عند استعراض ما ينشره الباحثون التونسيون من أعمال علمية وفكرية في السنوات الأخيرة تشدّك عناية غالبيتهم بقضية أصبحت مركزية لديهم هي: الإسلام، حضارة وفكراً وعقيدة. قد يبدو هذا الأمر طارئاً لمن لا يتابع التاريخ العلمي والثقافي للبلاد التونسية منذ عهود، خاصة لدى من ظن أن الهمّ المعرفي ليست له جذور ممتدة في المنطقة المغاربية. ذلك ما عمل على التنبيه إليه أحد علماء تونس، الشيخ المختار بن محمود سنة 1937 في المجلة الزيتونية، في مقال بحث فيه هذا الخلل القديم عنونه ب «اهتمام تونس بكل ما يقع في الشرق وجهل الشرق بكل ما يقع في تونس». في الاتجاه ذاته حدد المصلح المغربي علال الفاسي طبيعة ولاء المغرب للعروبة حين كتب: «إنّ المغرب العربي رغم ارتضائه للإسلام ديناً والعروبة لغة، ظلّ معتدّاً بوجوده الخاص ناشداً مكانه تحت شمس العروبة غير راضٍ أن يكون في مؤخرة القافلة العربيّة أو بعيداً عن مركز القيادة فيها». لهذا فإن ما يظهر من تآليف علمية هذه الأيام لباحثين مغاربة معاصرين ينبغي أن يوضع أولاً ضمن هذه السُنَّة الثقافية التي ظلت حية، والتي وإن خَفَتَ أثرها فترة، فإنها تبدو اليوم مبوأة للفعل بصورة أوضح. حين ينشر محمد عابد الجابري مثلا كتابيه: «مدخل إلى القرآن الكريم» و «فهم القرآن الحكيم» فإنّه يكون بذلك مجسّداً لفاعلية تلك الشخصية الحضارية التي نبّه إليها الفاسي وابن محمود. كذلك فإن ما يقوم على إنجازه حاليا المفكر التونسي أبويعرب المرزوقي من معالجة فلسفية متميزة لمجال الدراسات القرآنية سعياً لتحديد «استراتيجية القرآن التوحيدية»، هو الآخر استمرار للسُنّة ذاتها المبدعة. تلك السنّة التي رسّخ صرحها علماء من أشهرهم في هذا القطر صاحب «التحرير والتنوير» و «مقاصد الشريعة الإسلامية»، محمد الطاهر بن عاشور. لذا كان لزاماً أن نسأل: ما هي مشاغل تونس العالِمة اليوم بعد أن تحررت من عقدة تحكّمت لفترة من الزمن كانت تعتبر أن التفكير والتأليف الجادّين لا يمكن أن يكونا بالعربية؟ اختار عبدالوهاب بوحديبة، أحد أبرز الباحثين التونسيين في علم الاجتماع الديني ورئيس بيت الحكمة، في كتابه «الإنسان في الإسلام» الصادر سنة 2007 معالجة قضية عقدية أساسية هي خلافة الإنسان كما عرضها القرآن الكريم لكن بعدّة معرفية حديثة، هي علم الإناسة (الأنثروبولوجيا). قبل ذلك بسنة أصدر المؤرخ والمفكر هشام جعيط كتاب «الفتنة الكبرى» ترجم به مؤلَّفه الشهير الصادر بالفرنسية سنة 1989. هذا الكتاب الجديد تدعيمٌ لرفض المؤرخ مقولتي موت الثقافة الكلاسيكية والقطع مع الإسلام التاريخي. ذلك كان أيضاً أحد أبرز مقاصد جعيط في أحدث ما نشر عن «تاريخيّة الدعوة المحمدية في مكة» سنة 2006 بعد كتابه «أزمة الثقافة الإسلامية» سنة 2001 وقبله «الوحي والقرآن والنبوّة»، وهي أعمال يجمعها خيار واحد: نحن أحق الناس بدراسة حضارتنا. في المجال ذاته لكن بتوجّه مختلف نشر محمد الشريف الفرجاني، الباحث المختص في الفكر السياسي سنة 2008 كتاب «السياسي والديني في المجال الإسلامي» قدّم فيه قراءة نقدية للطروحات المختلفة المتعلّقة بطبيعة الدولة في الإسلام بقصد التوصل إلى بنية النظريات السياسية التي أطّرت مواقف المسلمين وفكرهم عبر التاريخ. إلى جانب هؤلاء نشرت باحثات معروفات أعمالاً تلتقي في الحرص على إعادة العلاقة التاريخية والفكرية والاجتماعية بالإسلام بقراءة نقدية، لكن من زوايا مختلفة وبأدوات متباينة. من ذلك ما أصدرته سنة 2008 الجامعية ألفت يوسف في كتابين أولهما «ناقصات عقل ودين» والثاني «حيرة مسلمة» تناولت فيهما قضايا اعتبرتها من «المسكوت عنه» الذي يحيّرها مع عدد من المسلمين والمسلمات. هي ترى أن تلك الحيرة ليست ذات منحى سلبي لذلك فهي لا تتهيّب من إثارة القضايا الشائكة. غايتها تجاوز حالة التمزق بين «ما في القرآن والسنة من انفتاح وإمكانات تأويلية متعددة من جهة، وما يقدمه التفسير الفقهي قديما وحديثا من قراءات منغلقة». سعيُ آمال موسى في «بورقيبة والمسألة الدينية»، الصادر سنة 2006 كان مناقشة مقولة علمانية مؤسس الجمهورية التونسية، بالكشف عن سمات التوتر والتواصل بين النسق الديني والنسق السياسي في خطابه. هي في ذلك لا تختلف عن عمل الكاتب والصحافي لطفي حجي مؤلف «بورقيبة والإسلام: الإمامة والزعامة» من حيث الاهتمام بأثر الإسلام في حركات التحرر الوطني في البلاد المغاربية خصوصاً. غير أن حرص الشاعرة والصحافية في تحليلها للتمشي التحديثي لبورقيبة انتهى إلى أن الأولوية عنده كانت تجاوزَ الهياكل التقليدية للمجتمع التونسي قصد إرساء بنى معرفية حديثة، وأن ذلك كان العامل الأهم من أي ولاء لأيديولوجية معادية للإسلام لديه. أمّا لطيفة الأخضر، أستاذة التاريخ في الجامعة التونسية والمناضلة التقدمية ومؤلفة «الإسلام الطرقي» فإنها تعتبر أن إقصاء الفكر الديني من المجتمعات الإسلامية المعاصرة ليس إلا «تعبيراً عن عقل يساري، أظهر عجزه في فهم العلاقة بين الكوني والمحلي». ما يميز كتابها الجديد «امرأة الإجماع» الصادر سنة 2003 هو اندراجه فيما يعرف بحفريات المعرفة التي تقيم ربطاً وثيقاً بين المواقف الاجتماعية الحضارية كمسألة المرأة وبين الجذور المعرفية التي تمدّ تلك المواقف بطاقة لا تنفد من الفعل والتأثير. أطروحة «امرأة الإجماع» تبين أن أخطر أنواع الظلم في علاقة الجنسين في التاريخ الإسلامي يحتاج إلى مواجهة ناجعة بالكشف عن جذوره الفكرية وعن القواعد والآليات التي يعتمدها داخل البناء المعرفي الخاص. إلى جانب هؤلاء تنبغي الإشارة إلى أعمال عبدالمجيد الشرفي ومحمد الطالبي. كان للأوّل كتابان، أحدهما «في الشأن الديني: دراسات في الأديان المقارنة» صادر سنة 2005 (بمعية الطالبي والنيفر والحداد والسعفي) بينما الثاني منشور بالفرنسية سنة 2008 بعنوان «الفكر الإسلامي، القطيعة والوفاء»، حدّد به ما كان شرع فيه من قبل خاصة في «الإسلام بين الرسالة والتاريخ» من ضرورة تحديث الفكر العربي الإسلامي باستعمال مناهج بحثية حديثة. أما المؤرخ والمفكر محمد الطالبي فمن أحدث إصداراته كتابه: «ليطمئن قلبي» الصادر سنة 2007 أثار به جدلاً واسعاً لما تناوله من مسائل الإيمان والمعاصَرة، ولمواقفه التي اعتبرها البعض «تكفيرية» لرموز التحديث التونسي والمغاربي، هذا فضلاً عن مواقفه من الكنيسة التي يعتبرها معادية للإسلام. برزت إلى جانب هذا عناوين أخرى: مثل «القرآن والتشريع» للصادق بلعيد سنة 2004 و «ميثاق نجد: نشأة الوهابية وتطوّرها» لحمادي الرديسي الصادر بالفرنسية سنة 2006 والجاهز للنشر بالعربية، و «مُتخيَّل النصوص المقدّسة في التراث العربي» لحمادي المسعودي، و «إسلام المتكلمين» لمحمد بوهلال سنة 2007، وأخيراً «قراءة جديدة للفتنة الكبرى» للمختار العبيدي سنة 2008. الدلالة الأولى لهذا الغيض من فيض تونس العالِمة هو انبثاقه إثر أحداث 11 سبتمبر 2001. هو يأتي، من جهة ثانية ورغم اختلاف مشارب أصحابه من مبدعي المعرفة الجديدة، تجسيداً لتلك السُنَّة الثقافية العريقة. هو ثالثاً يشي بمعنى حضاري- سياسي يعتمد الكتابَ أداةً فاعلة تدعم رهان التعددية في كل مجتمع يتوق إلى التحرر ومزيد التمدّن. في السياق التونسي فإن هذا المعنى يكتسي صبغة خاصة، لأن فيه استعادة المثقف لوظيفته الأصلية التي تجعله أقدر على مناقشة خيارات النخب الحاكمة بفضل وعيه النقدي الذي يتيح تصوّراً مغايراً للمستقبل. 2009-02-19 العرب