إذا الشّعبُ يوما أراد الحياةَ *** فلا بدّ أن يستجيب القدرْ ولا بدّ للّيل أن ينجلِي *** ولا بدّ للقيد أن ينكسرْ ومن لم يعانقْه شوقُ الحياةِ *** تبخّر في جوّها، واندثرْ العرب في المشرق والمغرب يردّدون هذه الأبيات وخاصّة الأوليين منها... فكثير منهم يعرفون قائلها وكثير منهم يجهلونه... وكثير منهم يحمّلونها ما لا تحتمل فيعتبون على القائل تطاولَه على القدر (وكيف يستجيب) وكثير منهم يرونها كما أرادها الشاعر ولكن دون كثرة دراية بما أراد الشاعر في بعض الأحايين... وفي تونس بلاد أبي القاسم الشابي الذي قال هذه الأبيات تُغنّى الكلمات فيطرب الشعب - المدعو بالأبيات للحياة - على أنغامها حتّى يتمايل دون أن يفقه معنى الكلمات ودون أن ينتبه إلى عدم رضا الشاعر عنه، وقد رأى فيه هذا الانصراف القاتل عن الحياة الكريمة، وهذ الرغبة العجيبة في العيش بين الحفر، حتّى لقد فرّ منه ولجأ إلى الأرض يسألها "أيا أمّ هل تكرهين البشر؟!" فتجيبه على لسانه ودون مجاملة: أبارك في النّاسِ أهلَ الطُّمُوحِ *** ومَن يستلذّ ركوبَ الخَطَرْ وألعن مَن لا يُماشي الزّمانَ *** ويقنع بالعيش عيش الحَجَرْ ولجتُ الكتاب من بابه فألفيت كاتبه ابن خرّيج الأزهر الشريف قد فهم من أبيه المدرّس المربّي القاضي رحمه الله معاني الرحمة والحنان، وتعلّم منه أنّ الحقّ خير ما في هذا العالم، وأقدس ما في الوجود، وهو ما حفّزه – أحسب – على اجتناب المجاملة القاتلة، فكان صريحا إلى حدّ الإساءة إلى نفسه، إذ النّاس في أغلبهم لا يتواضعون للحقّ ولا يعترفون بالخطأ على مرأى من نظم شاعر مبدع في زمانه وعبر العصور... حاولت أن أصحب الشاعر فأغنم من شعره وأدبه وفلسفته غير أنّ زادي قد بطّأ بي، وعليه فأنا اليوم أنقل عنه انطباعا وليس فهما كي لا أرْمَى بالصواعق المرسلة من بعض المدافعين عن الشاعر بحميّة الجاهلية... رأيت أبا القاسم مخلصا لبلده ووطنه وشعبه - وأصدقاؤه في مقدمته - إخلاصا قد لا يأتي الدهر بمثله، ولكنّي عبت عليه في بعض الأحيان قساوته على نفسه أو لأقل عدم التحوّط لنفسه من لسانه، فكثيرا ما يردّد أقوالَ تدفع إلى الحيرة في ضبط لونه ومعرفة علاقته بربّه، وهو ابن الشيخ الأزهري الزيتوني رحمه الله تعالى... وهو إذ يفعل ذلك يلوذ دوما بالفيلسوف فيه، فيبيح للسانه على لسانه ما لا يصدر عموما إلاّ عن الفلاسفة الشعراء الذين كثيرا ما يهيمون في الأودية متّبعين الشياطين؛ حتّى يشكّك في قصيدته "إلى الله" في رحمة الله، بل حتّى يشكك في وجود الله: خبّروني، هل للوراء من إله، *** راحم – مثل زعمهم – أوّاهِ ..... إنّني لم أجده في هاته الدّن *** ا، فهل خلف أفقها من إلهِ وإنّي إذ أتفهّم وأرى بأنّ مرضه المطوّل كاد أن يكون عليه كفرا، فقد استغربت من الشابي وقفاته الكثيرة مع الوجود يبثّه فيها عدم راحته وخيبة ظنّه وظمأه إلى الحقيقة، ولولا رجعات سريعة منه إلى ذاته الرّيفية التقليدية لخلد بذهني منه تمرّد غير محمود على الوجود وعلى خالق الوجود نفسه، ولكنّ هذه الرّجعات السريعة تزيد من القناعة بأنّ المرض من ناحية والشعب الذي ظلّ في عينه صغيرا لاعبا بالتراب غير متناغم ولا منسجم معه ومع شعره غير مريد للحياة من ناحية أخرى قد أجريا على لسانه من الإبداع الشعري ما قد يمتّع غيره ويورّط نفسه علم ذلك أم لم يعلم... يقول في بعض رجعاته: يا إلهي! قد أنطق الهمّ قلبي *** بالذي كان، فاغتفر يا إلهي! قدم اليأس والكآبة داستْ *** قلبيَ المتعبَ، الغريب، الواهي فتشظّى وتلك بعضُ شظايا *** ه..، فسامحْ قنوطه المتناهي فهو يا ربّ معبدُ الحقّ، والإي *** مان والنور والنّقاء الإلهي وهو ناي الجمال والحبّ والأح *** لام، لكن قد حطّمته الدّواهي تلك بعض مؤاخذاتي على الشاعر المبدع الشابي، وقد ساءتني إساءته لنفس أبيّة كنفسه ولروح مرحة كروحه ولحبّ للحياة كحبّه هو للحياة، ولولا ذلك لما نقلت عنه إلاّ ما وصف هو به ثباته الحقّ: النور في قلبي وبين جوانحي *** فعلام أخشى السير في الظلماء .... من جاش بالوحي المقدّس قلبُه *** لم يحتفل بحجارة الفلتاء وأمّا الديوان، فلا تدخله حتّى تصير أسيره، فلا تفضّل على صناعته صناعة، وعلى على نظمه نظما، ولا على تنوّعه تنوّعا، ولا على نَفَس الإخلاص الذي فيه نَفَسا...، أحبّ الشابي الطبيعة فوصفها وصفا دقيقا موسيقيا شاديا، وعايش فجرها وصبحها وضحاها وظهرها وأصيلها ودجاها وصفاء سمائها وتلبّدها وبرودة طقسها واعتداله وحرارته، وصاحب الروض وأزهاره والطير وشدوه والنهر وخريره والشمس وسراجها والقمر ونوره والنجم ولمعانه... يتبع بإذن الله تعالى.....