في معرض انتقاده لفيلم "فتنة" المثير للجدل والكراهية، قال رئيس الأساقفة الإنجليكاني السابق في (كيب تاون) بجنوب إفريقية (ديزموند توتو) في مقال له نُشر في الثاني من فبراير 2008، بصحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية: إن فيلم داعية الكراهية البرلماني الهولندي (فيلدرز) والمنتج للفيلم.. لا يسيء إلى المسلمين وحسب، وإنما نحن كمسيحيين نشعر بأننا متضررون من هذا الفيلم. (ديزموند) تحدث كثيراً، عن الفرق بين التماس معرفة الدين، كحق مشروع، وبين تعمد الإساءة والإهانة والاستفزاز إلى حد التحريض على ممارسة العنف، وخلص إلى أن "ادّعاءات" (فيلدرز) لم تُطلق لطرح أسئلة أو إثارة نقاش، وإنما أُطلقت بكل بساطة، لاستفزاز ردود فعل عنيفة من المتطرفين من كل جانب. لقد أصاب مقال (ديزموند) الذي نُشر آنذاك كثيراً من الحقائق بشأن الأزمة التي خلّفتها "الفتنة" الهولندية، غير أن أهم ما كشف عنه -وبصراحة شديدة- أن الإساءة للقرآن، أساءت أيضاً إلى النصارى، وإذا كان رئيس الأساقفة الجنوب إفريقي، لم يفصح عن تفاصيل هذه "الإساءة" التي لحقت ب"النصرانية"، إلاّ أنها إشارة ذكية، تعكس وعياً بخطورة الإساءة إلى القرآن على شرعية النصرانية التاريخية على أقل تقدير، حتى وإن لم يؤمن به النصارى ك"وحي من الله". لا شك في أن القرآن هو الوثيقة الوحيدة التي أعادت الاعتبار الاجتماعي للمسيح -عليه السلام- والتي أنهت -وإلى الأبد- "الشهادة اليهودية" المسيئة له ولأمه عليهما صلوات الله تعالى وسلامه، وهي معروفة ولم تتغير حتى الآن. لقد استقرت التقاليد الاجتماعية والقوانين المدنية والدينية على التوصيف الاجتماعي لمن يولد بلا أب: "ابن زنا"، ومن تحمل وتلد بلا زوج: "بغي"، وهي التقاليد والقوانين التي احتكمت إليها "الشهادة الإسرائيلية" بشأن معجزة حمل الصديقة مريم ووضعها عيسى عليه السلام. لقد برّأ القرآن مريم من تهمة "الزنا" وابنها من رميه ب"اللقيط"، بل أنزل الأولى منزلة "خير نساء العالمين" (وإذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ). [آل عمران: 42]. (ومَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وكُتُبِهِ وكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ). [التحريم: 12]. والثاني المسيح "كلمة الله وروح منه" و"من المقربين" و"السلام عليه يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حياً": (إنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِّنْهُ). [النّساء: 171]. وفي [آل عمران: 45] (إذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وجِيهاً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ ومِنَ المُقَرَّبِينَ). بل لا توجد في القرآن الكريم سورة ولا آية واحدة ذُكر فيها اسم واحدة من زوجات محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إحدى بناته، و لا حتى قرة عينه فاطمة، فيما أفردت سورة كاملة في القرآن تحمل اسم "مريم"، وقد ورد اسمها في القرآن (34) مرة! ومن ثم فإن الإساءة إلى القرآن هي بالتبعية إساءة فعلاً إلى النصرانية، وتكذيبه يعيد الاعتبار الضمني للرأي الإسرائيلي في المسيح وأمه، وإذا كان الغرب لا تعنيه لا الإساءة لمحمد ولا للمسيح عليهما السلام، بعد أن تحوّلت النصرانية عنده، من "دين" إلى "هوية"، وحل "العقل" محل "الله"، ولم تعد ثمة قداسة إلاّ ل"الشهوات"، فإن على النصرانية الشرقية "المؤمنة" أن تكون على وعي بما تمثله مثل هذه الإساءات من تهديد حقيقي على "الإيمان النصراني"، مهما كان الخلاف مع الإسلام بشأن "طبيعة المسيح"، عليه وعلى محمد الصلاة والسلام. الاسلام اليوم السبت 20 جمادى الآخرة 1430 الموافق 13 يونيو 2009