يعود ملف النهضة، الحركة الإسلامية السياسية التونسية، إلى السطح بأبعاده الحقوقية والإنسانية وكذلك السياسية. فقد تراكمت مؤشرات إيجابية طوال السنوات الأخيرة توحي بأن قضية هذه الحركة قد تراوح مكانها، وتسلك طريقها لحلّ لن يكون بأيّ حال إلا جزء من حلحلة الانغلاق السياسي بالبلاد. وقد كانت أحد أهم وآخر هذه المؤشرات ما شهده شهر نوفمبر الماضي من إطلاق لسراح آخر دفعة من مساجين حركة النهضة بتونس بأجساد أنهكتها الزنزانات والرطوبة والأمراض، وذلك بعد سنوات طويلة من رحلة العذاب الممنهج والاضطهاد. ومع ذلك فقد عبر المسرحون عن معنويات عالية واعتزاز بتجربة نضالية طبعت تاريخ تونس المعاصر. فقد بقيت هاماتهم منتصبة، شامخة تحمل نفوسا أبية لم تفقد الإيمان بثوابت المشروع الإسلامي وتوقه للحرية والانعتاق والعدالة، والاستعداد للتضحية في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، على الرغم من كل الآلام والتضحيات. وقد توقعت أوساط سياسية تونسية أن تحمل هذه الخطوة خصوصية رمزية، فاتحة صفحة جديدة في العلاقة بين السلطة وحركة النهضة الإسلامية. لكن لم تدم فرحة المساجين طويلا، إذ أعيد الدكتور الصادق شورو، الرئيس السابق للحركة والأستاذ المحاضر بالجامعة التونسية، للسجن بعد أن قضى فيه ثمانية عشر عاما، ولم يمر على خروجه منه أكثر من شهر. هذا الحدث غير المتوقع دفع بعض المتابعين إلى اعتبار أن السلطة لا تزال تواصل توخّي الحل الأمني مع الطرف الإسلامي، وهي مستعدة لفتح سجونها من جديد لأبناء هذا التيار السياسي، عندما ترى ذلك ضروريا لمحاصرته. لكن البعض الآخر يعتبر أن ذلك قد تمّ بدفع من عناصر استئصالية متورطة ومستفيدة من حالة الانغلاق السياسي، متجاهلة استمرار واقع الإحباط العام، والاستقالة الكلية، التي باتت تهدد الحياة السياسية. وما يعنيه أيضا من إشاعة للرّعب، وإضعاف للمعارضة، ودعم لثقافة الحزب الواحد، وتكريس لسياسة الموالاة، وإقصاء للخصوم السياسيين. وفي المقابل بحثت فئات واسعة من شباب تونس المتعطش للحرية عن مسالك خاطئة للتعبير عن مطالبه (ظهور عبدة الشيطان، والهيستيريا الرياضية، وانتشار العنف الفردي والمنظم الإجرامي والسياسي). بيد أن الخضوع لإكراهات الخيار الاستئصالي في التعامل مع كل توجه سياسي تحرري في البلاد، ينفي كل إمكانية جادة وحقيقية للتنافس الانتخابي النزيه، سواء تعلق الأمر بالاستحقاقات الرئاسية أو التشريعية، كما علقت على ذلك أطراف سياسية معارضة عديدة. مضيفة أنّ ما جاء من تنقيحات دستورية في شهر مارس الماضي يعدّ نكسة أخرى للحياة التعددية، وتكريسا لسياسة الإقصاء التي تمارسها السلطة لتدعيم هيمنتها، ومذكرة بالخصوص بأنّ هذه التنقيحات تقوم على مقاس السلطة وما يناسبها من إجراءات في كل دورة انتخابية. كما يرى أغلب المراقبين للشأن السياسي في تونس أنّ الإسلاميين أظهروا اليوم أن لا إمكان لاستثنائهم من الحقّ في التعبير والتنظم والمشاركة في الحياة السياسية، إذ إنّهم يعتبرون أن لا سبيل لديمقراطية حقيقية دون تشريكهم. كما يرددون أنّه لا مصداقية لتجربة ديمقراطية لا حضور فيها لتيّارهم، الذي يمتلك وجودا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا واسعا. ويرى الكثير من السياسيين والمثقفين في البلاد أنه يستحيل أن تتواصل سياسة الإقصاء، وأنّ على السلطة أن تترجم شعاراتها المتعلقة بالديمقراطية إلى ممارسة حقيقية، وأنّ أحد شروط تأمين مقومات الاستقرار والنهوض الديمقراطي يستوجب التصريح بتمثيل سياسي وقانوني للتيار الإسلامي في البلاد. كما أنّ ذلك يستوجب أيضا تأمين شروط الانتقال الديمقراطي، وحل الملفات الاجتماعية والسياسية العالقة. وحتى نستوضح ذلك جليا فانه من الجدير التنويه بالمسائل التالية: 1. لقد أثبتت التجربة وبعد عقدين من الزمن أنّ حركة النهضة تمثل بتاريخها ونضالها وانتشارها وتجذرها أحد أهمّ المكوّنات الأساسية في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي التونسي. ورغم حالة الصدام والمواجهة الشرسة مع النّظام القائم، وما تعرّضت له الحركة من تشريد واضطهاد وتهجير قسري وسجن طال الآلاف من أبنائها وقياداتها، فقد حافظت على ثوابتها وأهدافها، ولم تثنها أساليب القمع ومحاولات الإقصاء والاجتثاث النهائي عن قناعتها بضرورة بناء المشهد السياسي، وفق أسس حديثة، وعن البحث عن حل في إطار انتقال ديمقراطي شامل. فهذه الحركة التي بلغت عقدها الثالث كانت قد طالبت منذ بيانها التأسيسي سنة 1981 بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتوزيع العادل للثروة والمصالحة مع الهوية العربية الإسلامية. ورغم المحن المتمثلة في السجون والمنافي والاستشهاد فإن ما تصرح به مؤسّساتها اليوم، وما تتضمّنه بياناتها، لم يخرج عن الأهداف التي أعلنت عنها منذ التأسيس. بل لقد زادت قناعتها بهذه المطالب، باعتبار الحاجة الحقيقية للديمقراطية والحكم الرشيد، والتي بات يعبّر عنها الواقع التونسي. 2. إنّ ما تعرض له المساجين وعائلاتهم من تعذيب وتعامل لا إنساني مؤلم ومرير سيظلّ ملفا مفتوحا ما لم يعالج معالجة حقيقية. هذا إضافة إلى أن المسرّحين من السّجون مازالوا يعانون من البطالة، والحرمان من التغطية الصحية والاجتماعية من جهة، ومن عدم الحصول على جوازات السفر وحرية التنقل والنشاط السياسي، وحقوقهم في المواطنة بصفة عامّة من جهة أخرى. بل مازالوا يعانون إلى الآن من المحاصرة الأمنية والحرمان حتّى من مجرّد حضور النّدوات الفكرية والسياسية والمظاهرات السلمية المساندة، بما فيها تلك التي نظمت مساندة لغزة. فمعالجة هذا الملف معطّلة في جانبها الإنساني، وبعيدة عن الانتظارات في حدودها الدنيا. كما إن الذين اضطروا إلى الهجرة وواجهوا النّفي القسري قد حرموا من حقّهم في عودة كريمة، بعيدا عن المحاكمات أو الالتزامات أو المساومات سرية كانت أم علنية. هذه الملفات الإنسانية والحقوقية مازالت لم تسوّ، وذلك على خلاف ما ذهب إليه بعض المقربين من السلطة في تصريحاتهم (مثلا الحوار الذي أجراه الصحفي محمد الحمروني مع برهان بسيّس لجريدة العرب القطرية). ولا يفوت الواعي والمثقف بالمناسبة التأكيد على أهمية حلّ الملفات الحقوقية والإنسانية كمقدمات أساسية للحل السياسي. 3. إنّ السلطة التونسية مستمرة في اعتماد سياسة الانغلاق وتوخي الحل الأمني في تعاملها مع المعارضة عامة ومع الإسلاميين على وجه الخصوص (استدعاءات متكررة للمعارضين لسياسات النظام، مراقبة أمنية لصيقة وعلى الصحف ومقرات الأحزاب، منع من حضور التظاهرات السياسية والحقوقية، سجن الدكتور الصادق شورو ومحاكمة الموقوفين في المظاهرات السلمية بالحوض المنجمي بمناطق الجنوب الغربي التونسي...). وقد فشلت سياسة الاستئصال عامة وعجز هذا الأسلوب عن تحقيق أهدافه سيما وأنّ المحيط الدولي يدفع في اتجاه دمج الإسلاميين والاعتراف بهم. وقد حصل ذلك في الجزائر مع حركة مجتمع السلم والإصلاح والنهضة، وفي المغرب من خلال حزب العدالة والتنمية وحزب الإصلاح الديمقراطي بموريتانيا. رغم هذا التحول الإقليمي وما أثبته أجوار البلاد التونسية من نجاح تجربة تشريك الإسلاميين، فان السلطة في تونس مازالت مصرّة على الإعراض عن الحوار، والإحجام عن قطع الخطوة التاريخية نحو المصالحة الحقيقية مع التيار الإسلامي، والاستجابة للنّداءات الوطنّية والإشارات والتّصريحات والمبادرات الإيجابية الصّادرة عن رموز حركة النهضة التونسية في الدّاخل والخارج. هذه المواقف التي ما فتئت تؤكد على ضرورة الانتقال الديمقراطي، وعلى استعداد الحركة للتفاعل الايجابي مع كل خطوة في هذا الاتجاه، وتأكيدها في الوقت نفسه ثباتها على النضال من أجل حقها في التواجد القانوني، والتعبير عن رؤاها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. 4. يعدّ ملفّ الإسلاميين بتونس قضية محورية في الحياة السياسية لما تمثله الحركة من عنصر إثراء وتوازن، وليس عقبة في طريق الإصلاح الديمقراطي كما قد يروجه بعض الاستئصاليّين المتهرئين، الذين يدافعون عن المكاسب العلمانية على حساب الحريات والديمقراطية، والمستفيدين من الوضع القائم بدون وجه حق. لذلك يرى البعض أنّ التّسوية السياسية لهذا الملف تعدّ المدخل لحل الأزمة العامّة التي تهدّد مستقبل البلاد السياسي والاجتماعي. ويضيفون أنّ تسوية وضعية حركة النهضة لا يمكن أن تكون مجرد صفقة ثنائية، وإنّما هي مسار حقيقي وحثيث لانتقال ديمقراطي لا إقصاء فيه ولا وصاية لأيّ طرف على مقدرات البلاد التونسية، ومكوناتها السياسية والاجتماعية والفكرية. كما يرى كثير من السياسيّين اليوم أنّ الإسلاميين هم ضحايا الاستبداد وغياب الديمقراطية وهم الأكثر معاناة. في حين يرى الإسلاميون أنّ المطلوب من الذين يطالبون هذه الحركة بتقديم تنازلات هو التّوجه للنّظام وإقناعه بأهميّة وضرورة الإصلاح الدّيمقراطي. إنّ فسح المجال لكل الأطراف للتّعبير والتّنظّم وضرورة تغيير الخطاب السياسي، بعيدا عن الاحتكار والإقصاء، تعدّ الشروط الأساسية لهذا الإصلاح. إنّ إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية ضمن صيغ توافقية، ووجوب اعتبار كل التونسيين مواطنين كاملي الحقوق، مهما كان انتماؤهم الفكري والسياسي أو موقعهم الاجتماعي أو الجغرافي، وتطهير الإدارة من الفساد والحياة السياسية من منطق "الرشاوى الخفية" لبعض السياسيين والمثقفين المتحالفين مع الاستبداد والصفقات المبنية على التّزكية لخيارات السلطة والولاء لها.. كلّ ذلك رهين إرادة السلطة وخياراتها، ولا تتحمّل المعارضة الإسلامية وغيرها أية مسؤولية في ذلك. إنّ المتابع للمشهد السياسي التونسي يلاحظ أنّ حركة النّهضة تعبيرة حقيقية عن حاجات المجتمع ومطالبه في الحرية والعدالة الاجتماعية وتجذير الهوية العربيّة الإسلامية، وهي قادرة – بحسب رموزها- على تجديد خطابها، وإيضاح خطها السياسي، وإنضاج برامجها، والابتعاد عن أسباب المواجهة، وعلى تطوير أساليبها بين مرجعيّتها الإسلامية وبعدها الوطني، فلماذا تستمرّ الموانع أمام إدماج حركة النّهضة ضمن المنتظم القانوني والسياسي في تونس؟ ولماذا تتهرب السلطة من كل دعوة لحوار وطني يفتح صفحة جديدة في تاريخ تونس المعاصر؟ إنّ خروج مساجين النهضة في تونس لا يؤكد سوى أن السجون والمعتقلات لا تنهي ولا تمحو حركات فكرية واجتماعية وسياسية معبرة عن حاجات الشعب الحقيقية، وإنما على العكس من ذلك تجذرها وتضفي عليها شرعية نضالية إضافية، مما يستدعي من السلطة مراجعة سياساتها باتجاه جعل تونس لكل أبنائها، وتمكين كل التيارات من التنافس الشريف في خدمتها. كما يستدعي ذلك التخلي عن منطق المواجهة أو من يدفع إليها، أو التخويف من الإسلاميين بعودة الحديث عن الاستقطاب الثنائي، أو تضخيم بعض القضايا لدق طبول الحرب من هنا وهناك. وفي الأخير إنّ خروج آخر سجين من مساجين حركة النهضة لا يعني الاستعداد للمواجهة أو الاستعراض، وإنّما يوحي بأهمية وجدية التّفكير في الحل السياسي لهذا الملف خدمة للبلاد والعباد. فالتذرع بالتدرّج في التحول الديمقراطي كاد يكون مناهضا للحرية والديمقراطية، بل غدا تأبيدا للوضع، وتشريعا للاستمرار في الهيمنة والاستبداد بالشأن العام والخاص على حدّ السواء. (*) كاتب وباحث من تونس العدد الثالث والعشرون : aqlamonline السنة السابعة/ ماي - جوان 2009 http://www.aqlamonline.com/sahbi23.htm