لطالما سألت نفسي كلما كنت أقرأ شيئاً لرسامة الكاريكاتير الفنانة أمية جحا عن سر تلك القوة التأثيرية لكلماتها والتي لا يمكن إلا أن تجلب الدمع لعيني القارئ مهما حاول التجلد وهو يطالع حروفها النازفة من الأعماق ويستشعر وقعها يدب في كل ذرة من كيانه.. وكان آخر ما كتبته أمية مقالاً قبل أيام شخصت فيه معاناة زوجها الذي كان طريح الفراش ينتظر فتح معبر رفح للتوجه إلى العلاج في الخارج، وتحدثت فيه عن دموعه التي قلما تترجل من عينيه، وكيف أنها تسللت من تحت جفنيه وهو يتحسس مكان الجرح الغائر في بطنه ويتنمى لو أنها كانت آثار رصاصة تلقاها وهو يقاتل.. ثم شاءت إرادة الله أن ترتقي روحه إلى بارئها بعد بضعة أيام على مقال زوجته وتحديداً مساء الأحد 3/5/2009 حتى هنا تبدو الأمور عادية.. فالمهندس وائل عقيلان زوج الأخت أمية جحا ليس أول ضحايا الحصار الصهيوفرعوني ولن يكون آخرهم، ومن اعتاد على سماع كلمة حصار لا بد أنه قد ألف بالضرورة وجوه مأساتها، وصارت أية إضافة لضحاياه مجرد رقم عابر لا يعني شيئا..! لكن وائل عقيلان المهندس والمحاضر الجامعي والكاتب ورئيس مجلس الطلبة السابق للجامعة الإسلامية وزوج الفنانة أمية جحا لم يكن رجلاً عادياً متعدد المواهب والمهام وحسب، بل كان فوق وقبل ذلك كله مجاهداً وقيادياً في كتائب القسام ومن رعيلها الأول الذي صاغ جانباً من أمجادها وتعرض لمحاولة اغتيال صهيونية سابقة قضى فيها عدد من رفاقه الذين سبقوه للشهادة.. وهو كذلك شقيق لشهيد مقاتل من سرايا القدس، ورفيق درب الشهيد رامي سعد الزوج الأول لأمية جحا الذي استشهد قبل ستة أعوام ذات معركة قسامية في الشجاعية.. وماذا أيضا؟.. كل من رامي ووائل استشهد في بداية أيار، وكلاهما كان عضوا في الوحدة القسامية المختارة 103. ولا غرو، فأمية كما قالت عن نفسها لم تكن لترضى الزواج إلا من مجاهد في سبيل الله، ومآل المجاهد معروفة سلفاً لكل من ارتضت الاقتران به.. الآن يصبح كنه ذلك السر جليا.. سر تلك الدفقة الشعورية الصادقة الكامنة في حروف أمية، وسر ملامح الإبداع والتميز في ريشتها، والأهم.. سر ذلك الإصرار الساكن في جوانحها وطاقة الصبر الهائلة التي تقابل بها مآسيها المتتالية..! فأمية تفيأت ظلال الجهاد وعاشته واقعاً وتنسمت عبير الشهادة من دم أقرب الناس إليها، ولامست جمر الفجيعة برحيل الأحبة، فكانت ترسم وتكتب وتحيا بوحي من تجليات الواقع وبنبض لا يجافي الفعل إنما يعبر عنه ويترجمه بشكل مباشر.. لم تكن أمية وهي تشخص مأساة شعبها بريشتها تطل عليها من بعيد كحال النخب والمبدعين الواقفين على هامش الأحداث، بل كانت تسطر نزفها وثورتها ويقينها، ولذلك.. فلم تكن صدفة أن يجتمع لديها هذا التأثير الساحر في حروف مدادها كما في خطوط ريشتها، تماماً كما لم تكن صدفة أن تختار دائماً الاقتران بمجاهد، ولا أن يصطفي الله زوجها الأول ثم الثاني بعده بسنوات في الشهر ذاته! في مثل هذا المقام لا يملك المرء الكثير من الكلام ليقال، ليس فقط لأن أمثال أمية أكبر من كلمات العزاء الخجلى ولا لأن قامات الشهداء أرفع من مقامات الرثاء، بل لأن صورة الشهادة والحصار في غزة واضحة الجلاء ولا تحتاج تفسيراً أو تحليلا، وتعبر عن نفسها كما تلخصها حكاية أمية حيث تنحصر خيارات الموت لدى أهل الرباط ما بين القضاء تحت وابل الرصاص أو تحت وطأة الحصار، وكلاهما شهادة..! وكانت مشيئة الله أن يلقى شهيد الحصار الأخير وائل عقيلان ربه وهو ملتصق بأرضه وثيابه لا تزال تعبق بغبار المعارك وصولات العز، فلربما لو قدر له أن يجتاز المعبر لعاجلته أيدي جلاوزة نظام الأمن القومي المزعوم قبل أن يصل إلى مبتغاه، ولمزقت جسده السياط وصعقات الكهرباء ولكانت مرارته وأهله مضاعفة، فاختار الله تعالى له هذه الميتة بين أهله ورفاق دربه السابقين واللاحقين وعلى مرمى حجر من خطوط الرباط الأولى التي كان يتوق إليها قبيل رحيله. وإن كانت أسباب الموت متعددة وهو واحد - كما قال الشاعر قديما - ففي غزة فقط – المتفردة في كل شيء – تتوحد أسباب الموت رغم اختلاف وجوهها لأن غاياته واحدة، تماماً كما تتعدد أسماء المتواطئين على حصار غزة وتتوحد غاياتهم وتتطابق سحناتهم ولكناتهم – وإن اختلفت – لأنها كلها غريبة عن ملامح الصامدين ،ودخيلة على أبجديات أهل الجهاد والشهادة.