توالت خلال السنوات الأخيرة الدعوات لمراجعة علاقة القطيعة بين الإسلاميين في تونس وبين السلطة وذلك بطي صفحة الماضي وتنقية المناخ السياسي والاجتماعي وفتح آفاق في العلاقة بين السلطة والإسلاميين وبين الإسلاميين والعلمانيين. إن ثمة مراجعات متأكدة لدى كل الأطراف عدا السلطة التي لا تفصح عن حقيقة موقفها ولا يُلمس لديها تغيير جوهري في السياسة وفي المواقف ولكن يُلاحظ تغير نسبي في اللهجة وفي المعاملة وقد تكرر وصف الأوضاع في البلاد بسمة التراجع من طرف سياسيين وجامعيين ومثقفين ليبراليين ومعتدلين قياسا إلى ما كانت عليه الأوضاع في الأشهر الأولى من حكم الرئيس بن علي أو ما كانت عليه في فترات متفاوتة من حكم الرئيس التونسي السابق بورقيبة (راجع حوارات مع الأستاذ عياض بن عاشور والفنانة الممثلة جليلة بكار في جريدة الموقف التونسية وحوار موقع سويس إنفو مع أحمد بن إبراهيم الأمين العام لحركة التجديد بتونس) وقد سبق أن دعا الوزير السابق الراحل محمد الشرفي خصم الإسلاميين لسنوات وحليف السلطة في مشروع تجفيف الينابيع، إلى الاعتراف بحركة النهضة معتبرا أن الدولة التونسية تحتمل وجود الإسلاميين وأن هناك حاجة إلى مشاركتهم السياسية، ودافع عن تمثيل لهم في المؤسسات النيابية بما في ذلك البرلمان بنسبة تساوي النسبة التي حصلوا عليها في الانتخابات التشريعية لسنة 1989 التي دعمت فيها حركة النهضة ترشيح قوائم مستقلة. قد يشكك البعض في مبدئية المواقف الداعية لإنهاء الحظر والحصار على حركة النهضة واعتبارها طرفا وطنيا يعترف بحق الاختلاف وحرية المعتقد ولا يحتكر الحقيقة ويعترف بحق الجميع في الوجود وفي التعبير والتنظيم والمشاركة ولكن تطور الأوضاع يتخذ مسارا نحو التعامل مع الإسلاميين كأمر واقع والتواصل مع رموز حركة النهضة وفق ما تقتضيه المسؤولية وتسمح به الأوضاع الأمنية والسياسية بما لا يمنع إمكان توقع المزيد من غض الطرف عن الأنشطة غير المخلة بالنظام العام وغير المؤدية إلى انتزاع المبادرة من السلطة المصرة على الإمساك بكل مفاصل الحياة السياسية أو التأثير المحسوس في موازين القوى. لقد مضى الآن على الإعلان الرسمي عن تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي بتونس في 6 يونيو1981، 28 عاماً وهي لا تزال تنتظر اعترافا قانونيا فهل تحصل على التأشيرة والاعتماد القانوني قبل بلوغها العقد الثالث؟ بعد أن يكون الرئيس الحالي قد دشن دورة رئاسية جديدة ستكون فيها التحديات والانتظارات أكثر من أي وقت مضى. ينشد إسلاميو حركة الاتجاه الإسلامي إلى لحظة تأسيس، التي تتجدد معها الآمال والوعود ومهما كانت مشاعر الذكرى فإن القاسم المشترك هو الاعتزاز بالانتساب يوما ما إلى مشروعها. من الصعب استرجاع لحظة من لحظات الماضي دون إسقاط اهتمامات الحاضر عليها وأيا كان الحنين إلى الماضي فإن رهانات المستقبل هي ما يشكل شاغل الإنسان «هنا والآن». الماضي تُعاد قراءته باستمرار وبحسب الزاوية التي يُؤخذ منها، وبحسب ما يفيدنا معنى نحن في أشد الحاجة إليه. إننا نأمل أن نستمر في المستقبل لا يعيقنا عن ذلك استمرار الماضي فينا. إن اجتماعنا ليس ضربة لازب ولا خطرة عابث ولا فكرة فيلسوف إنه إرادة مبدع الأكوان، مالك الملك وقد أخذت صبغتها العملية وتشكلها التاريخي عبر التعاقد وهي تُصقل بالشورى أو بالتجربة ويشوهها القهر والاستبداد الجائر فيحق عليها القول ويُستأنف البدء. أصعب اللحظات لحظة التأسيس وأهم المراحل مرحلة التكوين سواء أكان التأسيس والتكوين حسب تخطيط مسبق وهندسة في الذهن أو كان على غير منوال استنادا واستنارة بعقل أو اهتداء واسترشادا بوحي انطلاقا مما قبل البداية أو استئنافا لبدء، لكن ما الذي يجعل حدثا ما حادثا مرجعيا به يُحتفل وعلى أطلاله يطول الوقوف، وعند منعطفاته يُستطاب المكوث الذهني؟ فهو فاتحة العصر الذهبي أو حائط مبكى في ظله يُندب الحاضر وتُجلد الذات ويُعترف بالذنوب والأخطاء وتنعقد مجالس العزاء. استذكار لحظة التأسيس موعد دوري للتقويم والاستشراف، وكلما كانت الذكرى بعيدة كانت الحاجة إلى استذكارها أشد. السادس من يونيو 1981 هو اليوم الذي أصبح فيه «رسميا» لتونس الحديثة حزبها الإسلامي بعد أن أُدخلت طور التعددية، إذ صرح الرئيس التونسي السابق بورقيبة بأنه لا يُمانع في وجود أحزاب سياسية إلى جانب حزبه الدستوري بعد احتكار للحكم وتكرار للفشل على امتداد ربع قرن من الإمضاء على وثيقة الاستقلال. إن تونس التي ينُص دستورها على أنها دولة مستقلة الإسلام دينها والعربية لُغتها لم يُثر بها إعلان أي حزب علماني عن نفسه أي جدل مثلما أثاره إعلان حركة الاتجاه الإسلامي عن وجودها وهي التي لم تختر هذا الاسم لنفسها إلا بعد أن أطلقه عليها مُخالفوها من منافسين وخصوم، وقد اختصت بالصفة الإسلامية حتى كادت تنفرد بها أو تحتكرها لولا ظهور منافسين ذوي مرجعية إسلامية عاشوا في كنفها أو تميزوا عنها فكرا ومنهجا مثل الإسلاميين التقدميين الذين خرجوا من معطفها بل منهم من هو من مؤسسيها وصفّها الأمامي أمثال الأستاذين احميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي، وأيضا حزب التحرير الإسلامي الذي هالته وأثارت حفيظته دعوتها إلى الديمقراطية التي كان يرى أنها ليست من الإسلام، ولو كان له السبق التاريخي لنازعها انتشارها واجتذب من كانوا بعد ذلك أنصارها وقد استفاد من مدها وتوسعها كما تضرر من ضربها واضطهادها. أعلن مؤسسو حركة الاتجاه الإسلامي بتونس عن منهجهم وبرنامجهم، واعتبروا التعددية حقا لهم ولغيرهم ورفضوا أن تكون شروط ممارستها مُملاة من طرف واحد أو مُقيدة بمصالحه الحزبية أو موضوعة على قياسه. لم يكن ذلك أول عهدهم بالعلنية إذ كان نشاطهم الدعوي في المساجد والمعاهد يتم جهرة وعلى مرأى ومسمع، كما كان نشاطهم السياسي والثقافي في الجامعة علنيا كله أو يكاد، فالحركة لم تنشأ في الزوايا المظلمة والسراديب السرية بل تشكلت وترعرعت تحت الشمس وقبل أن تنتبه إليها الأجهزة الأمنية أو تتوجس منها خطرا ما، كان رموزها المؤسسون معروفين على الصعيد الوطني والإسلامي أمثال الشيخ راشد الغنوشي والشيخ عبدالفتاح مورو.. وكان لها منبرها الفكري مُمثلا في مجلة المعرفة ولها صحافتها المستقلة مثل جريدة المجتمع.. غير أن الإعلان عن وجود الحركة في 6 يونيو 1981 لم يبلغ حد البداهة ولا هو ثمرة وفاق وإن تدارسته القيادة والمناضلون، وقد عبر عن وعي مُتقدم عن واقع الحركة. لقد كان نوعا من الإلماع لدى القيادة التاريخية التي حدست إرهاصات الطور الجديد من حياة البلاد وحياة الجماعة، وإن عكس قناعة راسخة لدى البعض أجازه دافع الضرورة عند آخرين، يقول الأستاذ بن عيسى الدمني عضو المكتب السياسي والهيئة التأسيسية في 81: «قد ترسخ لدي اقتناع قديم بأفضلية المنهج المدني القانوني والتدريجي في العمل الإسلامي». لقد كانت الحركة شابة وشبابية ولم تكن طليعتها الطلابية مرتاحة ولا مساندة لخطوة الإعلان إذ كانت تعيش على فكر المفاصلة مع الجاهلية والقطيعة مع نظام سياسي تعتبره لائكيا تغريبيا وعميلا.. كما كانت واقعة تحت تأثير الوهج الثوري للثورة الإيرانية الظافرة للتو مُجسدة عودة الإسلام وقدرته على التحدي والتغيير هدماً وبناء. كان الإعلان امتحانا لحركة الاتجاه الإسلامي وترشيدا وصدمة لطلبتها الرافضين للمنهج الإصلاحي ومفاجأة للسلطة التي تدرك حدود الانفتاح وحدود المناورة فالمولود الجديد لم يخرج من أحضان حزبها ولا يقر له بأية مشروعية، بل بتعبير الشيخ راشد الغنوشي «إن الخيط رقيق جدا بينها وبين الحركة الإصلاحية التونسية»، كما كان الإعلان تحديا سياسيا لليسار الجديد الذي حمل لواء الدعوة للتغيير الراديكالي وكان جذريا في الحسم مع النظام وفي رفض المرجعية الإسلامية، تراوحت تجربته بين مد يتغذى من الفراغ ومحاكمات يدفع فيها ضريبة الصراع على السلطة في حرب مفتوحة على الخلافة، وجزر جراء الأخطاء والقمع والتشرذم والانتهازية والصعود الفجائي للنقيض الإيديولوجي ممثلا في الاتجاه الإسلامي. لم يكن الاتجاه الإسلامي وجها آخر لليسار وإنما صيغة أخرى للحداثة وطورا جديدا من الإصلاح في حركة إحياء إيمانية تعتقد أن أقصر طريق إلى النهضة والتنمية هو الأسلمة قبل أن تعكس الترتيب لترى بأن أقصر طريق لاستعادة الهوية هو الديمقراطية وإرساء الحريات. تلك كانت لحظة الإعلان خيارا مبدئيا لدى المُؤسسين وخيارا تكتيكيا في اعتقاد الطلبة. ولكن الأكيد مثلما صرح بذلك الأستاذ بن عيسى الدمني: «كانت مناداة الإسلاميين بالديمقراطية مبكرة نسبيا، وارتفعت أصواتهم للمطالبة بتعددية حزبية لا تستثني أحدا وبضمان نزاهة الانتخابات وباحترام أحكام صناديق الاقتراع أيا كان الفائزون منذ مطلع الثمانينيات». ما دامت دواعي الإعلان لا تزال قائمة فإن حركة الاتجاه الإسلامي حتى وإن غيرت اسمها أو أعادت صياغة أهدافها أو عدلت في خطها أو بقيت مجرد رموز وأفراد فما زال طريقها ومنهجها نشدان الاعتراف، يقوي أملها في ذلك ما تعتقد أنه حاجة المجتمع إليها وما تحقق لنظيراتها من الحركات الإسلامية في المنطقة، فقد كانت هي أسبقها جميعا إلى تبني خيار العمل السياسي العلني والقانوني والسلمي. لقد كان إعلان 6 يونيو 1981 تتويجا لمرحلة وتدشينا لمسار تعثر أكثر من مرة لكنه لم يحد عن غايته، وإن انتظار الاتجاه الإسلامي خارج العتمة ليس وقوفا في مُفترق بل هو خروج من مأزق محقق وبداية واثقة نحو طرق الأبواب الموصلة.