تنعقد أشغال القمة العربية في العاصمة القطرية على إيقاع ما سمي منذ أيام بمواسم المصالحات والقمم التمهيدية المصغرة ورغم التسويق الإعلامي الرسمي فإن الشعوب والنخب العربية لا تنتظر على العموم شيئا من هذه القمة القادمة لما بلغته الأوضاع الرسمية منذ عقود من ترهل رهيب وانهيار دراماتيكي مما أفقد أولياء الأمور في منطقتنا العربية كل قدرة على رد الفعل أو على تحمل المسؤولية في ضمان أمن الأوطان وسلامة أهلها بعد أن فشلوا سابقا في بلوغ مطلوب التنمية السياسية والاجتماعية. ورغم ذلك فنحن مضطرون اليوم إلى التساؤل عن نوعية المخرج الذي سيبتدعه أصحاب الفخامة والجلالة والسمو للتعامل مع تحديات داخلية وخارجية أصبحت ماثلة بوضوح بحيث لن تقدر على حجبها أو تجاوزها الخطابات التقليدية الممجوجة والقرارات الصورية الخاوية : أولا: تنعقد هذه القمة بعد أشهر قليلة من عدوان رهيب على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة اكتشف فيه المواطنون العرب حجم الهوان الذي أصبحت عليه الأمة في ظل أنظمة عجز بعضها أو تواطأ في السر أوفي العلن وهو ما عمق الشرخ بين هذه الأنظمة وشعوبها وزاد في خلخلة شرعيات مهزوزة أصلا منذ عقود . وفي سياق متصل ستنعقد هذه القمة والأنظمة العربية مضطرة للتعامل مع حكومة صهيونية يمينية بامتياز لن تمنحها هذه المرة أي هامش للمناورة أو المراوحة في نفس المكان عبر إيهام الشعوب العربية بمبادرات السلام المزعومة وإمكانيات التسوية المفترضة. إن حكومة نتنياهو ستحشر الأنظمة العربية أكثر فأكثر(وكلما ظلت متمسكة بخيارات تفاوض لا ينتهي) في الزاوية المقابلة بوضوح لطموح الأمة في المواجهة والمقاومة والممانعة. ومما يثير الشفقة أكثر على الوضع الرسمي العربي أن تنعقد هذه القمة في أجواء ظهور بوادر المكاسب التي بدأ يجنيها معسكر المقاومة الذي يظهر اليوم في عنفوان قدرته على تحريك الأحداث وعلى تعديل ميزان القوى في المنطقة وخصوصا بعد التلويحات البريطانية بإمكانية الحوار مع حزب الله وبعد الرسائل الأوروبية الايجابية تجاه حركة حماس وبعد بداية خروج سوريا من مضائق الضغط الدولي وبالخصوص كذلك بعد بروز مؤشرات تحول في الموقف الأمريكي على خلفية تورطه في العراق وأفغانستان . إن هذه المؤشرات مجتمعة ستكون مربكة لخيارات عرابي الارتماء في قطار التسويات المذلة الفاقدة للقوة ومحرجة لسياسة التوهين التي يمارسها بعض حكام العرب الذين يمعنون في خرق مظاهر صمود عربي ممكن باسم الواقعية والمصلحة وتجنب المغامرات . تنعقد قمة الدوحة إذن وعلى طاولة الملوك والرؤساء والسلاطين والأمراء سؤال حارق ومثير : هذا حصاد المقاومة والممانعة فما هي نتائج إمعانكم في الاعتدال ؟ ... إن سؤالا كهذا لا ينتمي أبدا إلى خانة الخطابات الانتصارية الزائفة والواهية بل يتنزل في كبد الحقيقة مادامت أحداث السنوات الأخيرة وتداعياتها قد بينت من بغداد إلى لبنان وغزة أن خيار المقاومة والممانعة هو أكثر الخيارات واقعية في عالم لا يقدر على الفعل فيه غير المصممين على الصمود ... وفي خطوات استباقية للتعاطي مع هذا الإحراج أسرعت السعودية إلى ترطيب مفاجئ للأجواء مع سوريا في حين اتجهت مصر إلى التسريع في دفع مسار الحوار الفلسطيني . غير أن أغلب الملاحظين يؤكدون على عقم هذه المحاولات مادام الأمر لا يتعلق بتغير هيكلي في سياسات نظامين يعانيان منذ مدة من تفاقم حقيقي في أزمة شرعيتهما الداخلية والخارجية مما يجعل مبادرات الرياضوالقاهرة لا تتجاوز عرضا لخدماتهما المجانية في تعطيل التئام الصف العربي الرسمي على قاعدة الممانعة وذلك في سياق محاولة يائسة للحفاظ على "الستاتيكو" الإقليمي الآيل للسقوط وفي سياق محاولة التمديد في زعامة إقليمية ولى عهدها . لقد بات الآن من الواضح أن الجهد المصري في إدارة الحوار الفلسطيني لم يتجاوز ابتزاز طرف لحساب طرف آخر في أفق إعادة الإعتبار لخيار التفاوض العقيم وإضعاف خيار مواجهة الغطرسة الصهيونية المدعومة دوليا. أما الجهود السعودية في مغازلة سوريا فلا تعدو أن تكون سوى مناورة لتفكيك حلف الممانعة الذي بدأ في التشكل بين دمشق وفصائل المقاومة العربية دعم واضح من بعض الأقطار العربية الصغيرة من ناحية ومن القوى الإقليمية الصاعدة في المنطقة مثل إيران وتركيا والغريب أن تتم هذه المناورات تحت مسميات مذهبية أحيانا أو قومية أحيانا أخرى بل وباسم شرعية تحدث عنها وزير الخارجية السعودي دون أن نعرف لها عنوانا غير الامعان المكشوف في الإنحراف عن وجهة الصراع الرئيسي مع إسرائيل إلى صراعات ثانوية مع قوى إقليمية أخرى يدفعنا الغرب إلى استعدائها . ثانيا: وفي سياق متصل تنعقد قمة الأنظمة العربية الحاكمة وعيون العالم ترصد من كل الجهات التصاعد الملحوظ لقوى إقليمية جديدة تحقق باستمرار اختراقا متزايدا للمشهد الدولي بما راكمته من مظاهر ردع استراتيجي بارز يؤذن بتعديل معتبر لميزان القوى .لقد تحولت إيران وتركيا باستحقاق إلى لاعبين رئيسيين في المنطقة مستفيدتين بذكاء من الفراغ الذي خلفه احتلال بغداد في 2003 ومن التورط الأمريكي في المنطقة إضافة إلى الاستفادة من المخزون التاريخي والاقتصادي المدعوم بنجاحات داخلية في التنمية السياسية والاجتماعية. غير أن ما أربك حسابات بعض الأنظمة العربية هو دخول تركيا وإيران على خط الصراع الإقليمي في المنطقة مع المحتل الأجنبي (إسرائيل وأمريكا) وهو ما حول طهران أولا ثم أنقرة لاحقا إلى نقاط جذب لأطراف عربية رسمية أو شعبية إختارت التمترس في جبهة الدفاع المشروع عن الحق العربي بعيدا عن أوهام التسويات الضعيفة والاستجداء الخائب لشرعية دولية مشكوك في نزاهتها والغريب أنه عوض أن تتجه بعض الأنظمة العربية الكبيرة (في خيباتها ؟) إلى الاستفادة من هذه المعطيات الإقليمية بما يخدم مصالح الأمة اختار أولياء الأمور في القاهرةوالرياض ومن دار في فلكهم ترشيح أنفسهم لنيابة خصوم المنطقة في استعداء هذه القوى الصاعدة التي تملك كل خصائص ومقومات الحليف الاستراتيجي الممكن للأمة العربية . لكن ما يجب أن تجيب عليه قمة الدوحة في هذا السياق إن استطاعت هو: ماذا سيبقى لبعض الأنظمة العربية من مهام حين تقرر القوى الدولية المتنفذة تغيير سياساتها في المنطقة لتتعامل واقعيا مع القوى الحقيقية الفاعلة في الإقليم ؟ بماذا ستجيب هذه الأنظمة لو سألتها شعوبها عما فعلته بثروات الأمة وبمخزوناتها وهي ترى حجم الإسناد القادم من طهرانوأنقرة لقضية العرب المركزية وحجم الخذلان والطعن الموجه إلى ظهور الصامدين والمقاومين من أهم العواصم العربية الكبيرة ؟ ماذا أعدت قمة الدوحة لمساعدة بغداد ودعم الصمود في غزة وبيروت وحماية السودان من مصير منتظر ؟ هل سيتمكن السيد عمرو موسى مرة أخرى من ترديد خطاب متخشب لنظام رسمي عربي يفقد باستمرار قدرته على الإقتراب من نبض الشارع وانتظارات النخب ؟ ثالثا: وأخيرا ستنعقد قمة الدوحة في وضع تبدو فيه الأوضاع الداخلية في عدد من الأقطار العربية مقبلة على مراحل عصيبة فقد بدأت الأزمة المالية العالمية تلقي بظلالها الكئيبة على وضع الاستثمار والعمالة والبورصات المحلية ومع تراجع أسعار النفط يبدو أن حائط الريع الذي تتكئ عليه بيوتات الحكم في عدد من البلدان الخليجية لضمان استمرارها قد بدأ في الاهتزاز أما في أقطار أخرى فقد بدأت عيوب التنمية المشوهة في الظهور وتفاقمت مظاهر العجز واختلت التوازنات التقليدية وتصاعدت نسب البطالة والتضخم والدين العمومي. وعلى صعيد آخر ظهرت بوادر سياسة دولية جديدة في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان مما يؤذن بمستقبل غامض لنظم مفتقرة للشرعية الداخلية ومرشحة لفقدان شرعيتها الخارجية في ظل برود الدعم الخارجي لها خصوصا مع اتجاه واضح لبعض القوى الدولية المتنفذة إلى التفكير في مصالحها بعقلية براغماتية بعد أن تبين لها أن القوى الحقيقية المرشحة إلى التحكم في الحاضر والمستقبل العربي المنظور ليست على كل حال ممثلة في أنظمة الحكم السائدة فهل تستطيع قمة الدوحة أن تكون فرصة لبلورة سياسة عربية رسمية جديدة تصالح النظم مع نخبها وشعوبها وتمكنها من تجديد شرعيتها بالأساليب الحقيقية المجدية بعيدا عن مظاهر الانحناء والمناورة ؟ لا نظن ذلك فقد عودتنا القمم العربية على فشل رسمي مزمن .. المصدر بريد الفجرنيوز العدد 78من جريدة "الوطن" (لسان حال الاتحاد الديمقراطي الوحدوي)-27 مارس 2009