تطمح حركة التوحيد والإصلاح المغربية إلى أن تكون مدرسة حركية مستقلة ومميزة على أكثر من صعيد، تتجاوز في مستويات مختلفة "النمط الحركي الإسلامي" ذي الأصول المشرقية، الذي أرست قواعده جماعة الإخوان في جمهورية مصر العربية، ومنها انتقل إلى معظم البلاد العربية والإسلامية. فإذا كانت مدرسة الإخوان المسلمين في العالم العربي نحتت تجربة إصلاحية شاقة وصعبة تحت عناوين "الحل الإسلامي" و"البديل الإسلامي"...، فإن حركة التوحيد والإصلاح المغربية ورثت تجربة حركية ناضجة، اجتهدت منذ الثمانينيات من القرن الماضي في بلورة خط حركي إسلامي تبتعد عناوينه وجمله عن أدبيات الإخوان، ولا تأل جهدا حيثما أتيحت لها الفرصة في الداخل أو الخارج في التعريف بهذا الخط وتسويقه. انعكاس الخصوصية المغربية ففي صيف 1996 قررت كل من حركة الإصلاح والتجديد، ورابطة المستقبل الإسلامي الاندماج، وتأسيس حركة إسلامية جديدة اختير لها من الأسماء "حركة التوحيد والإصلاح"، وقد ورث هذا التنظيم الجديد أدبيات ومفاهيم التجربتين السابقتين، ومن المفاهيم الدالة على النضج، والتي استمرت بعد الاندماج: مفهوم إقامة الدين، والقبول بمشروعية النظام الملكي بأبعاده الدينية والسياسية. وتعكس إشارات الإعجاب والتقدير للتجربة الحركية المغربية التي ترد في وسائل الإعلام، وعلى قيادة الحركة في مناسبات مختلفة وعيا عاما بالخصوصية المغربية، واختلافها عن نظيراتها المشرقية في الكثير من القضايا والمواقف، سواء الداخلية أو الخارجية، لكن الملاحظ على أشكال تلقي هذه التجربة في الوطن العربي وتمثلات الرأي العام الإسلامي لها بعض الالتباس وعدم الوضوح. ويقف الإدراك في كثير من الحالات عند حدود المظهر السياسي للمشروع الإصلاحي لحركة التوحيد والإصلاح الذي يجسده حزب العدالة والتنمية، في حين توجد مصادر الخصوصية والتميز في أبعاد نظرية أعمق من ذلك بكثير، وسنحاول في هذه المقالة تسليط الضوء على بعض هذه المصادر. إن نظرية الإصلاح لدى حركة التوحيد والإصلاح المغربية تقوم على ثلاثة مفاهيم مركزية: الاختيار الحضاري، والتنظيم الرسالي، والتجديد الديني، وهي بمثابة الصبغيات (الكرومزوم) -بلغة علوم الطبيعة- التي تنتج الخصوصية والتميز على الصعيد العملي والخطابي، وكل المفردات الفكرية الأخرى تقريبا، والمواقف الإصلاحية التي تقفها الحركة هي تداعيات منطقية وطبيعية لهذه المفاهيم أو تلك الأصول. 1- مفهوم الاختيار الحضاري: ظهر مفهوم الاختيار الحضاري في الأدبيات الإسلامية المغربية سنة 1989م، وارتبط بالأستاذ محمد يتيم، أحد رموز الحركة الإسلامية المغربية ومفكريها، فهو أول من صاغه صياغة نظرية محكمة في كتابه "العمل الإسلامي والاختيار الحضاري"، رغم أنه في الحقيقة يعكس جهدا جماعيا، ومراجعة استغرقت قرابة عشر سنوات، ساهم فيها ثلة من الشباب المنحدر من تنظيم الشبيبة الإسلامية المحظور آنذاك. ويستند هذا المفهوم إلى مجموعة من المفاهيم الجزئية التي تجعل منه خريطة دقيقة وواضحة لعمل إصلاحي راشد، ومن هذه المفاهيم: مفهوم الصواب في العمل الإسلامي، والتغيير الحضاري، والشمولية المنهجية والواقعية الحركية، ومفهوم الولاء، والتضحية المبصرة، و... إلخ.
اجتماع لمجلس شورى التوحيد والإصلاح
فالاختيار الحضاري هو منهج في العمل يتأسس على قراءة تاريخية لمشكلة الأمة، ويحسم بشكل قاطع أنها مشكلة حضارية في المقام الأول، وليست مشكلة سياسية، كما يزعم أنه الأكثر موافقة لمنطق الإسلام ومسار دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بتحجيمه للمشكلة السياسية وقضية الحكم، إذ لا يجعلها من بين أولوياته مقارنة بالقضايا العقدية والأخلاقية، ويستدل على ذلك بمجموعة من الشواهد الشرعية، وأن الخلل الطارئ على العمل الإسلامي في زماننا هذا يكمن في اهتمام الإسلاميين الزائد بالعمل السياسي، الذي تفسره أطروحة الاختيار الحضاري بالتأثيرات السلبية للعصر أو منطق العصر. يقول د. محمد يتيم «إن الأخطار التي تهدد الحل الإسلامي تتمثل في انتصار القيم الحضارية الغربية في فئة كبيرة من أبناء أمتنا، وأخطر من ذلك انتصار قيم للتغيير تجد أصلها في الحضارة الغربية في نفوس كثير من أبناء الدعوة الإسلامية، ومنها: الإعلاء من شأن التغيير السياسي لإحداث أنواع أخرى من التغيير»[1]. ومن المقتضيات العملية لهذا الاختيار توجيه العمل الإصلاحي نحو الإنسان باعتباره المبتدأ والخبر في كل شأن من شئون الإصلاح، والتوجه رأسا دون التفاف نحو إقامة الدين بدل الاجتهاد في إقامة الدولة. ورغم أن حركة التوحيد والإصلاح نشأت متأخرة عن هذا المفهوم بحوالي سبع سنوات (1996)، فإنه من الأصول النظرية التي أخذتها عن رافديها الأساسيين حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي، ولعله كان من الحوافز المعرفية الخفية التي حفزت على الوحدة بين الطرفين، نظرا لتداوله بين طرفي الوحدة ولو بألفاظ أخرى، والأدلة على هذا الأمر كثيرة. 2- مفهوم التنظيم الرسالي: إن مفهوم التنظيم الرسالي من المرادفات واللوازم الضرورية لمفهوم الاختيار الحضاري على الصعيد التنظيمي، فلا يستقيم وجوده وعمله إلا به، ولن أبالغ إذا قلت إن هذا المفهوم يعكس الخبرة التنظيمية للحركة الإسلامية، خاصة فصيل التوحيد والإصلاح، الذي يقدر بأربعة عقود تقريبا، فقد انتقل هذا التيار من مفهوم التنظيم الجامع الذي يعتبر نفسه الفرقة الناجية، ويتوخى إقامة الدولة الإسلامية، نحو التنظيم المحوري والمركزي الذي اعتمدته حركة التوحيد والإصلاح في بدايتها بعد سنة 1996، الذي رغم تخلصه من الانغلاق التنظيمي الذي كان السمة البارزة في المرحلة السابقة، وتشبعه بقيم الرسالية من الناحية النظرية الداعية لإقامة الدين، فإنه من الناحية العملية بقي مقيدا للطاقة الدعوية والمبادرة الدعوية بقيود تنظيمية شتى، غير أن اتجاه الحركة إلى صيغة العمل بالتخصصات لتنزيل وظائفها والقيام بمهامها الإصلاحية سيدفع بقوة إلى تغيير فلسفة التنظيم نظريا وعمليا، ويعتبر مفهوم التنظيم الرسالي الترجمة الصحيحة والحقيقية لهذا التحول. إن التنظيم هو مؤسسة ممتدة أفقيا على مجال جغرافي محدد، وممتدة عموديا من القاعدة نحو القمة (القيادة)، تستثمر الطاقة المادية والحركية لأعضائها من الشرائح المختلفة من النساء والرجال والطلبة، وحتى الأطفال؛ لتحقيق أهدافها القريبة وغاياتها البعيدة، ويصدق عليها في هذه الحالة التعبير القانوني الدارج على كل لسان "التنظيم الشخص المعنوي" (الاعتباري). ويصبح التنظيم رساليا إذا كان استثماره للجهد المادي والحركي (الطاقة الإصلاحية) لأعضائه استثمارا رساليا، يتوخى إشاعة قيم التدين والخير والصلاح في أركان المجتمع وأنحائه المختلفة الثقافية والسياسية والاجتماعية والنسائية والشبابية والعمالية. لقد جعل تنظيم حركة التوحيد والإصلاح من قضية إقامة الدين قضيته الرئيسية والمركزية وجعل من مؤسساته وتنظيماته وتخصصاته وسائل وأشكالا لتنزيل هذا الهدف بما يناسب كل مجال وظروفه، وبالتالي بدلا من معايير الكسب السياسي، واحتلال المواقع في تقويم تقدم المشروع الإسلامي في المغرب، اعتمدت مؤشرات الكسب الدعوي والقيمي، وانتشار قيم التدين في المجتمع؛ للنظر إلى المشروع وتطوراته. ومن المفاهيم المكملة لمفهوم التنظيم الرسالي لحركة التوحيد، والدالة على الإلحاح المتواصل للقيادة وعموم الأعضاء على رسالية التنظيم مفهوم "اصطحاب البعد الدعوي في التخصصات"؛ فاعتماد الحركة صيغة العمل بالتخصصات طرح مشكلة انخراطها الكلي في أعمالها التخصصية وغفلتها عن الرسائل الدعوية والأخلاقية في مجال التخصص، التي تعتبر القصد البعيد والأصلي للمشروع ككل، وبالتالي هذا المفهوم يذكر العاملين من أعضاء الحركة في تخصصاتهم بمسئوليتهم الدعوية، وواجبهم الرسالي، وانتسابهم لمشروع إقامة الدين. 3- مفهوم تجديد الدين: لقد جعلت حركة التوحيد والإصلاح نصب عينها غاية هي من أسمى الغايات على الإطلاق -كما أوضحنا سالفا- وهي إقامة الدين، وإشاعة قيمه في المجتمع المغربي، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، هو: ما معنى إقامة الدين في هذا السياق التاريخي الذي تعيشه الأمة؟ هل ستعمل الحركة بأذرعها المختلفة على استدعاء مضامين ومظاهر التدين المغربي غثها وسمينها، أم دعوتها مختلفة؟ إن حركة التوحيد والإصلاح كانت واضحة منذ اللحظات الأولى لتأسيسها، فقد أخذت على عاتقها مهمة الإصلاح وإقامة الدين من منظور تجديدي، ففي ديباجة الميثاق تتطلع الحركة إلى أن تكون من طائفة المصلحين والمجددين التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، والتي تنفي عن الإسلام "تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويجددون للأمة دينها"، كما جعلت ثاني مبادئها متابعة السنة في الاعتقاد والقول والعمل. فمن خلال هذا العناوين المختصرة قد نأت حركة التوحيد والإصلاح بنفسها عن الانتماءات المذهبية الضيقة، سواء في مجال الفقه أو العقيدة التي مزقت الأمة وفرقتها إلى عشرات الطوائف المتقاتلة أحيانا والمتعايشة أحيانا أخرى، وانفتحت على سائر المذاهب الفقهية والمذهبية، لكن الملاحظ عليها تأثرها بالسلفية على صعيد العقيدة.
أحد ملتقيات التوحيد والإصلاح
وإذا كان المنتسبون للحركة، والمتعاطفون معها يقدمون حالة من التدين تتميز بالاعتدال والتوسط من جهة والانفتاح من جهة ثانية، فإن الجهد التجديدي الكبير في هذا المستوى هو الذي يعكسه عدد من الأعمال العلمية الشرعية التي ألفها بعض قادة الحركة وأعضائها، وفي مقدمتهم عالم المقاصد الدكتور أحمد الريسوني من خلال "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي"، و"نظرية التقريب والتغليب"، والدكتور سعد الدين العثماني في مؤلفاته المختلفة "في الفقه الدعوي: مساهمة في التأصيل"، "المشاركة السياسية في فقه ابن تيمية"، تصرفات الرسول بالإمامة"،... وغيرها من الأعمال التي أغنت العدة المنهجية للإسلاميين المغاربة حتى يواجهوا نوازل الإصلاح الجديدة بفعالية وإيجابية كبيرة. 4- تحديات جدية أمام النظرية: إن نظرية الإصلاح لدى الحركة، ورغم تناسقها وروح الإبداع التي تحلى بها مفكروها، فإن كفاءتها العملية، ومردوديتها الدعوية محل نقاش بين أبناء الحركة قبل غيرهم، ومن أبرز الأسئلة التي تطرح في هذا السياق: إلى أي حد استطاع مفهوم "إقامة الدين" تحفيز أعضاء الحركة للنهوض بالدعوة، وبالتالي تعويض مفهوم إقامة الدولة من هذه الناحية؟، وما مدى صواب القراءة التاريخية التي انبنى عليها هذا التعديل؟، وفيما يتعلق بالتنظيم ومحتواه، ألا تعتبر الرسالية (الدعوة) لجاما للسياسة حتى تبقى في إطار السياسة، أو قناة لعبور الدعوة نحو السياسة، خلافا لما هو متداول حول الفصل بين الجانبين؟. إن الصيغة النهائية التي استقر عليها مشروع حركة التوحيد والإصلاح لم تحدث الحماس الدعوي اللازم في صفوف أعضائها، بحيث لوحظ وبشكل ملموس التوسع الضعيف للتنظيم، والفتور الواسع لشرائح واسعة، فلم يتطور أعضاء الحركة طيلة عشر سنوات إلا بمعدلات ضعيفة، ومما يفسر هذا الضعف لدى الكثيرين المفردات النظرية الجديدة التي تبنتها الحركة، والتي تجنبت من خلالها تشخيص الخصم أو العدو، وتركته مجردا. ومن ناحية أخرى تأسست التعديلات التي أقدمت عليها الحركة في تصورها للصراع والإصلاح على تقويم وقراءة تاريخية؛ تعتبر أن الارتكاز على ما هو سياسي في التغيير، والعمل الإصلاحي يعكس تأثرا تاريخيا بالغرب، والزمن المعاصر، الذي أعلى من شأن السياسة ووسائلها، وإذا كان هذا الوعي يعكس قدرة كبيرة على تحليل التاريخ، فإن توظيفه الإصلاحي في المقابل يعكس خللا واضحا في فهم الواقع، فلا يجوز أن يكون هذا الوعي جسرا للخروج من العصر وقوانينه. وبالتالي الوعي بأهمية السياسة وازدهارها في العالم العربي في القرن العشرين والقرن الحالي يقتضي اعتمادها وبشكل واضح في المشروع الإصلاحي الإسلامي وليس العكس، فلا يجوز أن يكون الوعي التاريخي سببا للخروج من التاريخ. وفي هذا الباب يمكن أن يلاحظ المتتبع –وبيسر- عدم توافق النظرية مع الممارسة لدى حركة التوحيد والإصلاح المغربية، فرغم استخفافها بالسياسة من الناحية الفكرية، واتهامها لغيرها بالتسييس فهي عمليا متورطة فيها إلى أخمص قدميها، ولها جناح سياسي من أقوى الأجنحة في العالم العربي، وقد انتقدت من هذا الجانب من طرف الكثيرين، وفي مقدمتهم الدكتور فريد الأنصاري في كتابه "الأخطاء الستة". أما فيما يتعلق بعلاقة الدعوي والسياسي لدى الحركة، التي امتازت بها عن غيرها من التيارات الإسلامية في العالم العربي، فهي لا زالت بحاجة إلى تنظير ومراجعة، ولم تستقر إلى الآن على صيغة واضحة وضوحا تاما، ومفهوم التنظيم الرسالي وما يتصل به من مفاهيم ك"أصطحاب البعد الدعوي في التخصصات" (الحزب، والنقابة، والعمل الاجتماعي...) هو إطار أخلاقي وفكري للاتصال بين الدعوة والسياسة لدى حركة التوحيد والإصلاح، يسمح لهذه الأخيرة بالتأثير معنويا في التخصصات التي أنشأتها وفي مقدمتها الحزب. إن هذه الإطلالة السريعة على نظرية الإصلاح لدى حركة التوحيد والإصلاح المغربية، وتقريب بعض مفاهيمها الأساسية، تساعد المعنيين بشأن الحركة الإسلامية العربية على إدراك الخصوصية المغربية وأسرارها، ويفتح الباب واسعا أمام تبادل التجارب، وتعميم النافع منها، فالإدراك السيئ لتجارب العمل الإسلامي في البلدان المختلفة، أو الاقتصار على بعض الظواهر الجزئية التي تعكس النجاح أو الفشل يضعف من حظوظ انتفاع المشروع الإسلامي بتجاربه المختلفة وفرص تطوره. *كاتب مغربي [1] د. محمد يتيم، العمل الإسلامي والاختيار الحضاري، منشورات جمعية الجماعة الإسلامية، دار قرطبة، ط.1/1989، ص. 54.