تعيش المؤسسة الدينية السعودية تحولات مهمة بعد الانقلاب الأبيض الذي شهدته إثر التعديلات الوزارية التي أجراها العاهل السعودي في منتصف فبراير الماضي، وطالت عددا من هيئاتها، حيث أدت التعديلات إلى إعادة تشكيل هيئة كبار العلماء لتتضمن جميع المذاهب السنية، بعد أن كانت حكرًا على المذهب الحنبلي، كما تم إعفاء كل من الشيخ صالح اللحيدان رئس مجلس القضاء الأعلى، والشيخ إبراهيم الغيث رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلها تغييرات تهدف بحسب المراقبين إلى إضعاف نفوذ التقليديين وتعزيز تيار الاعتدال والحوار. هيئة كبار العلماء فلأول مرة منذ تأسيسها قبل أربعة عقود، تدخل هيئة كبار العلماء السعودية مرحلة جديدة من التنوع المذهبي على المستوى السني، وهو ما سيسهم بشكل كبير في إخراج السعودية من دائرة الرؤية الشرعية الواحدة التي كانت مرتبطة بالمذهب الحنبلي، لتصبح الرؤية والفتوى تتم من خلال دائرة آراء أوسع وأشمل شرعيا، وبالإضافة إلى تعيين علماء يمثلون المذاهب المختلفة أعفي آخرون وجيء بآخرين في الأربعينيات من العمر بعضهم ينحدر من جنوب المملكة فيما كان الوجود الغالب دوما لعلماء منطقة نجد معقل حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. محللون رأوا في التعديلات (عملية جراحية) لهيئة كبار العلماء؛ فوجود طاقم جديد من خارج القدماء المهيمنين قد يسهم في سحب بعض السلطات من كبار علماء نجد المحسوبين على مدرسة الشيخ بن عبد الوهّاب. جانب مهم، لم يلق نصيبه من التحليلات التي تطرقت للتعديلات الوزارية، وهي أن تيار الصحوة الإسلامية أو "العلماء الصحويين" الذين تمددوا في كل الاتجاهات والأمكنة بعد مراجعاتهم وتحول خطابهم من الصدام إلي الاعتدال لم يحظوا بأي منصب داخل هيئة كبار العلماء، مما يشير أنه من المبكر جدا الاعتماد على هذا التيار أو إدخاله ضمن منظومة المؤسسة الدينية للدولة؛ وهو ما يؤشر إلى أن التعديلات ما زالت محدودة ومحكومة بسقف يبقى بها عند هدف إظهار المؤسسة الدينية وكأنها تمثل التنوع المذهبي السنّي في المملكة في حين ما زالت الكلمة العليا لأتباع المدرسة الوهابية. هذا الرأي يعضده تعيينات مجلس الشورى السعودي، التي ما زال حضور مشايخ نجد ممن يمثلون المذهب السلفي الوهابي فاقعًا فيها، مقارنة بنسبة تمثيل الأسماء التي تنتمي للأفكار والمدارس الأخرى. المؤسسة القضائية لم يكن إعفاء الشيخ صالح اللحيدان من منصبه، كرئيس لمجلس القضاء الأعلى، إجراء مفاجئا للمهتمين بالسلك القضائي، حيث سبق هذا الإعفاء خطوات تمهيدية صبت في تقليص سلطات الشيخ اللحيدان، كان أهمها تغيير مسمى مجلس القضاء الأعلى إلى المجلس الأعلى للقضاء، وحصر أعماله واختصاصاته في مهام ذات صبغة إدارية كتعيين القضاة وانتدابهم وترقيتهم وطريقة محاسبتهم وشؤونهم الإدارية، وهو ما اعتبر من الناحية العملية إضعافاً لسلطة اللحيدان الذي ظلّ مسيطراً على القضاة وعلى جميع درجات التقاضي طوال رئاسته للمجلس. غير أن أهم تغير وخطوة استباقية لإعفاء اللحيدان تمثلت في إنشاء المحكمة العليا والتي تماثل إلى حد بعيد محكمة النقض "أعلى سلطة قضائية"، وقد استقلت هذه المحكمة الجديدة عن رئيس مجلس القضاء الأعلى، استقلالاً تامًّا وارتبطت بالملك مباشرة. محللون ذهبوا أبعد من ذلك واعتبروا أن "الضجة" الإعلامية التي صاحبت فتوى الشيخ اللحيدان "إباحته قتل ملاك الفضائيات قضائيا" كانت ضمن الخطوات التمهيدية لإعفائه، إلا أن متابعين استبعدوا هذه الفكرة معتبرين إعفاء اللحيدان كانت حلقة من سلسلة حلقات تهدف للقيام بإصلاح شامل للمؤسسة القضائية بعد أن تنامى الشعور بأن المؤسسة القضائية من أكثر المؤسسات السيادية بالدولة تقليدية، ولاسيما أن من يتربعون عليها يصرون على إبقائها على ما كانت عليه، ويمانعون في تطويرها، حيث كان الشيخ اللحيدان أحد أهم المعارضين بقوة لنظام المرافعات ونظام المحاماة ونظام الإجراءات الجزائية الذي أقر مؤخرا. هيئة الأمر بالمعروف "بينما كان رجال الشرطة الدينية منهمكين في البحث عن أي مظاهر لمراسم عيد الحب تفاجئوا بمراسم من نوع آخر أزاحت رئيسهم الشيخ الغيث من منصبه"، بهذه الكلمات استهلت الصحافة الغربية خبر إعفاء رئيس هيئة الأمر بالمعروف، المؤسسة الدينية الأكثر جدلا والأعلى نسبه في التناول الإعلامي مقارنة بالمؤسسات الأخرى. القرار اعتبره البعض وقتها خطوة في اتجاه التغيير الذي ينتظر أنظمة وقوانين الهيئة،وبرغم أن الرئيس الجديد لا يختلف عن سلفه من الناحية الفكرية إلا أنه يختلف عنه بأمرين: أولهماالتاريخ الوظيفي؛ ففي حين كان الشيخ الغيث ابن الهيئة ووصل إلى رئاستها بعد أن تدرج في وظائف الحسبة نفسها وأسهم في صنع أهم قراراتها ونظمها ومهماتها وترسيخها، يبدو الرئيس الجديد على النقيض تماما؛ فهو كان يعمل كمستشار قضائي متفرغ بالديوان الملكي بالإضافة لرئاسته لبعض المؤسسات الخيرية، وهو ما يجعله جديدا على مؤسسة الحسبة إذ لم يسبق له أن عمل بها وهو سيجعله غير ممانع في تنفيذ الإصلاحات الجديدة. وفيما كان الشيخ الغيث شديد التأثر بتيار الحركية الإسلامية المسكون أصحابه بالرسالية في الدعوة لأفكارهم وآرائهم الدينية وبالحرص على الاحتفاظ بشيءمن الاستقلالية يبدو الرئيس الجديد أقرب للتيار الديني التقليدي الرسمي وهو تيار يكاد يتماهى مع السلطة في خياراتها لمعرفته بشبكة العلاقات الدولية المعقدة التي تواجهها، ولكن برغم ذلك لا يبدو أن مهمة الشيخ الحمين في تطويع جهاز الهيئة ستكون سهلة بالنظر لطبيعة الممانعة التي قد يتلقاها الحمين من قبل مؤسسات وعناصر الهيئة، وهو ما يعززه القول بأنه وبرغم مضي أكثر من شهرين على تعيينه إلا أنه لم يتغير شيء في طبيعة مهمات الهيئة التي حافظت على حضورها المعنوي والحسي في يوميات الناس. في المحصلة، يمكن القول إن التعديلات الأخيرة في المؤسسة الدينية السعودية أسهمت في نشوء مرحلة جديدة من التجاذب بين التيار الديني والمشايخ من جهة وما سواهم من مثقفين أو نخب ليبرالية من جهة أخرى، وهو الأمر الذي دفع بالمؤسسات الدينية إلى الدفع بقوة لإعادة مَرْكَزة دورها الذي تقلص بفعل الزحزحة الموضوعية التي تعرّضت لها نتيجة نشوء طبقا تجديدة منافسة سعت إلى تأكيد حضورها الاجتماعي والثقافي والسياسي واقتسام دور فاعل في عملية صنع الوعي والتوجيه في المجتمع السعودي. ---------------------- مراسل موقع إسلاميون في السعودية حسن عبده 29-04-2009