منذ أسابيع رحل المفكر المصري محمود أمين العالم، بعد أن قضى ثلثي عمره التسعيني في النضال السياسي والفكري والاجتماعي، وقد نعاه عدد قليل من المفكرين والإعلاميين العرب في حين تجاهلته جمهرة المثقفين، وهو سلوك محير خاصة من النخبة اليسارية تجاه عَلَم كان من أئمة الفكر عندها، بلغ مرتبة الاجتهاد، بل النجومية، وهو أمر مستغرب إذا قارنّاه بما خلفته وفاة المفكر المصري عبدالوهاب المسيري؛ إذ كانت الفجيعة به كبيرة أسالت حبرا كثيرا وأحزنت القلوب، ورغم أن مشايعي أمين العالم ومشيّعيه ليسوا بالضرورة هم أنفسهم مشايعي المسيري ومشيعيه، بما يرفع المفارقة، فأن يموت مفكر ميتتين بسبب قصر ذاكرة رفاقه وقرائه أمر يدعو للأسف والاعتبار. لقد كان محمود أمين العالم رجل المواجهات الفكرية والمراجعات الجذرية، وإن لم يكن وسطياً في السياسة فقد كان متوسطا بين المشاريع الفكرية العربية، نابذا وجهيها الليبرالي والأصولي رافضاً أية نزعة توفيقية بين الأصالة والمعاصرة، مفضلاً عليها عجينة من الفكرة القومية والاشتراكية العلمية. ورغم أنه لا يمكن الاستهانة بالقيمة النظرية لنقد محمود أمين العالم للمشاريع الفكرية العربية ليبرالية كانت أم سلفية والكشف عن حدودها وتناقضاتها الداخلية، يبدو أن المشروعين الليبرالي والإسلامي أشد تماسكا وأوسع أفقا وأطول عمرا وأقدر على التجدد مما توقعه محمود أمين العالم، في حين تعرض مشروعه الخاص إلى امتحان قاسٍ من الواقع، والواقع أصدق من الإيديولوجيا. عندما كتب المفكر المغربي عبدالله العروي كتابه «الإيديولوجية العربية المعاصرة» الذي قدم له المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون منوهاً بظهور صنف جديد من المفكرين أو بالأحرى نمط جديد من التفكير في وقت كان فيه التاريخ السياسي والفكر العربي محوره الزعامة ووقوده الإيديولوجيا ومسرحه الذي تدور عليه حركات الفاعلين الجغرافيا بريادة مشرقية وأصالة مغاربية. وقد كان حلم النهوض يدغدغ النفوس ويحرك القلوب والعقول بل لنقل حلم التأسيس وإعادة البناء على مثال هندسي جديد.. ثم كانت النكسة، والنكسة تعبير مخفف عن هزيمة نكراء جعلت القيادة في خجل من النتائج والعدو بجوارها يتبجح بالانتصار؛ ما جعلها بين خيارين أحلاهما مرّ: الانتحار وهو ما حكمت به الثورة على المشير عبدالحكيم عامر وحكم به على نفسه، أو الاستقالة وقد كانت ملاذ جمال عبدالناصر، في حين كان خيار الجماهير إدانة الخيانة والفساد ورفض الاستقالة وقد استمر عبدالناصر لأنه لم يسقط خيار الحرب... وكيف تلغي الأمة خيار الحرب والعدو على أرضها ومن داخل حدودها يعد للحرب القادمة؟ لم تدرك الجماهير مكمن الخلل ولا جذور الأزمة ولا حجم الكارثة. لا يبدو أنها كانت مستعدة للمحاسبة لكنها بالتأكيد كانت تتعجل الرد وتطلب إعداد العدة. لكن وقد حصلت الكارثة فقد كان للمفكر رأي آخر، فالهزيمة لم تكن حدثا عارضا وليست كبوة جواد سيستأنف السباق بملء طاقته، فهي محطة في مسار التراجع الخفيّ وهي عاصفة لم تسقط البنيان بقدر ما أسقطت الواجهة الجميلة التي ليس خلفها إلا الركام، فلم يكن بنيانٌ أصلاً.. فالبدلة العسكرية لا تصنع مقاتلاً، والثكنة لا تدل على وجود جيش قويّ، والإذاعة لا تبني دولة، والحشود لا تكوّن أمة، والأجهزة لا تغني عن المؤسسة، والخطب لا تنتج فكراً، فلا بدّ من العقيدة والاستراتيجية والقيادة والخبرة والتقنية والنظام والمؤسسة. ولم يكن الاستعمار يريد لنا وضع اللادولة وليس في حصيلة فكرنا السياسي آنذاك ما يخولنا أن نقيمها على أمتن أساس وأقوم مثال، ولكن كان يريد لنا أن نكون في وضع ما دون الأمّة، أي وضعية العجز عن استجماع شروط النهضة. إن مرحلة الشك التي بدأت مع عبدالله العروي لم تنته بعد، وحالة التشاؤم التي سيطرت على النخبة العربية لا تزال مستمرة وقد تعمقت مع الأيام خاصة بسقوط بغداد، إذ تعرض المشروع القومي العربي لعملية تدمير من الدّاخل والخارج خُشي منها على الوجود العربي أصلاً، ولولا الإسناد الإسلامي والسخاء الجهادي والإنقاذ الوطني لأُعدنا إلى العصر الحجري. وهكذا أريد لأمتنا التي اختُزلت حضارتها في برميل النفط واستُهزئ بإنسانها فلم تراعَ له ذمة ولا كرامة ولا تاريخ حتى أصبحنا في رتبة دون مرتبة أهل الذّمة، تُكدّس جُنديةٌ مغرورة منحرفة رجالَنا وشبابنا فوق بعضهم البعض عُراة مقيدين ويدنس جنود متغطرسون مقدساتنا وكتبنا وتنهب جهات مشبوهة وعصابات إجرامية آثارنا وعصارة عبقريتنا وثمار حضارتنا.. كل هذا الذي حدث صدّق بعض تحاليل عبدالله العروي، وقد كان للراحل محمود أمين العالم موقف متميز عن نُظرائه من المفكرين العرب فلم تأخذه الحماسة ولم يَهُلْه ما حدث، إذ رأى فيه مع سقوط النظام العراقي سقوط مشاريع فكرية وإيديولوجية كان يغذيها وتسنده. لقد ذهب سقوط بغداد بآخر الآمال حتى أن مفكراً مثل الدكتور الطيب تيزيني لم يجد تعبيراً ينطبق على الواقع العربي أبلغ من كلمة «الحطام العربي». فبعد أن أخفقت النهضة العربية إخفاقاتها المتكررة في أطوارها المتلاحقة، بل إن تاريخها ليس إلا تاريخ إخفاقاتها، بدأ المفكرون العرب ينتقلون من القراءة السطحية لأسباب الفشل وسبل التجاوز إلى قراءات جديدة أكثر عمقاً وتبين لهم أن المطلوب ليس فقط الاختيار بين إيديولوجيات ينفي بعضها البعض الآخر ولا الاصطفاف خلف أنظمة سياسية حاكمة يناوئ بعضها بعضا ولا الانحياز إلى صف معسكرات دولية تتفق على الأهم وتختلف في التفاصيل وكلها تُلغي وجودنا وترسخ وجودها بجرنا لأحلافها جراً، وهي تقتل الإنسان من أجل السّمن والعسل وتحتل الأرض أو تقيم القواعد العسكرية من أجل تأمين طرق التجارة وتدفق الطاقة. أدرك المفكرون العرب بعد خمسين عاما من كتابة عبدالله العروي لنصّه الجميل «الإيديولوجية العربية المعاصرة» أن أمامنا كعرب ومسلمين استحقاقات جديدة يسميها الطيب تيزيني «مركباً من الاستحقاقات»، إذ علينا أن تنجز مجموعة من المهمات التاريخية دفعة واحدة دون حتميات افتراضية مسبقة مع الإيمان العميق بوجوب النهوض وإمكانه. فالأمة مثلما راكمت الخيبات راكمت الخبرات، وأنتجت النخبة المؤمنة والمستنيرة التي ستحسن إدارة الأزمات والخروج منها وتوجيه مسار التغيير المنشود الذي يلبي انتظارات أمّة جريحة الذات مثقلة الذاكرة ولا شك في أن أقصر طريق إلى بناء الذات هو نقدها والثقة بها معاً. وجدير بالتنويه أن ما اختطه الراحل محمود أمين العالم في نقد المشاريع الفكرية العربية بدءاً بمشروع عبدالله العروي وصولاً إلى حسن حنفي مروراً بمحمد عابد الجابري والطيب تيزيني وحسين مروة وكريم مروة ومهدي عامل وصادق جلال العظم، يمكن أن يكون منطلقاً لحوار ومراجعات نحن في أشد الحاجة إليها، فجهود مخلصة لمفكرين وباحثين أمثال هشام جعيط وراشد الغنوشي وطه عبدالرحمن وأبي القاسم حاج حمد وأبي يعرب المرزوقي وعبدالمجيد الشرفي، وغيرهم من جيل الشباب من الإسهامات الجادة في طرح الأسئلة وتلمس الحلول لمعضلات الفكر والواقع العربيين المعاصرين ويُخشى أن يصيبها التجاهل والحجر أو يطالها النسيان فينقطع السند الفكري وتنفصم عرى التراكم المعرفي وحلقاته المتشابكة والموصولة. 2009-04-28 العرب