في الآونة الأخيرة، تعاظم القلق حول وضع الدولار كعملة احتياطية دولية، وانهالت الدعوات إلى إنهاء دوره كعملة مهيمنة، مع ضرورة إيجاد البديل الأكثر استقراراً ورصانة لخدمة أغراض النظام النقدي الدولي . لجنة متخصصة للأمم المتحدة (برئاسة Stiglitze الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد) طالبت بإزاحة الدولار من موقعه، وتنادت معها كل من الصين وروسيا في هذا الموقف، وحتى مدير صندوق النقد الدولي قد صرح بأن استبدال الدولار كعملة دولية احتياطية أمر مشروع ويمكن حدوثه في الأفق القريب . وقد تسببت هذه الضغوط الاستباقية لمؤتمر قمة العشرين في لندن في إبريل/ نيسان ،2009 ظهور ارتباك واضح في الموقف الأمريكي حيث صرح (Geithner) وزير الخزانة بأنه “متفتح للاقتراح الصيني” ولكنه عاد مسرعاً إلى تغيير موقفه دفاعاً عن دور الدولار، ورافقه في ذلك محافظ البنك الاتحادي الأمريكي Bernanke . ونظراً للأهمية الكبرى التي يتمتع بها الدولار في هذا المجال، فإن الدعوة إلى إقصائه تعني بالضرورة إعادة النظر بمرتكزات النظام الراهن ذاته . إنها قضية كبرى ولا ريب، الأمر الذي يستدعي النظر إلى ما تنطوي عليه من أبعاد ومضامين تغطي بالتتابع مراجعة سجل تطور الدولار كعملة احتياطية رائدة، الأسباب الدافعة إلى محاولة إنهاء دوره، البدائل المتاحة لهذا الموقع، ثم الآثار المحتملة في حالة إقرارها . الموقع المتميز للدولار بين العملات الأساسية له ما يبرره . فبعد الحرب العالمية الثانية برزت الولاياتالمتحدةالأمريكية كأعظم اقتصاد عالمي، كما أن مساهمتها في التجارة الدولية والتمويل كانت الأكبر، وأن أسواقها المالية أضحت الأعمق والأوسع، إضافة إلى تعاظم نفوذها السياسي والعسكري دولياً . ولكن رغم استمرارية هذا الموقع الرائد، بدأت الضغوط تتعاظم على الدولار كعملة احتياطية . فسجل الممارسة للسنوات الفائتة يؤكد أن الدولار إذ بقي يقوم بوظيفته كوحدة حسابية وكواسطة للتبادل، إلا أن وظيفته كخزين قيمة قد أضحت مشكوكاً فيها . فتعاظم العجز في الميزانية الفدرالية تسبب في ارتفاع حادٍ في قيمة المديونية العامة إلى (11) ترليون دولار حالياً، ترافقه مديونية خارجية متزايدة باستمرار، إضافة إلى الاستهلاك غير المنتج الذي فاقم في تدني الادخارات إلى قريب الصفر . فخلال السنوات الخمس الأخيرة، زاد الإنفاق الكلي بنسبة (20%) من الدخل الوطني . كل ذلك انعكس على قيمة الدولار التي وصلت إلى (38%) مقارنة بسنة 1980 . خلاصة الحقيقة الكبرى هنا أن أيّ اقتصاد لن يستطيع أن يديم عجزاً ومديونية كما فعل الاقتصاد الأمريكي . ورغم ذلك بقي المحتفظون بأرصدة دولارية متمسكين بها ليس رغبة منهم في ذلك بل لكونهم دائنين فيها . إن تكلفة الاحتفاظ بهذه الأرصدة قد أضحت عبئاً ثقيلاً على أصحابها لعلو كلفتها لهم ولمصّدر الدولار ذاته . وبالنسبة للدول النامية بخاصة، فقد ثبتت عدم عدالة “نظام الدولار” . فما هو البديل المطلوب؟ سمتان حاكمتان يجب أن يمتلكهما البديل . الأولى، أن يكون قادراً على تحقيق الاستقرار الاقتصادي، تعزيز استمرارية الإمكانات الاقتصادية، والعدالة الدولية . الثانية، أن لا يكون خاضعاً لتوجيه من قرارٍ وطني معين . بالممارسة، الدولار فقدهما معاً . تقرير قريب قدمته لجنة الأممالمتحدة يشير إلى أن سجل الدولار كان “نسبياً كثير التقلب، انكماشياً، غير مستقر، وترافقه عدم العدالة” . بالمقابل، فإنه بقي رهناً لتوجيه مصلحة سلطته الوطنية والالتزام بقراراتها .
ونتيجة لهذا الإحباط الشامل، جاء التأكيد في التغيير على القاعدة المبدئية وهي أن يكون البديل المختار متمثلاً في “سلة” من العملات الاحتياطية الدولية لكي لا يسهل التأثير في مساره من قبل سلطة منفردة، كما أنه يتمتع “بديناميكية توازن” ذاتية متأتية من التأثير المتقابل الذي تمارسه عملات السلة مع بعضها . بالإضافة، مطلوب من القرار أن يكون فاعلاً في التخفيف من الصعوبات التي يسببها عدم التماثل في التسوية بين أقطار الفائض وأقطار العجز . وفي هذا السياق، تبرز ثلاثة خيارات للبديل: حقوق السحب الخاصة (SDR's)، اليورو، وعملة أحادية تمثلها الصين . وتشكل حقوق السحب الخاصة “النموذج المثالي” للاختيار . فهي “عملة حسابية” تمثل تحويلات ائتمانية من دول الفائض إلى دول العجز، تحصل دفترياً وتقيّم على أساس “سلة” من العملات الاحتياطية الرائدة، واختيارها لا يثير حفيظة أو تحفظ دولة لموضوعية تكوينها، وإنها قد تكون أداة فاعلة لمساعدة الدول النامية، إضافة إلى أن لها تمّرس في تجربة طويلة منذ إصدارها الأول في 1/1/1970 . بالمقابل، ما يؤخذ عليها أن حجمها الكلي بقي محدوداً جداً وغير وافٍ للسيولة والالتزامات الدولية، لا يغطي عملات الدول الناشئة وهي الصين والهند والبرازيل . أما اليورو، فهو بدوره مرشح قوي ويشكل حالياً في الأقل نسبة (27%) في الاحتياطات الدولية، كما أن اتجاه نموه يبدو متصاعداً، لكنه يعاني من جملة محددات قد لا تجعله قادراً على زحزحة الدولار عن عرشه في وقت قريب . هذه المحددات تتضمن ضعف الانسجام في منطقة اليورو، وعدم اندماج اليورو في العديد من الممارسات المالية فيها، واختلاف سياسات الدول الأعضاء وأحياناً إلى حد التناقض . بالمقابل، الحجم الاقتصادي حالياً لمنطقة اليورو يشكل منافساً قوياً لموقع الاقتصاد الأمريكي: (9،11) ترليون دولار مقابل (8،13) ترليون دولار للناتج المحلي الإجمالي في 2007 . بالنسبة للعملة الصينية، فإنه رغم ضآلة مساهمتها الحالية كاحتياطي دولي .
ومن أجل تحديد موقف التوجه المستقبلي للدولار كعملة احتياطية مهيمنة، ينبغي التمييز بين أمرين: الهدف المرغوب، وتحديد مساره . من حيث المبدأ، فإن قرار التحول من الدولار إلى “عملة” احتياطية مختلفة أضحى قناعة شبه شاملة، هي الآن مطلب دولي . يقابل ذلك أن الغموض والتشابك يكتنف اكتشاف الطريق إلى تحقيقه، وهذا هو بيت القصيد . فالاعتبارات المتباينة والفاعلة في المسار قد تؤدي إلى تأخير استلام البديل الاحتياطي لموقعه القيادي، ولكنها لن تلغيه . ومما لا شك فيه أن الموقف الأمريكي سيكون حاسماً في تأثيره في اتجاه ومسار القرار . من حيث المبدأ، التحول عن الدولار سيدفع بالسلطات الأمريكية إلى اتخاذ موقف حازم دفاعاً عن هيبة عملتها . فالتخلي عن موقع الدولار القائم كعملة احتياطية مهيمنة سيعرضها إلى صعوبات هائلة، إن لم نقل كارثية، على الصُعد كافة، إضافة إلى مقامها ونفوذها الدولي . إنه موقف في غاية الصعوبة لعمق تعقيده وسعة مضامينه، كما يبدو جليّاً من عرضٍ لبعض “نماذج” القضايا والمشاكل التي يمكن توقعها . أولى هذه القضايا هي تلك المتعلقة بالأرصدة الدولارية الهائلة المملوكة من قبل بعض الدول (مثلاً، الصين لديها 953،1 بليون دولار تليها اليابان بمبلغ 019،1 بليون دولار)، حيث يصعب حالياً التكهن بسلوك مالكيها . الثانية، فإنه حتى أن استطاع حتى الآن الاقتصاد الأمريكي أن يتمكن من الحصول على احتياجاته من السلع والخدمات من الخارج بمجرد إصدار جديد لعملته، ولكن عند انحسار الدولار وتصبح أمريكا دولة “عادية”، حينئذٍ سيتحتم عليها الاقتراض لبلوغ حصادٍ مماثل .
ثم نزيد على ذلك، ونتساءل: الاقتصاد الأمريكي يتحمل الآن أعباءً غير مسبوقة بسبب تعاظم تكاليف “الانفتاح العسكري” الدولي الواسع للاستراتيجية الدفاعية الأمريكية . حالياً، يجري تمويل هذا الانفتاح في معظمه عن طريق زيادة الاقتراض وبالتالي المديونية الداخلية والخارجية للميزانية العامة . ومما يزيد الأمر صعوبة أن هذا يحصل في ظروف أزمة مالية مرهقة وكساد اقتصادي شامل والذي تطلبت مواجهته قيام البنك الاتحادي بضخ مبالغ هائلة إنقاذاً للمؤسسات المالية المتعثرة . من ناحية ثانية، فإن الإسقاطات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن انحسار دور الدولار ستكون ولا ريب قاسية على المجتمع الأمريكي . دون شك أنها ستؤدي إلى إحداث انخفاض واضح في المستوى المعيشي للغالبية من سكانه . في إطار التصور، يبدو أن مصير الفرد الأمريكي قد أضحى فعلياً أكثر قلقاً وعدم يقين مما يمكن أن يعتقده أكثر المراقبين . إصلاح النظام النقدي القائم وحدوده قضية أخرى ستكون موضعاً للمداولة . القرار على هذا الصعيد لن يتوقف عند مستوى التعاون الدولي المتحقق وحسب، بل إنه يرتبط بخلفيات سجل ممارسة النظام التاريخية والراهنة والتي شهدت هيمنة شاملة على اتجاهاته من خلال السيطرة على مركز إدارته المتمثل بصندوق النقد الدولي . هذه تساؤلات حيوية مازالت تنتظر الإجابة الشافية . غير أنه في حومة هذه الضبابية تبرز قناعة مبدئية: إن التحول عن الدولار كعملة احتياطية مهيمنة أمر قادم لا محالة . القضية القائمة تتعلق بمسألة “التوقيت” . وهذا أمر يتحدى القرار الدولي الجماعي وينتظره في آن واحد . د . باسل البستاني *نقلا عن جريدة الخليج الإماراتية