الجزء الثاني الإخوان المسلمون بعد الإمام الإمام حسن البنا أثبتنا في الجزء الأول من هذا البحث أن تجربة الإحياء كانت تجربة ناقدة في مضمونها أصيلة في برنامجها إصلاحية في منهجها مجاهدة ومقاومة في بعدها القطري بعيدة كلّ البعد عن نفي الآخر ولهذا فإنّها كانت منفتحة مقرّة بالآخر داعية إلى العلم وإصلاح العقيدة ومحاربة للبدع كما طالبت بالتوفيق بين العلم والدين لأنها أعتبرت أن الحياة الدستورية والحقوق المدنية والحريات السياسية لا تتعارض مع الشرع، فمهّدت بذلك لمشروع نهضوي بعيدا عن الإسلاموية والنفي والإقصاء. كما راينا أن هذا المنهج تواصل مع الإمام الشهيد حسن البنا الذي نقل حركة الإحياء من النخبة إلى الجماهير وحافظ على المبادئ الأساسية لتجربة الإحياء وقاد الصحوة بعيدا عن الإسلاموية. واليوم نتعرض لفترة ما بعد حسن البنا. حيث تدخل مصر تجربة فريدة، فهي من ناحية تدشن شكلا سياسيا جديدا حسم مع الملكية وأعلن النظام الجمهوري، إلا أن هذا الإعلان لم يأتي كمطلب شعبي وإنما كان بإرادة الحذاء العسكري. كما أن تيار الإحياء وجد نفسه وجها لوجه مع نظام أمسك بيده كل خيوط اللعبة السياسية وربط مصر بالخيار الإشتراكي. فكان الصدام. فكيف تطور تيار الإحياء تحت الحكم العسكري وبعده؟ وهي يمكن الحديث عن أسلاموية في الفترة الناصرية ؟ بعد بدايات ودية بين الإخوان وعبد الناصر سادها الهدوء لمدّة سنتين تقريبا بدأت إحدى أعتى المواجهات في تاريخ الدولة العربية الحديثة أو دولة ما بعد الإستقلال بين تيارين أساسيين في جهود النهضة العربية ، مثل الأول التيار القومي القائم على تصور علماني يفصل بين الدين والدولة مدعوما من نخبة العسكرية وبين تيار الإحياء كما أبرزنا، ونظرا لأن مؤسسات الدولة كانت تحت تصرّف التيار الأوّل فإنّه لم يسمح لمخالفيه في الرأي في أي فرصة للتعايش معه فتم الزج بهم في المعتقلات والسجون وتمت محاولة القضاء عليهم بشكل كلي. في هذه اللحظة وجد الإخوان أنفسهم لأول مرة أمام خصم عنيد يمتلك كل الوسائل المتاحة للقضاء عليهم فلم يكن زخمهم الجماهيري ليفيد كثيرا، وكان أمامهم خياران أساسيان وهما إما السقوط في ردّ الفعل وقيادة البلاد إلى العنف والحرب الأهلية وتكفير المجتمع ورفع لواء الجهاد ونفي الآخر وبالتالي السقوط في الأسلاموية وإما التحصن بالفكر الإحيائي الوسطي المعتدل والقبول بالهزيمة الميدانية في سبيل حفظ الأمة والوطن. واختارت قيادة الإخوان التوجه الثاني، إذ نجد أن كتابات الإخوان في تلك الفترة تتجه لدعم خيار الإعتدال والوسطية، فالقاضي عبد القادر عودة، الذي كتب كتابه في العام الأول للثورة، يدعوا إلى تبني فكرة دعاة لا قضاة. إلا أن قوة التحدي الذي واجه الإخوان جعل البعض منهم يشكك في هذا الخيار المعتمد، فإذا بالمفكر الكبير سيد قطب يشكك في هذا المنهج ويدعوا في كتابه “معالم في الطريق” وفي تفسيره “في ظلال القرآن” إلى وجهة نظر أخرى مغايرة تماما لما كان مألوفا تقوم على الإنفصال عن المجتمع والإنعزال عنه وتأسيس قاعدة صلبة تكون موازية “للمجتمع الجاهلي” كما يصفه، وتابع هذا التوجه بعده محمد قطب في كتابه “جاهلية القرن العشرين” الذي لقي قبولا بعد نشره، وبالتالي يقود هذا الفكر إلى مجتمع مواز، ويدعو إلى نفي الآخر والوقوع في الإسلاموية. لم تلق أفكار سيد قطب قبولا كبيرا لدي عدد كبير من المساجين الإسلاميين في مصر فقط بل إنها انتشرت في العالم الإسلامي بشكل سريع، فوقع تحت تأثيرها أغلب التيارات الإسلامية بما فيهم الشيخ راشد الغنوشي الذي عاد إلى تونس في أواخر الستينان وأوائل السبعينات متأثرا بهذا الفكر وبشر به لفترة زمنية، ولكنه تراجع عنه فيما بعد كما سنرى لاحقا. ومن الحكمة أن حركة الإخوان لم تسر وراء نظرية سيد قطب ولم تعتمدها كخيار وبرنامج وإلا فإن تاريخ مصر كان سوف يشهد توجّها آخر لا يمكن أن نتصوّره، فحتى بعد نهاية الحكم الناصري ظلت الفكرة الأساسية للإخوان هي الوفاء لمنهج الإحياء الديني كما بشر به الإمام حسن البنا وريث الأفغاني ومحمد عبده. بعد الفترة الناصرية ودخول السادات في سياسة الإنفتاح وتصديه للتيار الشيوعي الماركسي سعى لتوظيف الإخوان في هذه السياسة كما أن الحركة اعتمدت سياسة لملمة الصف وإعادة بنائه، فكانت جهودها موجهة للداخل أكثر منها نحو الخارج. هذا الأمر لم يرض قطاعا كبيرا من الشباب الإسلامي الذين أعلنوا منذ حكم عبد الناصر تبنيهم لنظرية القاعدة الصلبة وتطبيقها عمليا. فانتشرت في سبعينيات القرن الماضي في مصر جماعات التكفير المعتنقة لفكر سلفي يقطع مع مدرسة الإخوان الوسطية ومع جهود الإحياء ككل لأنه يراها مهادنة وتعطّل الجهاد، “فانعث جيل جديد يتوالد رافضا ما اعتبره وصاية الإخوان على الحركة الإسلامية... وذلك بسبب ضآلة الإمكانات الفكرية التي كانت تقدّمها جماعة الإخوان” على حد تعبير جمال سلطان1” لأن خطاب الإخوان المطروح كما يقول سلطان كان خطابا “عاطفيا ونفسيا أكثر منه خطابا فكريا وسياسيا واعيا”وهي نفس النتيجة التي يصل إليها الدكتور عبد الوهاب الأفندي في تقييمه لعمل الإخوان بقوله “فحركة الإخوان المسلمون غدت بقيادتها التاريخية التي تنظر إلى الماضي باستمرار ولا تتطلّع إلى المستقبل، لم تعد ذات جاذبية للشباب المتطلع إلى العمل والتغيير” ويضيف الأفندي ”وتظهر التقارير اليومية، لقادة الجماعات الإسلامية أن أعمارهم كلّها في مطلع العشرينات وفي أحيان كثيرة يكونون دون العشرين... فهؤلاء الشباب من الواضح أنّهم لم يدخلوا عباءة الإخوان أصلا. وهذا تعبير عن وضع خطير، وأزمة حادة، حيث خسر شيوخ المجتمع، معارضين وحاكمين ثقة الشباب”2 بعد خروجهم من سجون الناصرية اتجه شيوخ الإخوان إلى لملمة الصف الداخلي ولم يتواصلوا مع الجيل الجديد بل إنهم رفضوا التفاعل مع الإشكاليات التي يطرحها، وسقطوا في نوع من النفي لأي فهم آخر غير الفهم الذي يقدمونه، فسقطوا في الإسلاموية النافية للآخر المسلم في هذه الحالة. أدى الوضع الجديد إلى تقوقع الإخوان وظهور وجوه جديدة على الساحة الإسلامية أصبح لها حضور مركزي من أمثال الشيخ حافظ سلامة والشيخ عمر عبد الرحمان وعبد الحميد كشك الذي أصبحت أشرطته تحتل المركز الأول في المبيعات أذ استطاعت أشرطة الشيخ كشك، رحمه الله،أن تفوق مبيعات شريط “الأطلال” لأم كلثوم، الذي ظل حتى ظهور كشك يحتل الصدارة دون مزاحم. كما انتشرت كتيبات مصطفي محمود وخاصة برنامجه “العلم والإيمان” الذي نجح نجاحا منقطع النظير وتجاوز إشعاعه مصر وصدر منه 400 حلقة. كما ظهر الشيخ محمد متولي الشعراوي بتفسيره ودروسه المتميزة. في هذا الخضم غدى الإخوان المسلمون حزبا أو تيارا صغيرا داخل ساحة الفعل اليومي. فعبد الوهاب الأفندي الذي زار مصر سنة 1985 يقول “كانت مصر جمهورية إسلامية بمعنى الكلمة، ولكن الإخوان كانوا الغائب الشاهد في هذه الجمهورية”3 إلا أن فشل الإسلاموية التي اقترنت بالعنف والإرهاب في مصر وتراجع التيارات الجهادية عن العديد من مواقفها والعودة إلى حضيرة الحوار السياسي والحوار الإسلامي أعاد للإخوان دورهم من جديد خاصة مع ظهور قيادات شابة في أواخر الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي ممن تمكنوا من تسجيل حضور للإخوان في الإتحادات الطلابية والعمالية، وكان من أبرز هذه الوجوه الجديدة الدكتور عصام العريان والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح. ولم تكن مشاركة الإخوان في انتخابات سنة 1984، وسنة 1987 تحمل بعدا سياسيا عقلانيا بل كانت في جزء كبير منها تحت ضغط الواقع الذي يتهم الإخوان بالإصرار على العمل السري إضافة إلى أنها لم تكن ستحقق شيئا للإخوان نظرا لتضييقات القانون الإنتخابي. ولم تستطع قيادة الحركة الحسم النهائي في العملية الإنتخابية إلا في منتصف التسعينات وهو قرار تأخّر كثيرا لحركة في حجم الإخوان، إذا علمنا أن حركات إسلامية قريبة منها بادرت منذ السبعينات إلى الدخول في العمل السياسي العلني كما كان الحال في السودان أو في الثمانينات في تونس رغم تصدي السلطة هناك لهذا القرار باعتقال قيادة النهضة (آناذاك الإتجاه الإسلامي) أو في دول عربية أخرى آخر الثمانينات كالكويت والأردن واليمن. هذا الوضع جعل الشباب ينفض من حول الإخوان ولا يشهد عودة إلا بشكل متأخر نسبيا عندما أخذت الجماعات التكفيرية والجهادية تراجع سياساتها. ودون الدخول في تقييم التجربة الإخوانية في البرلمان لأن ذلك يخرجنا عن الإشكالية الأساسية التي نتابعها إلا أننا نسجّل في هذا المستوى من البحث نتيجة أساسية وهي أن حركة الإخوان المسلمين التي انطلقت من زخم جهود الإحياء الإسلامي كانت بعيدة عن الإسلاموية والنفي للآخر، إذا استثنين فترة السبعينات والثمانينات نظرا لظروف الإخوان الصعبة بعد الخروج من سجون الناصرية، وللضبابية في خيارات الحركة السياسية، ثم ما أدى إليه اغتيال السادات وما عقبه من عنف، من الحكومة وجهازها الأمني، ومن الجماعات التكفيرية والجهادية التي سمحت للجهاز الأمني بمحاصرة العمل السياسي وحشر الإسلاميين كلهم تحت دائرة العنف مما ساهم في خلط أوراق في العمل السياسي في مصر. إن حركة الإخوان المسلمون رغم استشهاد الإمام حسن البنا وتعرضها للقمع الشديد أيام الناصرية ضلت وسطية في منهجها، معتدلة في خيارها. وهنا لا بدّ من الإقرار بأنه لولا السياسة التي اتبعها الإخوان في تبني الخيار السلمي رغم انسداد آفاق العمل السياسي مما دفعها للبحثت عن بديل وجدته في النقابات العمالية والطلاّبية واستطاعت أن تبلغ صوتها من خلالها فاستطاع الإخوان أن يحفظوا مصر والمنطقة من العنف ويقلّصوا من تغوّل السلطة الذي قاد في تجارب أخرى إلى أشكال خطيرة من الإسلاموية كان أهمها التجربة السورية في بداية الثمانينات والتي أنتهت بمأساة حماة ونتائجها الوخيمة على الحركة والبلاد، أو في الجزائر وانتشار ما عرف بالتيار الجهادي السلفي في العديد من الإقطار والبلاد العربية. في الجزء الثالث من هذا البحث نتعرض للتجربة السلفية، وهناك سنكشف عن نتائج مفاجئة ساهمت في بلورة أفكار هذه المدرسة ونتثبت في مدى علاقتها بالإسلاموية الهوامش: 1 1.سلطان، جمال: مراجعات في أوراق الحركة الإسلامية في مصر، دار المنار الجديد، 1420 ه /1999 الطبعة الأولى، ص. 6 2 عبد الوهاب الأفندي، عن مسألة الإخوان المسلمين في مصر، الحياة، 6 ربيع الآخر 1416 ه/ 1 سبتمبر 1995، ص 19 3 عبد الوهاب الأفندي، عن مسألة الإخوان المسلمين في مصر، الحياة، 6 ربيع الآخر 1416 ه/ 1 سبتمبر 1995، ص 19 حسن الطرابلسي Hassen Trabelsi