بقلم : محمد أركون (كاتب ومفكر جزائري ) .. مسألة المشروعية العليا المقدسة كانت قد أثيرت بين المسلمين بعد موت النبي مباشرة عام 632 ميلادية. ففي حياته لم تكن هناك أزمة مشروعية او هيبة عليا لانه كان يجسدها في شخصه كليا ولا أحد من المسلمين يناقشها او يعترض عليها. ولكن بعد وفاته لم يعد هناك أحد يمتلك هيبته الكبرى ويحظى بالاجماع. ولذلك اندلعت أزمة المشروعية وما انفكت تشغل بال الوعي الإسلامي والفكر الإسلامي منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. ومعلوم ان هذه الهيبة الدينية فرضت نفسها منذ البداية كسيادة عليا تخلع المشروعية الروحية او الدينية على السلطة السياسية المتجسدة بالدولة. وحول هذه المشروعية الروحية العليا دارت الحروب الطاحنة بين السنة والشيعة والخوارج وبقية الطوائف او الفرق الاسلامية على مدار القرون وحتى يومنا هذا. انظر الحروب الاهلية الدائرة حاليا بين السنة والشيعة في العراق او لبنان أو حتى الهند والباكستان وافغانستان واماكن اخرى عديدة. انها الفتنة الكبرى بامتياز. وهي مستمرة على مدار التاريخ. وحتى الان لم يستطع المسلمون تجاوزها لا فكريا- لاهوتيا ولاسياسيا. ولن يستطيعوا تجاوزها ماداموا سجناء الفكر البدعوي اللاهوتي الدوغمائي القديم. من هنا عنوان كتابي الحالي هذا: كيف يمكن الخروج من السياجات اللاهوتية المغلقة؟ أي كيف يمكن للوعي الإسلامي او العربي المعاصر ان يخرج من الاقفاص والسجون العقائدية القديمة التي اتخذت صفة المعصومية لانها قديمة؟ كيف يمكن ان يخرج من الاسوار اللاهوتية الموروثة عن الماضي او عن كتب الملل والنحل وحديث الفرقة الناجية الذي يكفّر جميع الفرق ما عدا فرقة واحدة؟ باختصار شديد: كيف يمكن ان يحصل التجديد الفكري الراديكالي في الاسلام؟ فهو وحده القادر على تجاوز محنة الفتنة الكبرى وتوحيد الوعي الإسلامي السني الشيعي الخارجي بعد طول تمزق وصراع. ولكن من الخطأ ان نكتفي بهذا التفسير العقائدي للحركات الاصولية او السلفية المسيطرة على الشارع حاليا. فهذه الحركات تعاني من فقر فكري مدقع لسببين: اولهما انها مقطوعة الصلة مع الفكر اللاهوتي الإسلامي الكلاسيكي الجاد. وثانيهما انها مقطوعة الصلة ايضا بالبحوث العلمية والفلسفية الحديثة عن المشروعية العليا والسلطة السياسية. والواقع ان الجمود الفكري واللاهوتي يسيطر على عقلية قادة هذه الحركات الاصولية سنية كانت ام شيعية. انها وريثة عصور الانحطاط الاجترارية التي لم تبدع شيئا ولم تضف أي شيء الى الفكر الإسلامي الكلاسيكي في عصره الذهبي المبدع. ينبغي العلم بان مفهوم المشروعية السائد في خطابات الحركات السلفية الحالية هو عبارة عن تصور غامض ولا تاريخي عن النموذج الاعلى للدولة الاسلامية الاولى التي دشنها النبي محمد في المدينة عام 622 ميلادية. انهم يحملون عن هذه التجربة التأسيسية التي دشنت كل التاريخ العربي الإسلامي صورة اسطورية ايديولوجية لا صورة حقيقية تاريخية. وهذه الصورة الخاطئة التي شكلوها عن بدايات الاسلام والتجربة التأسيسية للنبي محمد هي التي تجبل بقوة المخيال الاجتماعي الجبار الذي يجيش الان الملايين من الباكستان شرقا الى المغرب الاقصى وموريتانيا غربا. وهذا المخيال مستنهض في الواقع ومستنفر من قبل الانسداد السياسي في العالم العربي والاسلامي. فالناس تريد ان تساهم في الحياة السياسية ولكنها لا تستطيع لان السلطة محتكرة من قبل القائد الواحد المدعوم من قبل الحزب الواحد والمرتكز على قوة الجيش في معظم الاحيان. ولكن ينبغي العلم بان تأميم الاسلام من قبل الدولة والسطو على مشروعيته الروحية والالهية الهائلة لوضعها في خدمة السلطة كان قد حصل منذ عهد الامويين. وبالتالي فهو ليس حديث العهد وانما قديم جدا. والانظمة الحالية لا تفعل الا ان تسير على خطى الامويين والعباسيين وكل السلطات التي تعاقبت على ارض الاسلام. ولكن هذا التأميم للدين تفاقم في عصرنا الحالي حيث اصبحت الانظمة القائمة الفاقدة للمشروعية الديموقراطية تتلاعب به كما تشاء. وبالتالي فظاهرة استخدام الاسلام لخلع المشروعية على السلطة التي لا مشروعية لها قديمة في ارض الاسلام. انها متواصلة على مدار التاريخ في كل الفضاء السياسي الذي يشكل فيه الاسلام دين الاغلبية: أي في جميع البلدان العربية والاسلامية دون استثناء. وللحديث صلة.
كيف يحصل التجديد الفكري في الإسلام(1 2) ؟! بقلم : محمد أركون (كاتب ومفكر جزائري ) .. كنت قد كتبت نصا عن هذا الموضوع منذ سنوات عديدة. وهاأنذا أعود اليه مجددا في هذا الكتاب. والواقع انه منذ ذلك الوقت وحتى اليوم ما انفكيت أفكر في هذه الاسئلة المطروحة والتي لا تزال تطرح وتناقش في عدد كبير من الكتب والحلقات الدراسية والمؤتمرات العلمية. وهي الاسئلة التي تشغل العالم حاليا فيما يخص مشكلة الحركات الاصولية المعاصرة والصراع مع الغرب وصدام الحضارات وسوى ذلك. ولكن الموضوعات الخمسة الكبرى التي ركزت اهتمامي عليها لا تستنفد كل الاجوبة التي تتطلبها او قل تفرضها مجريات الصراعات العسكرية والايديولوجية الجارية حاليا بين القطبين المتضادين المتطاحنين: أي الاسلام من جهة، والغرب من جهة اخرى. ينبغي العلم بان ما كتبته سابقا بايضاحاته المنهجية والنقدية لا يزال يحتفظ بصحته بل وتلقى تصديقه من خلال الاحداث التي حصلت لاحقا، وكذلك من خلال الضلالات والاخطاء التي لا تزال تغذيها المآسي التراجيدية الجارية في العديد من المجتمعات العربية والاسلامية حاليا. وبالتالي فما كتبته قبل سنوات عديدة استبق على حركة الواقع ولم ينتظر حصول الاخطاء والفواجع لكي يتحدث عنها او ينبه اليها. ان هذه الاخطاء والضلالات لا تزال تغذيها ايضا المجابهات الصراعية بين الشرق والغرب او بين عالم الغرب وعالم الاسلام. وتغذيها ايضا الانحرافات الناتجة عن المخيال الغربي والمخيال الإسلامي في آن معا. ومعلوم ان الغرب يشكل مخيالا سلبيا خائفا ومخيفا عن الاسلام. وكذلك فإن الاسلام يشكل مخيالا سلبيا مليئا بالاحكام المسبقة الخاطئة وغير الدقيقة عن الحضارة الغربية. وكلا المخيالين ينبذان بعضهما بعضا بشدة بل ويعتبر كل منهما الآخر بمثابة العدو اللدود. فالاول يؤدي بالغربيين الى نبذ العرب والمسلمين عموما وتشكيل صورة مشوهة عنهم باعتبار انهم جميعا متعصبون بطبيعتهم وجوهر دينهم. والثاني يدفع بالمسلمين من عرب او ايرانيين او اتراك او باكستانيين الخ..الى نبذ كل ما هو أمريكي او غربي وكرهه بشكل اتوماتيكي مسبق. وهكذا يسود سوء التفاهم بين الطرفين ويتأبد ويترسخ. ولكننا نعلم ان السلام لن يستتب في منطقة حوض البحر الابيض المتوسط وكذلك الازدهار الاقتصادي ان لم تخف حدة المجابهات بين الطرفين وتتغير الصورة المشوهة والخاطئة التي يشكلها كل طرف عن الطرف الآخر. ولهذا السبب فاني أدعو الى تصحيح الصورة عن طريق تشكيل فكر نقدي حر ومستنير في الجهة العربية والاسلامية لكي تحد من مخاطر التيار الاصولي الشعبوي الديماغوجي الذي يهيمن على الشارع الإسلامي والعقلية الجماعية عندنا. كما وأدعو الغربيين من جهتهم الى تغيير الكليشيهات القديمة الموروثة عن الاسلام والعدائية بشكل مسبق. فالتطرف لا يأتي من جهة واحدة على عكس ما يزعم الاعلام الغربي وانما من جهتين. ولكن ذلك لن يتحقق الا بعد ان يجدد المسلمون أنفسهم طريقة تفكيرهم وكذلك طريقة تصرفهم وفهمهم لدينهم وتراثهم. ولن تصبح العلاقات اليومية والدولية صحيحة بيننا وبينهم الا بعد القيام بهذه المراجعة النقدية الجذرية للايديولوجيا العربية والاسلامية السائدة. لمن يريد الاطلاع على آخر أفكاري حول الموضوع أحيله الى هذا الكتاب والى قائمة المراجع التي كنت قد عددتها في بدايته والتي تضم نخبة من نصوصي الاخيرة ومحاضراتي في شتى انحاء العالم. أريد ان أسجل هنا الملاحظات الهامة التالية. اولا: ينبغي العلم بان النظام الفكري للحركيين الاسلامويين السلفيين وكذلك مجمل المؤمنين التقليديين يتشكل من جملة اشياء ينبغي التسليم بها والاعتقاد الكامل بها دون اي نقاش، وكذلك يتشكل من اشياء اخرى ينبغي استبعادها كليا من دائرة الاعتقاد الإسلامي. ولهذا السبب فاني أستخدم مصطلح: نظام الاعتقاد/ واللااعتقاد للدلالة على التراث الاسلامي. وهو نظام موجود في المسيحية ايضا وكل الاديان الأخرى ولكن مضمونه يختلف بالطبع من دين الى آخر. كل دين مبني على نواة اعتقادية تقبل جملة اشياء وترفض جملة اشياء اخرى. من أهم مبادىء هذا النظام الفكري الاعتقادي هو القول بما يلي: ان هيبة العامل الديني هي العليا وهي التي ينبغي ان تهيمن على السلطة السياسية وعلى المجتمع ككل دون نقاش. فالدين في العالم العربي او الإسلامي لا يناقش على عكس ما هو سائد في المجتمعات الاوروبية العلمانية المتقدمة مثلا. وبالتالي فالاعتقاد المذكور القائل بأولوية الايديولوجيا الدينية على كل ما عداها هو أحد الثوابت المتواصلة والمهيمنة كليا على عالم الاسلام منذ أقدم العصور وحتى اليوم. وذلك على عكس ما هو سائد في المجتمعات العلمانية التي تغلغلت فيها الافكار العلمية والفلسفية الى حد كبير الى درجة انها اصبحت تشكل هيبة فكرية عليا مضادة او مقابلة لهيبة الدين بل وأقوى منها بكثير. ولكن فيما يخص هذه النقطة العقائدية المركزية، أي هيمنة الدين على كل شيء، فإن الاسلام لا يختلف عن المسيحية او اليهودية او بقية الاديان الكبرى في العالم. فالدين في كل هذه الحالات يشكل هيبة كبرى وعليا تخلع المشروعية الالهية على السلطة السياسية او تسحبها منها. نقصد بذلك خلع المشروعية على سلطة الدولة بالطبع.