ماذا في لقاء لطفي الرياحي بمفتي الجمهورية؟    صفاقس: تفكيك شبكة لبيع محرّكات الزوارق البحرية    يشارك فيه كمال الفقي: الهجرة غير النظامية محور اجتماع تنسيقي دولي بالعاصمة الإيطالية    انتخابات جامعة كرة القدم.. قائمة التلمساني تستأنف قرار لجنة الانتخابات    النادي الافريقي يراسل الجامعة من أجل تغيير موعد الدربي    قيس سعيد: الامتحانات خط أحمر ولا تسامح مع من يريد تعطيلها أو المساومة بها    باجة.. تفكيك شبكة ترويج مخدرات وحجز مبلغ مالي هام    طقس الليلة    منوبة: مشتبه به في سرقة المصلّين في مواضئ الجوامع في قبضة الأمن    صفاقس : غياب برنامج تلفزي وحيد من الجهة فهل دخلت وحدة الانتاج التلفزي مرحلة الموت السريري؟    قضية التآمر على أمن الدولة: رفض مطالب الافراج واحالة 40 متهما على الدائرة الجنائية المختصة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    رئيس الجمهورية يتسلّم دعوة للمشاركة في القمة العربية    الروائح الكريهة تنتشر في مستشفي قابس بسبب جثث المهاجرين    الترجي يقرّر منع مسؤوليه ولاعبيه من التصريحات الإعلامية    حصدت مليار مشاهدة : من هي صاحبة أغنية ''أنثى السنجاب''؟    إغتصاب ومخدّرات.. الإطاحة بعصابة تستدرج الأطفال على "تيك توك"!!    عاجل : معهد الصحافة يقاطع هذه المؤسسة    التمديد في سنّ التقاعد بالقطاع الخاص يهدف الى توحيد الأنظمة بين العام والخاص    استقالة هيثم زناد ر.م.ع لديوان التجارة هيثم زناد و السبب لوبيات ؟    شوقي الطبيب يرفع إضرابه عن الطعام    تواصل غلق معبر راس جدير واكتظاظ كبير على مستوى معبر ذهيبة وازن    البنك المركزي يعلن ادراج مؤسستين في قائمة المنخرطين في نظام المقاصة الالكترونية    لاعب سان جيرمان لوكاس هيرنانديز يغيب عن لقاء اياب نصف نهائي ابطال اوروبا    عاجل/ الشرطة الأمريكية تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل أغلب الطلبة المعتصمين    مجددا بعد اسبوعين.. الأمطار تشل الحركة في الإمارات    مدنين: بحّارة جرجيس يقرّرون استئناف نشاط صيد القمبري بعد مراجعة تسعيرة البيع بالجملة    رئيس لجنة الشباب والرياضة : تعديل قانون مكافحة المنشطات ورفع العقوبة وارد جدا    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    جبنيانة: الكشف عن ورشة لصنع القوارب البحرية ماالقصة ؟    وزارة التربية على أتم الاستعداد لمختلف الامتحانات الوطنية    فظيع/ حادث مروع ينهي حياة كهل ويتسبب في بتر ساق آخر..    عبد المجيد القوبنطيني: " ماهوش وقت نتائج في النجم الساحلي .. لأن هذا الخطر يهدد الفريق " (فيديو)    وزارة التجارة تنشر حصيلة نشاط المراقبة الاقتصادية خلال الأربعة أشهر الأولى من سنة 2024    المغازة العامة تتألق وتزيد رقم معاملاتها ب 7.2%    إرتفاع أسعار اللحوم البيضاء: غرفة تجّار لحوم الدواجن تعلق وتكشف..    بنزيما يغادر إلى مدريد    وفاة الممثل عبد الله الشاهد    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    الحبيب جغام ... وفاء للثقافة والمصدح    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    الحماية المدنية: 9حالة وفاة و341 إصابة خلال 24ساعة.    24 ألف وحدة اقتصاديّة تحدث سنويّا.. النسيج المؤسّساتي يتعزّز    تونس تشهد تنظيم معرضين متخصّصين في "صناعة النفط" و"النقل واللوجستك"    ''أسترازنيكا'' تعترف بأنّ لقاحها له آثار قاتلة: رياض دغفوس للتونسيين ''ماتخافوش''    يهم التونسيين : حيل منزلية فعالة للتخلص من الناموس    نَذَرْتُ قَلْبِي (ذات يوم أصابته جفوةُ الزّمان فكتب)    مصطفى الفارسي أعطى القصة هوية تونسية    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    وزيرة التربية تكشف تفاصيل تسوية ملفات المعلمين النوّاب    بطولة مدريد المفتوحة للتنس: روبليف يقصي ألكاراز    عاجل : سحب عصير تفاح شهير من الأسواق العالمية    مايكروسوفت تكشف عن أكبر استثمار في تاريخها في ماليزيا    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    مندوب روسيا لدى الامم المتحدة يدعو إلى التحقيق في مسألة المقابر الجماعية بغزة    طيران الكيان الصهيوني يشن غارات على جنوب لبنان    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    القيروان: إطلاق مشروع "رايت آب" لرفع الوعي لدى الشباب بشأن صحتهم الجنسية والانجابية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توفيق الشاوي( رحمة الله عليه) ..معالم في همة عالية

د. توفيق الشاوي واحد وتسعون عاماً وجهاده لم يفتر، وصبره لم ينفد، وقناته صلبة كما هي، وعزمه من فولاذ كما العهد به في عنفوان الشباب. عندما زرته في الأيام الأخيرة قبل رحيله كان قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيباً وفقد القدرة على النطق، ولكنه لم يفقد القدرة على الكلام بالإشارة يأمر وينهي، يحييه أحد زواره فيرد التحية بأحسن منها على طريقته، وعيناه تبرقان كعين الصقر الواقف فوق أعالي القمم.
لسان حاله يقول: لم أنته من أداء واجبي. بقيت لي معركة أو معركتان أو أكثر. رأيته يتابع القصف الوحشي على غزة عبر شاشة التلفزيون ويرى أشلاء الضحايا من الأطفال والشيوخ وعيناه تنهمران بالدموع دون أن يقدر على النطق، وكأنه يقول "لا زلت قادراً على الجهاد، ولو بهذه الدموع، وسأنتصر، وسينتصرون"؛ كان هذا قوله الذي لم ينطقه.
من عرف العلامة الشاوي يعرف أن قاموسه ليس فيه كلمة "هزيمة"، وأن سجل أعماله ليس فيه نزول ولو مرة واحدة من فوق القمة، ولا سمح لنفسه أن تنشغل بغير عظائم الأمور وعلو الهمة.
هو الموت وحده
طالع أيضا:
المؤتمر الاسلامي منظمة ورقية أم بداية للخلافة؟
هو الموت. "مصيبة الموت". فقط "مصيبة الموت"، والموت وحده هو الذي جعل العلامة توفيقمحمد إبراهيم الشاوي يترجل من فوق صهوة جواد جهاده الطويل في سبيل الله بعد أن جاوز التسعين عاماً. ظل خلالها قوي الشكيمة، عالي الهمة، لا تكاد البسمة تتسلل لتخفف شيئاً من صرامة قسمات وجهه حتى تغادره مسرعة.
عركته الحياة بمرها أكثر مما عركته بحلوها، ولكنه عركها هو أيضاً بصبر لا ينفد، وقلب لا يجزع، وإيمان لا يتزحزح، وشجاعة لا يتطرق إليها الوهن من أي باب.
عندما سجنه عبد الناصر في السجن الحربي باعتباره من قيادات جماعة الإخوان المسلمين سنة 1945 وطلب منه كتابة رسالة تأييد مقابل إطلاق سراحه، استجاب، ولكنه بدلاً من أن يكتب رسالة تأييد، كتب وهو في السجن الحربي رسالة هجومية شديدة اللهجة أنهاها بتوقيعه " توفيق الشاوي جداً"!!. أضاف كلمة "جداً" بعد لقبه "الشاوي" لتكشف هذه الإضافة البسيطة في مبناها، العميقة في معناها عن العملاق الذي تنطوي عليه نفسه الحرة، ولتزيح جانباً من الستار الذي كان يغطي آنذاك روحه الوثابة، وعزيمته الفولاذية الأبية.
كان أكثر الناس في ذلك الزمن ترتعد فرائصهم من سيرة السجن الحربي، ومن سجاني السجن الحربي، وكان"الشاوي" في ذلك الزمن نفسه يذكر عبد الناصر وهو في قمة مجده، وعز صولجانه، بأنه لا يرفض فقط تأييده، وإنما يتوعده مستخدما معنى لقبه الذي يشير إلى القوة التي تحرق من يتصدى لها، وذلك بتوقيعه على الرسالة التي كتبها ليقول لعبد الناصر أنا "الشاوي جداً"، ولست "الشاوي" فقط.
ومرت السنون والأيام، وخرج الشاوي من المعتقل، ومات عبد الناصر، ومات أغلب أبناء جيله، وبقي الشاوي ليعمر طويلاً، وليبلي بلاء حسناً في سبيل أمته العربية والإسلامية سبعين عاماً متواصلات، لم يؤخذ عليه فيها يوماً أنه وقف موقفاً يجلب الندم. وفي عشرات آلاف الصفحات التي كتبها لم يخط بيمينه كلمة لا يحسن بالحر أن يرسمها بالقلم، أو تطرح في نفس كاتبها ولو بعد حين الألم.
معالم في همة عالية
فاضت روح العلامة توفيق الشاوي إلى بارئها يوم الأربعاء الموافق 12 ربيع الآخر 1430 8 أبريل 2009 ، وكان مولده في قرية الغنيمية/مركز فراسكور بمحافظة دمياط يوم 9 محرم 1337 15 أكتوبر 1918م. وقد حكى لي فيما حكى وما أكثر ما حكى لي، وما أكثر ما تعلمت منه، وما أشد تقصيري في حقوقه عليَّ قال: "والدي كان فلاحاً يملك عشرة أفدنة في زمام قرية الغنيمية، وعندما ولدت تمهل كثيراً في إثبات اسمي في سجل المواليد، خشية أن أموت سريعاً وأنا طفل صغير، وبلغ تأخره عدة سنوات، ثم سجلني، وسقطت تلك السنوات من حساب عمري عند الحكومة ".
عاش العلامة الشاوي أكثر من تسعين عاماً؛ بحساب سجلات الحكومة، وأكثر من ذلك ببضع سنوات بحسب سجلات الحقيقة. ويبدو أن "الهمة العالية" تولد مع صاحبها، ولا تكتسب، أو هكذا تقول لنا سيرة العلامة الشاوي ومسيرته الحافلة بجلائل الأعمال الجهادية، والعلمية، والتعليمية، والاقتصادية، والسياسية، والقانونية، والخيرية، داخل مصر وخارجها في عديد من بلدان العالمين العربي والإسلامي، وبخاصة في بلدان المغرب العربي الكبير.
سيرة العلامة توفيق الشاوي المفعمة بالأمل والمتعالية على الألم، ومسيرته الطويلة على درب العلم والجهاد والعمل، تقول لنا أنه كان رجلاً "عالي الهمة"؛ لم يهدأ له بال في حياته الطويلة المليئة بجلائل الأعمال، ولم يكن يرى توفير جهد لديه اليوم إلى عمل يكون فيه غداً، ولم يعرف عنه أنه التمس علة ليدخر بذريعتها همة، ولم يركن يوماً واحداً ولا ساعة من نهار "إلى الذين ظلموا"، وكثيراً ما كان يردد قول الله تعالى "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار".
بدأ العلامة الشاوي مشواره الطويل في كتاب قريته "الغنيمية" فحفظ نصف القرآن الكريم على يد الشيخ "علي حواس"، وهو في السادسة من عمره، ثم انتقل إلى مدينة المنصورة ليلتحق بالمدرسة الابتدائية. وفاجأ والده بأن طلب منه أن يختار له شيخاً ليكمل معه حفظ القرآن الكريم بعد أن فارق شيخه "على حواس"، فاختار له "الشيخ شمس الدين"، وأتم على يديه حفظ كتاب الله كاملاً قبل أن ينتهي من المرحلة الابتدائية.
في صحبة الإخوان
انتقل إلى القاهرة في مطلع الثلاثينيات والتحق بالمدرسة الخديوية الثانوية، وفي السنة الثانية أصيب هو أخوه أحمد بالحمى، فمات أخوه وبرئ هو. وفي السنة الثالثة أصيب بالتهاب رئوي حاد ألزمه مستشفى السل بحلوان مدة عام كامل، وخرج بعد انتهاء الامتحانات، ولكنه أصر على دخول امتحان الملحق، فدخل ونجح بتفوق.
ثم شده الحنين إلى المنصورة فعاد إليها، ليحصل منها على شهادة البكالوريا سنة 1937 بترتيب الثالث على المملكة المصرية.
تمنت نفسه الالتحاق بكلية الآداب بجامعة فؤاد (القاهرة الآن)، وخاصة أنه إلى جانب حفظه للقرآن الكريم، كان يحب قراءة كتب الأدب والشعر والتاريخ، وقرأ في صباه الباكر كتب الإمام محمد عبده، والأفغاني، ودواوين أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وكتب الرافعي والمنفلوطي، وغيرهم.
ولكن"ما كل ما يتمنى المرء يدركه"؛ فعمه إبراهيم الشاوي لم يشجعه على ذلك بحجة أنه سيصبح مدرساً مثله إن هو دخل كلية الآداب، وحثه على الالتحاق بكلية الحقوق "التي يتخرج فيها الوزراء والقادة".
ولكن الكلية تحتاج إلى رسوم قدرها ثلاثون جنيها. ونصحه عمه بتقديم طلب للالتحاق بالكلية مجاناً، فقبل طلبه لتفوقه في البكالوريا، ومن ثم عاد إلى القاهرة ليواصل دراسته في كلية الحقوق ويتخرج بتفوق بترتيب الثاني بعد زميله "محمود جمال الدين زكي".
في كلية حقوق جامعة فؤاد حدثت النقلة الكبرى التي حددت معالم حياته حتى نهايتها؛ إذ التحق بجماعة الإخوان المسلمين عن طريق طلاب الإخوان في الكلية نفسها وهو في السنة الأولى 1937/1938. وبقي وفياً لعهده ملتزماً به إلى أن لقي وجه ربه، محتسباً ما ناله من عنت ومحن بسبب انتمائه هذا عند الله؛ فقد فصل من الجامعة واعتقل مع الإخوان المسلمين سنة 1954، وبقي في السجن حولين كاملين إلى أن أفرج عنه سنة 1956.
ذاق أصناف العذاب، وتعرض لأقسى الانتهاكات التي حاولوا أن ينالوا بها من عزيمته، أو أن يحطموا معنوياته؛ حتى إن جلاديه كانوا يكرهونه على تنظيف الكنيف بيده، ففعل وهو يقول لبعض إخوانه " يا صاحبي السجن كم كتبت يدي هذه مقالات وبحوثاً في القانون، وفي فلسفة العقوبات، وفي قانون الإجراءات الجنائية، وفي حقوق المعتقلين"، مشيراً إلى سلسلة مقالاته الشهيرة التي كتبها ونشرها في جريدة المصري (لسان حال الوفد القديم آنذاك) قبل اعتقاله، وكانت بعنوان "حقوقك إذا اعتقلت"، ونشرتها الصحيفة في خمس حلقات بتواريخ 10، و12، و14، و18، و26 من مارس سنة 1954، وهي من أنفس ما كتب دفاعاً عن حقوق الإنسان، بأسلوب أدبي/ قانوني، أو قانوني/أدبي راق، وكان زبانية التعذيب يتندرون بها عليه ويقولون له وهو كالأسد حبيس القفص "ستأخذ حقوقك كاملة يا شاوي"، ثم يأمره أحدهم بمواصلة العمل في تنظيف الكنيف بيده التي كتبت تلك المقالات!!. " ألا لعنة الله على الظالمين".

قبل أن يُعين مدرساً في كلية الحقوق بجامعة فؤاد، عمل العلامة الشاوي سنتين وكيلا للنيابة 19421944، تنقل فيهما بين نيابات المنصورة، والسنبلاوين، والمنزلة. وبعد تعيينه في كلية الحقوق عاد للقاهرة ليذهب سنة 1945هو وزميله محمود جمال الدين في بعثة دراسية إلى فرنسا، وحصل على دكتوراه الدولة من جامعة في باريس سنة 1949 في موضوع "النظرية العامة للتفتيش في القانون الجنائي الفرنسي والمصري"، وقد نالت هذه الرسالة جائزة التفوق من جامعة باريس، ونشرتها جامعة فؤاد (القاهرة) سنة 1950 م 1370 ه مع مقدمة للبروفسور هوجيني أستاذ القانون الجنائي بجامعة باريس.
وعاد الشاوي من باريس سنة 1950 ليستمر في عمله أستاذاً بحقوق القاهرة إلى أن فصله ثوار يوليو مع من فصلتهم من الجامعة واعتقلتهم سنة 1954.
حركة الأفندية
ليس من اليسير الحديث عن أي جانب من جوانب سيرة العلامة الشاوي بمعزل عن بقية جوانبها. فقد بدأ انخراطه في العمل العام بالتحاقه بجماعة الإخوان المسلمين وهي تخطو خطوتها الثانية "سنة 1938" بالدخول المباشر في معترك الحياة السياسية، استناداً على قاعدة واسعة من طلاب الجامعة المصرية؛ حتى أطلق عليها في الأربعينيات من القرن الماضي "حركة الأفندية" لكثرة الذين اجتذبتهم من طلاب الجامعة الحديثة، وليس من جامعة الأزهر العتيقة على ما كان متوقعاً من حركة تدعو الناس إلى العودة إلى منابع الإسلام الصافية باعتباره ديناً ودولة، ومصحفاً وسيفاً مسلطاً على رقاب الاستعمار الأجنبي.
وعمل الشاوي أول ما عمل في صفوف الإخوان المسلمين في "قسم الاتصال بالعالم الإسلامي" الذي أنشأته الجماعة لمتابعة قضايا التحرر والجهاد ضد الاستعمار.
يقول الشاوي في مذكراته" نصف قرن من العمل الإسلامي 19451995": عندما كنا نتكلم عن إحدى قضايا العالم الإسلامي فإنها كانت جميعاً في نظرنا قضية واحدة؛ هي قضية الوحدة والحرية للمسلمين جميعاً... وكانت أولها وأهمها قضية فلسطين".
كان الجهاد ضد الاستعمار هو المجال الأول الذي أخذ القسط الأكبر من حياة العلامة الشاوي، مقدماً نموذجاً نادراً للعالم العامل المجاهد . وفي البدء كانت فلسطين، وظلت على لسانه حتى آخر لحظة استطاع فيها أن ينطق به، وبعد أن ثقل عليه النطق كان يشير إليها بيده عندما يشاهد نشرات التلفزيون وهي تبث صور المذابح التي يرتكبها جيش العدوان الصهيوني على أبناء غزة، ودموعه تنهمر وهو مقعد على كرسيه المتحرك .
وكان آخر ما سمعته منه أن المقاومة هي طريق حرية فلسطين، وستنتصر وإن طال الزمن، وستعود لأهلها حتى لو تحالفت أوربا وأمريكا وأتباعهم في بلادنا للقضاء على المقاومة، فمآلهم إلى الفشل، ومآل المقاومة إلى النصر بإذن الله".
في سبيل حرية فلسطين أنفق الشاوي قسماً من جهده وبذل من أجلها جانباً من جهاده. وأسندت إليه قضيتها كمهمة أساسية له في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، وقبل أن يسافر إلى باريس في البعثة أفهمه حسن البنا "أن قضية فلسطين ستبقى هي مهمته الأولى" ؛ حيث كان الحاج أمين الحسيني المفتي الأكبر معتقلاً في فرنسا تحت الإقامة الجبرية.
وبالفعل لازمه الشاوي في باريس بدءاً من سنة 1946، ونجح في توثيق صلته بالإخوان إلى أن نجح في تهريبه إلى مصر بمعاونة أشخاص لم يفصح الشاوي عن أسمائهم إلى أن لقي ربه.
من أجل الحرية
ثم واصل الشاوي جهاده في سبيل تحرير البلدان العربية، وخاصة: فلسطين، وليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب. ونشرت مجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات أولى مقالات الشاوي وكانت عن تلك القضايا، وكانت أولها عن فلسطين، وثانيتها عن الجزائر بعنوان "طلائع المجد الطريف في أفريقيا الشمالية: ماذا فعلتم من أجلهم"(الرسالة العدد 630 30/7/1945)، ثم عن قضية ليبيا مقالة بعنوان" وطن الأحرار في سوق العبيد"( الرسالة العدد 735 8 سبتمبر 1947). واظب الشاوي على هذا النهج مدافعاً عن حق شعوب أمته في الحرية والاستقلال طيلة ما يقرب من سبعة عقود.
وكلما قلبنا في صفحات الجهاد الذي خاضته شعوب شمال المغرب العربي من ليبيا إلى المغرب، إلى جانب فلسطين، وسوريا ولبنان، واليمن، وجدنا اسم الشاوي حاضراً وفاعلاً ومؤثراً، ووجدناه على علاقة وثيقة بأهم رموز العلماء وقادة حركات التحرر الوطني في تلك البلدان بدءاً بالشيخ حسن البنا وعبد الرحمن عزام والدكتور طه حسين، والدكتور محمد صلاح الدين، وسيد قطب، وعبد القادر عودة، وغيرهم في مصر، مروراً بجميع قادة التحرر في شمال المغرب العربي، من خلال "مكتب المغرب العربي في مصر" ثم بالاتصال والعمل المباشر مع كثيرين منهم من أمثال الزعيم التونسي بورقيبة، والليبي بشير السعداوي، والغنوشي بعد ذلك.
ومن المغرب: علال الفاسي، والأمير عبد الكريم الخطابي، والملك محمد الخامس، والدكتور عبد الكريم الخطيب الذي توفي قبل نحو عامين وهو مؤسس حزب العدالة والتنمية المغربي وانتقل سنة 1958 إلى المغرب بناء على طلب من الملك محمد الخامس وحكومته ليعمل مستشاراً بالمجلس الأعلى للقضاء، وكان حلقة الوصل بين المغرب وزعماء الثورة الجزائرية الخمسة الذين اعتقلتهم فرنسا لحين الإفراج عنهم وإعلان استقلال الجزائر سنة 1963. وباستقلال الجزائر انتقل إليها، وعين مستشاراً للمكتب السياسي لقادة الثورة برئاسة بن بيلا، ومحمد خيضر.
وكان قد شارك قادة المقاومة الجزائرية منذ وقت طويل، ومنهم: الفضيل الورتلاني، ومصالي الحاج مؤسس حزب "نجمة شمال أفريقيا"، و"حزب الشعب الجزائري"، والبشير الإبراهيمي وغيرهم من زعماء الجزائر وصناديد الجهاد ضد المستعمر الفرنسي، واستمرت علاقته بالأجيال المتتالية من قادة الجزائر إلى نهاية حياته، فكان يذهب إلى هناك ويأتي، وكأن الجزائر صارت عنده "دمياط" مسقط رأسه!!، وفيها قسم من أهله(وكان الفضيل الوتلاني يذكره بأن قبائل الشاوية من أكبر قبائل البربر في الجزائر وأن له فيها نسباً وصهراً، ثم واصل تعاونه مع عباسي، مدني، وعلي بلحاج، ومحفوظ نحناح، والرئيس زروال، وعبد الحميد مهري، وعبد الله جاب الله، والشيخ سحنون، وغيرهم من قادة مختلف أطياف الاتجاهات السياسية في الجزائر في المرحلة الأخيرة، وظل هؤلاء يقدرونه ويجلونه، ويعرفون قدره، ويشكرون جهاده ووقوفه إلى جانب قضايا بلدهم لعقود طويلة.
اتحاد الكتاب
وفي الجزائر طرح فكرة إنشاء اتحاد للكتاب والمفكرين في ندوة "قضايا المستقبل" سنة 1995، وتطورت الفكرة بعد ذلك على يد عدد من العلماء كان في مقدمتهم الشيخ القرضاوي، حتى تأسس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
الميدان الثاني الذي جاهد فيه العلامة الشاوي، هو ميدان التربية والتعليم والعلم. فقد درس في الجامعة المصرية بكلية الحقوق، حتى سنة 1976 أستاذا ورئيساً لقسم القانون الجنائي، كما عمل في عديد من الجامعات العربية منها جامعة الرباط بالمغرب، والرياض والملك عبد العزيز بالسعودية.
وشارك منذ وقت مبكر في مطلع السبعينيات من القرن الماضي في تأسيس المدارس العربية الإسلامية الدولية، والاتحاد العالمي لتلك المدارس التي انتشرت في عديد من البلدان خارج السعودية مثل مصر وبعض البلاد الأفريقية.
لم تكن هذه هي أهم أعماله في هذا الميدان؛ بل أهم أعماله هي مؤلفاته وكتاباته الغزيرة التي تعتبر ثروة فكرية وفقهية وسياسية قل نظيرها لدى أي من العلماء والمفكرين خلال النصف قرن الماضي.
القائمة طويلة تحتاج إلى صفحات، فقط نشير إلى أن من أهمها على الإطلاق الآتي:

1 كتاب "فقه الشورى والاستشارة" وهو يقدم نقلة نوعية هائلة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، وسيظل هذا الكتاب مرجعاً لفترة طويلة في المستقبل نظراً لجدة الاجتهادات التي تضمنها، ولعمقها ورسوخ جذورها الشرعية، واستيعابها للقضايا المركزية التي تواجه العالم الإسلامي المعاصر.

2 كتاب " فقه الحكومة الإسلامية بين السنة والشيعة وقراءة في فكر الثورة الإيرانية"، وفيه تعليقات على كتاب الخميني "الحكومة الإسلامية"، وفيه أيضاً انتقادات لبعض الأفكار والاجتهادات التي طرحها الخميني في كتابه، إلى جانب مقارنات رصينة بين الفقه السياسي الشيعي، والفقه السياسي السني.
3 ترجمة كتاب "فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية" ، وهو في الأصل رسالة الدكتوراه الثانية التي حصل عليها الدكتور عبد الرزاق السنهوري من جامعة ليون بفرنسا سنة 1926.وفيه إلى جانب الترجمة، تعليقاته هو وزوجته المرحومة الدكتورة نادية السنهوري، كريمة الدكتور السنهوري، على الأفكار التي قدمها العلامة السنهوري في الكتاب، وأهمها فكرة "الحكومات الناقصة"، وفكرة عصبة الأمم الشرقية" التي كانت ملهمة لتأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي بعد حريق الأقصى سنة 1969، وإن كان مؤسسو المنظمة قد استوعبوا جانباً صغيراً من فكرة السنهوري، فجاءت المنظمة بلا حول ولا قوة كما نراها اليوم.
4 كتاب" الموسوعة العصرية في الفقه الجنائي الإسلامي"، في أربعة مجلدات، وهو ثروة فقهية وقانونية، كتبها شرحاً وتأصيلاً لكتاب التشريع الجنائي للشهيد عبد القادر عودة. وفي هذه الموسوعة قدم العلامة الشاوي نموذجاً في التأليف وإذكاء المطارحات الفقهية والقانونية بين عدد من العلماء منهم الدكتور محمد سليم العوا، والعلامة السيد إسماعيل الصدر الفقيه الشيعي الإيراني الأصل.
وفي هذه الموسوعة خطا العلامة الشاوي خطوة واسعة على طريق حل معضلات تقنين الاجتهادات الفقهية وتحويلها إلى مدونات قانونية يسهل على القضاة الرجوع إليها، والاستضاءة بها في أحكامهم، وفي تنزيل تلك الأحكام على الوقائع المتغيرة.
5 مذكراته "نصف قرن من العمل الإسلامي19451995"، وفيه قصة جهاده الطويل من أجل الحرية لبلده مصر، ولكل بلدان العالم الإسلامي، وخاصة بلدان شمال المغرب العربي كما ذكرنا . وهذه المذكرات ليست كغيرها من المذكرات التي يكتبها بعض السياسيين والزعماء والعلماء؛ الذين نجدهم في الأغلب الأعم يسهبون في قصص وحكايات طويلة بلا طائل، وذاتية/شخصية تطرح في نفس القارئ هواجس وما هو أكثر من الهواجس حول الهدف من كتابة المذكرات أهو لإثبات "الأنا الذاتية"، أم لاستخلاص عبرة الحياة، ودروس الزمن من منظور الجماعة الأكبر، والأمة التي ينتمي إليها صحاب المذكرات.
مذكرات العلامة الشاوي هي عبارة عن عمل إبداعي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، رغم أنها تسجل مسيرته الحياتية في ميادين الجهاد الفعلي، والكفاح الدائم لمصاعب الحياة ، وصروف الدهر. وإذا كان جلال أمين يقول إن تجربة حياة كل منا يمكن أن تشكل قصة رائعة تستحق أن تروى، وأنها تحتاج فقط إلى يد نحات ماهر يشذبها ويحدد معالمها كأنه يحدد معالم تمثال جميل، فإن العلامة الشاوي في مذكراته قد كشف لنا عن موهبة أخرى لا يعلمها كثير من الناس وهي أنه مبدع وأديب، وروائي من الطراز الأول، ورغم أن مادة هذه المذكرات هي مثل الجرانيت الصلد ؛ إلا أنه استطاع أن يشكلها في صورة بارعة وصادقة.
ولا يأتي ذكر الجانب الأدبي عند العلامة الشاوي إلا ونذكر بعض كتبه الأخرى التي تصنف ضمن "أدب الجهاد"، أو "أدب السجون" وأهمها رائعته المسماة "هندي في السجن الحربي" ، ورائعته الأخرى المسماة " كمين في مطار بيروت" " ورائعته الثالثة التي لم تكتمل للأسف التي كان يزمع تسميتها "عثرات وعصايات". وكلها من طراز أدبي رفيع المستوى، قد تجد في يوم من الأيام من يحولها إلى فيلم أو مسلسل درامي، تراجيدي أو كوميدي، أو ميليودراما أيضاً.
القانون الجنائي
للعلامة الشاوي كتب وكتابات أخرى كثيرة في مجال تخصصه الدقيق "القانون الجنائي"، وفي مجال الاقتصاد والبنوك الإسلامية، وفي السياسة الدولية، وفي تحليل ميكيافيلية السياسة الأمريكية تجاه العالم العربي تحديداً له كتاب " الدبلوماسية والميكيافيلية في العلاقات العربية الأمريكية".
أما الصحف والمجلات المصرية والعربية فقط واظب علي الكتابة في كثير منها منذ سنة 1945، إلى بدايات القرن الحالي، ومن أهمها: مجلة الرسالة، وجريدة المصري(الوفدية)، والشرق الأوسط اللندنية، والوفد الجديد، والمسلمون الدولية، ومجلة المجتمع الكويتية. إضافة إلى عديد من البحوث والدراسات المتعمقة في الفقه والقانون منشورة في: مجلة القانون والاقتصاد ، ومجلة المحامين(مصريتان)، ومجلة القضاء والقانون المغربية، ومجلة العلوم الجنائية بباريس.
رحل العلامة الشاوي بعد رحلة طويلة من الجهاد المتواصل. خرج من قريته "الغنيمية" مسقط رأسه ، وكان عمره ست سنوات، ليغالب الحياة وتغالبه لما يقرب من قرن من الزمان، وعاد إليها يوم الأربعاء الثاني عشر من ربيع الآخر 1430 8 أبريل 2009، ليوارى الثرى، بعد أن بلغ أكثر من تسعين سنة، ظل خلالها ذا همة عالية، وكرامة موفورة، وهامة مرفوعة. غلب كل من تصدى له، ولم يغلبه إلا حكم القدر. فقط "مصيبة الموت" هي التي أوقفت نبضات قلبه الذي استمر يهتف خلف النبي الأكرم، محمد صلى الله عليه وسلم هو:" قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين". فاللهم ارحمه برحمتك، واعف عنه، واجزه عنا وعن أمته خير الجزاء وأحسنه، واجعله من ورثة جنة النعيم.

مدارك
09-04-2009
-----------------------
خبير في العلوم السياسية-المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية/مصر
انظر
المؤتمر الإسلامي منظمة ورقية أم بداية للخلافة؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.