلا ان ما لفت الإنتباه في مداخلات كل المشاركين الحديث عن ظاهرة تغييب دور اليسار في الاقتراح والتساؤل طوال العقد الماضي الذي اتسم بمشاركة أهم قواه السياسية في تدبير الشأن العام، فالمشاركون في الحكومة كانوا يتحاشون طرح الاسئلة أما القابعون خارج الحكومة فقد تركز اهتمامهم على تبيان سلبية تدبير رفاقهم للشأن العام والتأكيد على هامشية المشاركة والدور المركزي للقصر الملكي في تدبير الشأن العام.
لقد كان العمل السياسي اليومي هو الشاغل للفاعل اليساري المغربي، فتماهى المثقف مع رجل الادارة، إن كان من خلال استيعاب الادارة للعشرات من المثقفين في دواليبها أو في دواوين الوزراء أو المؤسسات العمومية، أو من خلال الابتعاد عن الشأن العام احتجاجا أو استنكافا.
ونظرا لأن المثقف - حسب ما هو متعارف عليه - شخص حالم بواقع أفضل وأجمل، فإن حلمه عادة ما يتحول إلى أسئلة ناقدة يبلورها في أطروحة فكرية أو رواية أو قصيدة أو فيلم سينمائي، فإنه في المغرب مغيب منذ أكثر من عشر سنوات، حيث لم يصدر طيلة الفترة الماضية كتاب فكري صادم ولا رواية مثيرة للنقاش ولا ديوان شعر يحمل الاسئلة.
ملاحظات غائبة
وحين ناقش الفاعلون اليساريون في ندوة أزمة اليسار، الأسباب الكامنة وراء أزمتهم وتخلي المواطنين عنهم، لم يتطرقوا إلى الغياب الفعلي لمثقفي أحزابهم أو طيفهم السياسي الأوسع عن الفعل الفكري والثقافي والابداعي، ولم يلحظ أي منهم ان المغرب وخلال العقد الماضي ليس فقط لم يكن فضاء لمفكرين ومبدعين من أمثال عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري بل أيضا أن أمثال هؤلاء غيبوا أنفسهم عن الفضاء المغربي.
يجدر القول أن مطارحة الافكار والابداع لم تكن غائبة عن فضاء اليسار المغربي بل أيضا عن فضاء التيارات الاصولية الاسلامية ذات الحمولة الايديولوجية المتصادمة مع أفكار وإبداع اليسار. بل إن المعارك التي دارت بين الطرفين خلال العقد الماضي كانت ذات طابع سياسي واتسمت في كثير من الاحيان بالسياسوية.
وقد يكون للأجواء السياسية والأزمات الاجتماعية والإقتصادية وضغوطاتها دور في التظليل على الفكر وطرح الاسئلة، ليس فقط في المغرب بل في العالم باسره. فالعقد الماضي كان عقد استفحال أزمة البطالة والفقر والجوع والإسراع بالدفع بالتنمية ومشاريعها خوفا من الانفجار.
وكان أيضا عقد الارهاب ومكافحته، وقد كان للمغرب نصيب من هذا الارهاب، سواء كان من الصنف المخطط له دون ان ينفذ أو كان تفجيرات وهجمات انتحارية أودت بالعشرات.
النخبة السياسية المغربية انقسمت بين متهم (بفتح الهاء) ومتهم (بكسر الهاء) والمثقفون طارحوا الاسئلة (فكرا وابداعا) ووجدوا انفسهم في خضم وفي معمعان هذه المعركة. فأما من دخل في المعركة، فكان مدافعا أو مهاجما، وأما من وجد أن المعركة ليست معركته فقد التجأ الى معبده يفكر ويكتب ويتحاشى النشر أو التعبير، لان صليل السيوف كان لا يسمح بالحياد أو للعقل ان يهيمن: "فإما أن تكون مع أو ضد"، وفي الحالتين عليك ان تحمل السيف لا القلم وان تشحذ الهمم لا أن تنير العقول.