استطاع الناشط السياسي التونسي والمفكر الإسلامي راشد الغنوشي ان يتجاوز موطنه تونس في تأثيره السياسي والفكري. ولعل تجربته السياسية في بلده ساعدت على ذلك. فقد حكم عليه بالسجن مرات عديدة قبل وصول الرئيس التونسي زين العابدين للحكم عام 1987 وبعده. وحكم بالسجن المؤبد عام 1992 لكنه فر إلى الجزائر، ومنها إلى السودان، وهو مقيم حالياً في لندن. وله مؤلفات عديدة أشهرها "الحريات في الإسلام" الذي رفضه الكثير من الإسلاميين المتحفزين. ولعل من أهم ما ينادي به الغنوشي هو ما يتعلق بتساوي المواطنين في حقوق المواطنة بغض النظر عن مذاهبهم أو ديانتهم. أسهمت في تكوين الرؤى الفكرية والمرجعية الغنوشية عدة بيئات وعدة مصادر فكرية ،اذ درس الغنوشي في جامع الزيتونة، ثم درس الفلسفة في جامعة دمشق، ثم جامعة السوربون في باريس، والتي لا شك انها بيئات دينية وعلمية اسهمت في تكوين فكره الإسلامي والسياسي ما يذكرنا بأهمية الوسط العلمي وروح المدينة في صقل الفرد وتكوين رؤاه. عند عودته إلى وطنه بعد غربة طويلة بدأ نشاطه الدعوي وسط الطلاب وتلاميذ المعاهد الثانوية وعامة الناس في المساجد ونوادي الثقافة. وتشكلت ممن استجابوا له النواة الأولى للجماعة الإسلامية التي عقدت مؤتمرها الأول عام 1979 حيث انتخب الشيخ الغنوشي رئيسا لها، ثم تطورت الجماعة إلى حركة الاتجاه الإسلامي عام 1981 إذ طالبت باعتمادها حزبا سياسيا، لكن الرد كان حملة اعتقالات ومحاكمات.وفي عام 1988 أعيد تشكيل الحركة في صيغة جديدة "حركة النهضة" في مسعى للتوافق مع قانون يحظر تأسيس الأحزاب على أساس ديني، إلا أنه رفض اعتمادها مرة أخرى. حوكم الغنوشي بسبب نشاطه الدعوي والسياسي عدة مرات كان أهمها: عام 1981 إذ حكم عليه بالسجن 11 عاما قضى منها أربعة. عام 1987 إذ حكم عليه بالسجن مدى الحياة، إلا أنه أفرج عنه بعد عام ونصف إثر الانقلاب على بورقيبة، ثم ما لبث أن غادر البلاد وتشديد التضييق عليه، وهو منذ العام 1991 يقيم في بريطانيا لاجئا. عام 1991 إذ حكم عليه غيابيا مرة أخرى بالسجن مدى الحياة عام 1998 إذ حكم عليه غيابيا أيضا بنفس الحكم السابق. العلمانية الغنوشية يقول الغنوشي عن العلمانية في مقالته(الاسلام والعلمانية) "من أكثر المفاهيم الاجتماعية والسياسية والفلسفية التباسا. وبالنظر إلى منشئه الاوروبي يمكن اعتباره ثمرة جملة من التسويات الاجرائية جاءت لحل مشكلات مستعصية في البيئات الغربية تتمثل اساسا في ما حصل من تنازع طويل مدمر على السلطة بين الملوك ورجال الدين، وتنازع كذلك بين هؤلاء وبين تيارات الفكر الحر التي نشأت متأثرة بأصداء وترجمات آثار يونانية وإسلامية تعطي للعقل مكانة متميزة مقابل قيود ووصاية الكنيسة". ويجد الغنوشي فرقا واضحا بين العلمانية الشاملة من جهة والعلمانية الاجرائية أو الجزئية من جهة ثانية. فلا يسعنا إلا ان نتفق مع الغنوشي في رفضه لعلمانية نيتشه التي تعلن موت الاله، ورفض وجودية سارتر التي ترى تصادما بين الحرية والإيمان. فيرى الغنوشي ان علمانية نيتشه وسارتر "تجاوزت مستواها الاجرائي الذي بدأت به ممثلا في حرية العقل وفي الفصل بين الدين والدولة إلى المستوى الفلسفي أو العلمانية الشاملة، مقابل العلمانية الجزئية بلغة المرحوم عبدالوهاب المسيري". ويرى "ان العلمانية هذه بصفتها حرية مطلقة للعقل في البحث والنظر والتجربة لا يعترضها من مصادر الإسلام معترض ، ويشير الغنوشي الى (ان العلمانية الجزئية تجد لنفسها مكانا في تصور إسلامي اعترف بنوع من التمايز بين المجال السياسي أو الدنيوي الذي يدور على جلب المصالح ودرء المفاسد من جهة، والمجال الديني وبالخصوص التعبدي من جهة أخرى، والذي لا سبيل في كلياته وجزئياته غير سبيل الوحي من عقائد ومقاصد) مستلهما الحوادث التاريخية والسنن النبوية وخصوصا المشهور منها، وقدر تعلقها بإدارة شؤون الدنيا، والتي يمكن الاستناد إلى ضرورتها كنهج فكري وعقلاني إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمور دنياكم" مخاطبا فيه المسلمين الذين اشتكوا اليه عدم نضج التمر بعد ان اتبعوا نصيحته بعدم ضرورة تلقيح النخل. التعددية والمواطنة يقول الغنوشي بشأن التعايش والاعتراف بالتعدد (ولأن هذا المجتمع متعدد الجماعات العرقية والدينية فإن المتساوق مع دين جاء بتكريم الانسان بالعقل والحرية أن يعترف بهذا التعدد ويعمل على تنظيمه إذ ليس من مهمة الدولة إعطاء شهادات الميلاد أو الوفاة للجماعات التي يتكون منها مجتمعها وإنما الاعتراف بها على ما هي عليه والعمل على تدبير التعايش السلمي والتعاون بينها وتنمية الروح الجمعية على أساس المساواة في المواطنة . ولهذا الغرض سن النبي الحاكم عليه السلام الصحيفة لتنظم هذا المجتمع المتعدد على أساس الاعتراف به"لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"المادة25 ورغم أن الصحيفة قد تضمنت ما يحتاجه هذا المجتمع من مبادئ وقواعد تنظيمية والتي تبقى مفتوحة للبناء عليها والتوسع فيها بحسب ما يستجد من تعقيدات إلا أنها مثلت سابقة مهمة على أكثر من صعيد)اذ يرى الغنوشي ان دولة الرسول (ص) احترمت التنوع وبنيت على اساس (الاعتراف بالواقع المجتمعي التعددي:لقد وقعت الجماعات التي ذكرتها الصحيفة بأسمائها واحدة واحدة( وعددها عشرون جماعة. تسع مسلمة وإحدى عشرة غير مسلمة) وقعت ما ورد في الصحيفة من مواد وعددها سبع وأربعون مادة. فلم تشطب جماعة منها ولا حكمت عليها بالنفي ، بما في ذلك المشركون الذين ورد ذكرهم في المادة 20. فلم يفرض عليهم مغادرة شركهم الى التوحيد كل ما اشترط عليهم الوفاء بولائهم للدولة فلا (يجيرون مالا لقريش ولا نفسا) العدو الاساسي للدولة.) يقول الغنوشي (لقد كان لهذه النشأة التعددية للمجتمع الاسلامي النموذجي تأثيره على امتداد المجتمعات الاسلامية رغم كل ما حصل من ضروب انحراف . وهو ما حد من سلطان الدولة الاسلامية التاريخية على الناس فتركت الناس وما يختارون من دين ومذهب ، وهو ما يرسي سوابق جيدة لتاصيل المفاهيم الحديثة للمجتمع المدني وللتعدد السياسي. إن مجتمع الاسلام لا يتشكل من أفراد وإنما من جماعات تحرص الدولة على رعاية التضامن بينها والتعاون والتعامل معها باعتبارها مقومات أساسية لحفظ الكيان العام وقيام المجتمع في المحصلة بذاته، وهو ما تطور في آخر خلافة اسلامية لما عرف بنظام الملل العثماني ) وعن المواطنة يقول الغنوشي (المواطنة والولاء للدولة أساس الحقوق والواجبات: رغم أن الاسلام هو مرجعية الدولة (وأنكم ما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده الى الله والى محمد(المادة23)، فإن المواطنة بمعنى حمل جنسية الدولة الاسلامية قد خولت أيضا لغير المسلم مهما كانت ديانته، بما يجعله جزءا من الامة الاسلامية شان قبيلة بني عوف اليهودية"وأن يهود بني عوف أمة مع المومنين. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم).