وزارة الفلاحة: 11 مليار لمقاومة الحشرة القرمزية    العالم الهولندي الشهير يحذر من بيل غيتس    خطير بصفاقس : افارقة ينفّذون عملية براكاج لسيارة تاكسي    بن عروس: مغادرة كلّ مصابي حادث الحافلة السياحية المستشفيات باستثناء حالتين    نابل :سقوط رافعة مواد بناء على سيارتين في دار شعبان الفهري    حجز أكثر من 13 الف طن من الفلفل والطماطم بهذه الجهة    بدعوة من رئيس الجمهورية.. تبون والمنفي يزوران تونس الاثنين القادم    فرنسا: ترحيل امام جزائري بتهمة التحريض ضد اليهود    عائدات العمل والسياحة تغطي 54 % من خدمات الدين الخارجي    وزارة العدل تصدر قرارا بتسمية عدد من المسؤولين الراجعين لها بالنظر أعضاء بالمجالس الجهوية    مداهمة نوادي ليلية في قمرت.. وهذا ما تم تسجيله    معرض الدولي للكتاب: جناح خاص بوزارة الأسرة ومشاريعها    القصرينية تحسم الجدل حول خبر طلاقها من زوجها    عاجل/ التشكيلة المحتملة للترجي أمام صانداونز    حجز مخدرات وضبط مروّجيها بمحيط مؤسسات تربوية في هذه المناطق    رسميا: زياد التلمساني يودع ترشحه لإنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم    الامارات: بن زايد يكرّم تونسية ساهمت في إنقاذ 8 اشخاص من حريق    القصرين: وفاة 4 أشخاص وإصابة 4 آخرين في إصطدام سيارة نقل ريفي بشاحنة    تونس: "لم نتفاجئ من فشل مجلس الامن في إقرار عضوية فلسطين بالامم المتحدة"    تايوان ترصد 21 طائرة عسكرية صينية حول الجزيرة    كأس تونس: برنامج مواجهات اليوم من الدور السادس عشر    رئيس الإمارات يكرّم فتاة تونسية قامت بعمل بُطولي    بطولة إفريقيا للتنس: التونسيتان لميس حواص ونادين الحمروني تتوجان بلقب الزوجي    دراسة تكشف أصول "القهوة الصباحية".. كم عمرها؟    جندوبة: انطلاق بناء مدرسة اعدادية بجاء بالله طبرقة    يساهم ب 16% في الناتج المحلي: الاقتصاد الأزرق رافد حيوي للتنمية    قفصة : الاعدادية النموذجية تتحصل على أفضل عمل متكامل    عاجل/ إضراب مرتقب في قطاع المحروقات.. وهذا موعده    شملت شخصيات من تونس..انتهاء المرافعات في قضية "أوراق بنما"    عاجل/ إتحاد الفلاحة: "تدهور منظومات الإنتاج في كامل البلاد"    غارة جوية تستهدف موقعا عسكريا لقوات الحشد الشعبي في العراق    هيئة الدّفاع عن المعتقلين السّياسيّين: خيّام التركي محتجز قسريا وهذه خطواتنا القادمة    طقس السبت: رياح قوية والحرارة بين 18 و28 درجة    يستقطب قرابة نصف اليد العاملة.. مساع مكثفة لإدماج القطاع الموازي    منظمة الصحة العالمية تعتمد لقاحا جديدا عن طريق الفم ضد الكوليرا    المنستير للجاز" في دورته الثانية"    بنزرت: القبض على تكفيري مفتش عنه ومحكوم ب8 سنوات سجنا    جندوبة: حجز أطنان من القمح والشعير العلفي ومواد أخرى غذائية في مخزن عشوائي    منوبة: حجز طُنّيْن من الفواكه الجافة غير صالحة للاستهلاك    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح الدورة 38 لمعرض تونس الدولي للكتاب    هزيمة تؤكّد المشاكل الفنيّة والنفسيّة التي يعيشها النادي الصفاقسي    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    أبرز مباريات اليوم الجمعة.    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    رابطة ابطال افريقيا (ذهاب نصف النهائي) : الترجي الرياضي يواجه صان داونز بحثا عن تعبيد الطريق الى النهائي    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    برج السدرية: انزلاق حافلة تقل سياحا من جنسيات مختلفة    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النّقد والنّقاد قراءة في واقع الكتابة النقدية في التجربة الإبداعية الليبية
نشر في الفجر نيوز يوم 06 - 02 - 2008

النّقد والنّقاد قراءة في واقع الكتابة النقدية في التجربة الإبداعية الليبية
الكاتب: رامز رمضان النويصري
[1]
منذ البداية أعترف بالمأزق الذي أضع فيه نفسي بدخول هذه الدائرة، كونها غير محددة المعالم، وملبدة الأجواء،
فلو اعتبرنا أن منتصف الخمسينيات من القرن الماضي هي بداية حالة استقرار المجتمع الليبي بعد رحلة طويلة من العذاب والشقاء1، كان نتاجها صدور أول مجموعة قصصية (نفوس حائرة/ عبدالقادر أبوهروس/1957)، وأيضاً أولى مجموعات الشعر الحديث (الحنين الظامئ/ علي الرقيعي/ 1957)، كما وشهدت الخمسينيات أهم أسئلة النقد الليبي على صعيدي الشعر والقصة، ونقصد بهما:
سؤال الشعر (هل لدينا شعراء) للكاتب "خليفة التليسي"، وسؤال القصة (قصتنا بنت حرام) للكاتب "كامل المقهور". قد أربك القارئ بسردي لهذه الحقائق، ولكني وجدت نفسي أستدعيها للتدليل على أثر الاستقرار الذي لو اعتبرناه، فإنا نستطيع القول بأنه حتى اللحظة لم يتبلور مشروع نقدي ليبي، لا في شكل مشروع عام (طرح فكري/ تنظيري) أو في مشروع خاص (ممارس حقيقي للعمل النقدي). والسؤال المنطقي الذي يفرض نفسه: لماذا؟، لنقف عند علامة الاستفهام دون حراك، إذ الأهم هو الحصول على الإجابة لتخطي انحناءة علامة الاستفهام الداخلية. الإجابة الصعبة المفقودة حتى اللحظة، التي في وجودها تتغير الكثير من الأشياء، وربما أمكننا إعادة قراءة المنتج الإبداعي، والإمساك بثيمات النص، وإنتاج هذه الحقائق في متن مستقل قادر على كشف النص ومرجعياته.
[2]
في إجابته عن سؤال النقد الليبي، يقول الكاتب "أحمد الفيتوري": (...، فالكثيرين يسِمون التجربة الإبداعية الليبية بعدم وجود شغل نقدي، وإن كنت أرى أن هناك عملٌ نقدي، إلا أنه من الضمور، بسبب ما يخص التركيبة السياسية والاجتماعية التي تحاول تأكيد السائد، وإقصاء أي محاولة لتقديم فكر نقدي مغاير)2. وفي ختام اللقاء يجيب عن سؤال الواقع النقدي الليبي، يقول: (إبراهيم الكوني.. يلخص هذه العملية، بشكل مؤيد ومدهش ومكثف)3. وهو يشير إلى تراجع النقد عن تناول كتابات الروائي الليبي "إبراهيم الكوني"، إلا من بعض الدراسات والبحوث الجامعية (أكاديمية) التي شهدتها السنوات الأخيرة4.
لن يكون من السهل الإجابة على سؤال (لماذا؟)، فالأمر أكثر من إجابتنا (لأن)، إن الإجابة تعني بحثاً في العقلية والتركيبة الاجتماعية الليبية، وهو بحث مضنيٍ لما يعتريه من مصاعب تمثلها العقلية والتركيبة ذاتها، إي أن المشكلة ذاتية قبل أن تكون مكتسبة، وسأحاول في البداية مناقشة جملة من النقاط أراها مهمة في البحث عن جواب شاف، قبل أن أعرض لبعض التجارب النقدية في عموم ما قدمت لا خصوصية طرحها.
[3]
ستكون الإجابة من خلال مناقشة بعض النقاط، التي يأتي في أولها:
1- فقد التراكم المعرفي والثقافي.
ونعني بالتراكم المعرفي والثقافي كل ما يتعلق بالمعرفة والثقافة العربية من إنتاجٍ وتداول، إذ تثبت الحقائق أن العمق المعرفي والثقافي في ليبيا عمق ليس بالبعيد، وانه كان يخضع للواقع المفروض على ليبيا5، فكلما تكونت في ليبيا مظاهر للعمران والنهضة الثقافية تعرضت البلاد لما يعيدها لمرحلة الصفر.
ففي اللحظة التي عرفت فيه البلاد دخول المطابع وصدور الصحف بشكلٍ دوري (من هذه الصحف، طرابلس غرب/1866)6، وصدور أول ديوان شعري ليبي (عظة النفس/ مصطفى بن زكري/1892)، وتحقق في البلاد نوعٍ من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، جاء الغزو الإيطالي ليقود كل ما كان ويعود بالبلاد إلى النقطة الصفر، بالتالي حرم المجتمع من فرصة النهضة الثقافية، ليستمر هذا حتى خمسينيات القرن الماضي، وبالتالي كان لزاماً على الثقافة الليبية أن تعيد جمع نفسها من جديد. وما تبقى من هذا التراث العربي هو:
1- مجموعة الكتب المحفوظة في الخزانات، وهي في الغالب خاصة، وبالتالي تظل معرفة خاصة بفرد.
2- كتب التراث الديني، وكانت تتداول في الزوايا والمدارس الدينية.
وهو تراث غير قادر على إنتاج معرفة عامة، مما انعكس سلباً على المجتمع فتأكدت الثقافة الشعبية (الشعر الشعبي بشكلٍ خاص)، والنقل الشفهي (المرويات الشفهية)، إذ حال الوضع البائس للمواطن الليبي من نيل حقه في التعليم الذي اقتصر على أهل المدن الخاضعة للاحتلال (ليس بشكلٍ كبير)، الأمر الذي أوجد فيما بعد فجوة بين المواطن المثقف/ المتعلم (الحائز على قسط من التعليم) والمواطن العادي، ويمكننا القول أن المثقف انعزل في مرحلة قادمة وأنه مارس ثقافته بمعزل عن المجتمع، هذا الأثر استمر حتى لحظتنا هذه. ولعلنا نلمح هنا لسؤال "التليسي" الكبير (هل لدينا شعراء؟) إذ ألمح الأستاذ والكاتب "خليفة التليسي" لهذا الفقر الثقافي وأثره في الشعر الذي توقف عند أغراض المدح والرثاء والمناسبات، حتى إنه أشار لفقر الطبيعة لغلبة الصحراء على المشهد، وهو يصف المشهد الشعري في ليبيا بكل تجرد ووضح حتى يصف من يمارسون الشعر ب(التشاعر) كونهم يتطفلون على الشعر دون مرجعية تؤهلهم امتلاك أدواتهم القادرة على تجاوز اللحظة، والقبض على أثرها، وكذا النمو الروحي والفلسفي لإعادة النظر في الحياة.
2- طبيعة التلميذ.
وهي نتيجة طبيعية لفقد المرجعية أو التراكم المعرفي القادر على رفد التجربة الشخصية، لذا كان من الطبيعي البحث خارج الدائرة المحلية عن مثال يمكن الإفادة منه، فكان المشرق (الأستاذ العظيم)، الأستاذ القادر على إشباع رغبة المعرفة، وسد الثغرة المعرفية. ونعترف إن هذا الأستاذ قدم الكثير لتجربتنا الإبداعية في ليبيا.
ولقد أثر هذا الشرق بشكل كبير في التجارب الإبداعية، وكذا الحوار الثقافي الذي كان صدىً لما يناقش من قضايا في المشرق، ولقد رصد هذا الأثر أكثر من كاتب، فها هو القاص والكاتب "كامل المقهور" يختصر القضية في عنوانه (قصتنا بنت حرام)، وعندما يشارك "التليسي" كتابة مقدم ديوان (الحنين الظامئ) للشاعر "علي الرقيعي" يقول: (ومع انعدام الماضي الثقافي اللصيق بالشعب إذ استثنينا الأجزال الشعبية وبعض الأغاني، ومع افتقاد جماهيرنا الشعبية لمن يعبر عن انتفاضاتها ووعيها النفسي الجديد، اتجه المتعلمون إلى الثقافات الشرقية التي ابتدأ ترد إليها بعد الاستقلال من مصر ولبنان بالذات...)7، ويضيف: (وكان لابد أن تتعثر الثقافة الجديدة وهي تستمد خطوطها العريضة مقلدة ثقافات وحركات لها ماض، وكان لابد أن تتعثر هذه الثقافة فتنحرف أحياناً نتيجة استيراد مبادئ خاطئة، أو مبادئ ومفاهيم لا تستقيم وواقعنا الحياتي...)8. كما ورصد هذا الأثر بشكلٍ مبكر الكاتب الراحل "سليمان كشلاف" في أكثر من موضوع، فهو مثلاً يعلق على رواية (نافذة على المطل الخلفي)، لكاتبها "محمد سالم عجينة" _رحمه الله_ بقوله: (سيبرز لنا تأثير بدايات الرواية العربية في مصر، على "محمد سالم عجينة"، متمثلة في (الأيام) الرواية/السيرة الشخصية للأديب العظيم "طه حسين"، وليتأكد لنا أكثر خسارتنا لمشروع روائي جيد كان له أن يستمر ويتطور، لولا أن وافاه الأجل)9.
3- فردانية التجربة.
وربما كما قلتها ذات مرة (طابع الفردانية في التجربة الليبية)، وأقصد بها طابع الفردانية (من الفرد) الذي صبغ التجربة، حيث لم تعرف التجربة الليبية أياً من أشكال الجماعات الأدبية أو الثقافية، لا في شكل مجموعات أو مدارس ولا اتجاهات. هذا الطابع (صنو التجربة الليبية) هو نتاج طبيعي للتلمذة، فأنت لن تستطيع أن تفرض على التلاميذ أن يكونوا نسخة عن أستاذهم، ولا أن يكون مستوى تلقيهم أو انتباههم واحداً، وبالتالي: (ليس من الشرط أن يجمعهم مستوى إدراكٍ معين (وهذا طبيعي)، ولا اتجاه واحد.. فالتجاور لا يعني وحدة التلاميذ تحت مسمى الفصل أو التلاميذ لهذا الفصل، فهذا الفصل مقسم إلى مقاعد يستقل بها التلاميذ، باتجاههم إلى الأستاذ ذاته.. ولعلنا نلاحظ بوضوح طبع العمل الفردي في الثقافة والأدب في ليبيا، بمعنى أن الأمر ينسحب على كل مجالات الإبداع، كلٌّ مستقل بنفسه عن التوجه والاتحاد.. فنرى من يعمل كمؤسسة، ومن يعمل كموسوعة، ومن، ومن.. هذا الطبع عطل الكثير من المشاريع التي نسمع عنها ولا نراها، ونرى الجزء منها دون الاكتمال، ونرى المؤسسات الثقافية تقف وتتعطل في أشخاص.. وهذا جزء الشخصية الليبية، المتمثلة في الذات منفردة (ذاتها كشخص)، البعيدة عن قبول التوجه خارج نطاق وحدتها الصغيرة أو مجتمعها الكفيل (القبيلة)، الذي يتحول بهذه الذوات المنفردة ذاتاً منفردة)10.
4- الوضع الاجتماعي والسياسي.
نظراً لما عانته البلاد من اضطهاد، إذ بالقليل من الملاحظة ندرك أن ليبيا لم تعرف الاستقرار _كما أشرنا سابقاً_ إلا من بداية الخمسينيات، وهو استقرار عرفت فيه البلاد الكثير من الحركات الجماعية بحثاً عن الاستقرار والعيش الهانئ11، لتأتي ثورة الفاتح في 1969 محققة الاستقرار للبلاد، وبحسبة سريعة ندرك أن تاريخ ليبيا الحديث يتعدى نصف القرن قليلاً (بمعنى أن العمق التاريخي قريب)، هذه الطبيعة التي تكونت بها المدن أو المجتمعات المدنية أوجدت نوعاً من الانصراف عن الآخر (وهو الانصراف بالذات (كفرد) لتوفير هذه المتطلبات، وتحقيقها)12. بالتالي لم تنشئ في المجتمع ما يعرف بثقافة الحوار، والتي تعني التواطؤ الحادث بين طرفي الحوار بحيث يقبل كل طرف الآخر دون تجييرٍ للمواقف أو التعصب أو نبذٍ لرأي، باختصار ما نعني به قبول الآخر كشريك دون الاستقلال بالرأي والتعصب له. فالعقلية الليبية لا تحاور وتعمل على تأكيد السائد، وتستنكر كل ما عداه، وهي عقلية تحكم الحياة الليبية متسربة في كل مجالاته الحياتية والعملية، ويمكننا قراءة هذا الانحياز الأرضي في هذا التعبير المستخدم كثيراً في مجموعات العمل (ما تمس شي، ما يطرأ شي)، والمعنى: (أنك ما لم تتدخل في سير العمل بشيء، فلن يحدث طارئ أو شيء).
[4]
ولا يعني هذا انتفاء النقد عن التجربة الإبداعية في ليبيا، بل العكس، فثمة أكثر من جهد نقدي يشاد به، لكن ما نعنيه هو الحضور الفعلي للنقد في التجربة الإبداعية، النقد بصفته اشتغال يرافق الإبداع ويدعنه (لا يخدمه كما يصف البعض)، إذ سيرقى النقد بالعمل الإبداعي ويرصد مفاتيحه، ويقف على مناطقه الحارة، سيكون النقد إبداعاً موازياً.
ذات أمسية شتائية ماطرة، دار نقاش حول ما كتبته عن تجربة شعر المحكية، إذ علق الشاعر "محمد الدنقلي" أنه رغم الجهد الواضح والمميز لهذا البحث، إلا أنه كان من الواجب البحث أكثر في خصوصية التجربة الشعرية، أو الدخول لتجربة شعر المحكية من الخلف، وجدت نفسي أعلق: (لا تنسى أستاذ "محمد" أنا لست بناقد، وعادة ما أعنون ما أكتبه ب(قراءة))، أخذنا الحديث عن النقد، فأعلق: (ألا تلاحظون معي أن تجاربنا النقدية في ليبيا لم يكتبها نقاد متخصصون، إنما كتبت من قبل ممارسين للنص الإبداعي).
وهذه حقيقة، إذ يكشف تاريخ النقد في ليبيا (رغم قصره)، أن الممارسة النقدية كانت لشعراء وقصاصين دخلوا هذا المجال، أو مارسوا العمل على النصوص بعد أن وقعت في نفوسهم (نذكر: خليفة التليسي-شاعر/ كامل المقهور-قاص/ علي مصطفى المصراتي-قاص/ سليمان كشلاف-قاص/ خالد زغبية-شاعر/ مفتاح العماري-شاعر/ محمد الفقيه صالح-شاعر/ سالم العوكلي-شاعر/ أحمد الفيتوري-مسرح، رواية/ منصور بوشناف-مسرح/ إدريس المسماري-شاعر/ حسين نصيب المالكي-قاص/ زياد علي-قاص/ منصور العجالي-شاعر/ نادرة عويتي-قاصة/ حواء القمودي-شاعرة/ سميرة البوزيدي-شاعرة/وغيرهم) ونلاحظ أن الغالبية من الشعراء، هذه القراءات تميزت بالتالي:
1- خضوع هذه القراءات للذائقة الشخصية، بمعنى أنها تتفاوت من متنٍ إلى آخر، بالدرجة التي وقع فيها النص من نفس القارئ/المتلقي (ففي النهاية هي لحظة تلقي النص)، هذا بالتالي يشير إلى:
‌أ- الانطباعية التي تمارس بها الكتابة.
‌ب- الرصيد المعرفي للدخول للنص، وأيضاً القادر على ترجمة الانطباع إلى وحدات لغوية راصدة.
2- الاتكاء على عناوين تجنيسية من قبيل (قراءة) للهروب من مأزق الكتابة النقدية (المتخصصة)، فالممارس لهذا العمل يدرك أنه لا يجيد العمل النقدي المحترف.
3- خلو هذه الكتابات من منهج نقدي يحكمها، بمعنى أن هذه الكتابات تخضع لترتيب الممارس لا ضرورات المنهج، لذا لم يكن من السهل أن يتم تبني منهج نقدي محدد، إنما تحدد العمل لما تمكنه الحصيلة المعرفية للكاتب.
لكن نلاحظ أنه ثمة من انتصر فيه العمل النقدي على عمله الإبداعي، فصار يعرف كناقد أكثر منه ممارساً للعمل الإبداعي، فأخذ العمل النقدي الأستاذ "سليمان كشلاف" بعيداً عن القصة، وكذا الأستاذ "أحمد الفيتوري" الذي تفرغ للنقد بعد تجربة مع الكتابة المسرحية. كما وكتبت في النقد بعض الأسماء التي لم تتميز أو لم تختص بكتابة جنس إبداعي معين، وإن أبدعت في جنس، ك:صادق النيهوم/ نجم الدين غالب الكيب/ أمين مازن/ د.الصيد أبوديب/ نورالدين الماقني/ فوزي البشتي.
ولقد شهدت أواخر التسعينيات عملاً نقدياً مميزاً في مجموعة من الأسماء النقدية الممارسة للعمل النقدي بشكلٍ محترف، وهم مجموعة رأت في النقد نصاً موازياً للنص الإبداعي، فقدمت هذه الأسماء مجموعة من الكتابات النقدية المهمة، والتي تميزت:
‌أ- اعتماد هذه الكتابات على منهج نقدي محدد في تنظيره، ولقد اعتمدت هذه الكتابات على التنظيرات الحديثة للنص.
‌ب- الانحياز للنص، وهي غاية تخدم التنظير.
‌ج- العمل بشكل أكثر حرفية، ناحية تفكيك وحدات النص، والعمل على الأجزاء.
من هذه الأسماء نذكر: محمد المالكي/ محمد الترهوني/ عبدالحكيم المالكي.. وما يلاحظ على الكتابات النقدية الحديثة في ليبيا (نعني الألفية الجديدة)، أنها كتابات لا تتعلق بالنص فقط، إنما تناولت الكثير من الموضوعات الخارجة عن الإبداع في محاولة منها لمناقشة الفكر، والطروحات الفكرية للمجتمع والدولة، وهنا نذكر كتابات الناقد "أحمد الفيتوري"، و الناقد الشاب "عزالدين اللواج".
سائل: لكن ما الذي دفع بهؤلاء لكتابة النقد، وهم كما تقول، يمارسون كتابة النص؟
- أولى هذه الأسباب، هي محاولة سد الفراغ الحادث في العمل الإبداعي، وكون البعض كان على اطلاع بشكلٍ أو بآخر على ما قدم من جهود نقدية عربية وعالمية، فإنهم في إعادة تمريرهم لقراءاتهم من خلال هذه المعارف، كان أن تكونت مجموعة من الالتقاطات والأسئلة، فلم يكن من سبب يمنع طرحها وتقديمها من باب الإجابة.
- ثانيها، هو رغبة تحول الشفاهي إلى موجود. فطابع المشافهة الذي يسود المناخ الثقافي في ليبيا المعتمد على التعليقات المصاحبة للمناشط الثقافية، أو القراءات الخاصة، كان يوجب أن تتحول هذه المحاورات إلى متن مكتوب.
وأستطيع الزعم أن ما نسبته 70% من شعراء ليبيا مارسوا العمل النقدي، بينما ما نسبته 30% من كتاب السرديات مارسوا النقد. بل إن بعض الشعراء ممن مارس الكتابة النقدية كتب في القصة والرواية.
- أما ثالث هذه الأسباب وآخرها، الطابع الشمولي في الثقافة العربية، وهو طبع يعود للعصامية التي قامت عليها الثقافة العربية في رموزها الإبداعية، وهو صنو التجربة في ليبيا، فالمثقف الليبي نشأ عصامياً منفصلاً، فكان من الطبيعي أن يحاول الإحاطة بكل ما حوله، وأن يمارس ما يمكنه من أجناس إبداعية، وأنماط تعبيرية أخرى، فالتجربة الإبداعية الليبية تعرف الكثير ممن يكتب الشعر والقصة، أو الشعر والرواية، أو الشعر بشقيه الفصيح والعامي، وإن نظرة عجلى للصفحات الثقافية في الصحف والمجلات الليبية تكشف نسبة مساهمة الكتاب في مادة هذه الملفات النثرية من: مقالة، ونقد، وتعليق، وترجمت، وغيرها، في الملف الثقافي لصحيفة (الجماهيرية) مثلاً وصلت نسبة مساهمة الكتاب (من كتاب شعر وقصة) إلى 90% من مادة العدد يشكل الشعراء النسبة الأعلى.
[5]
السؤال المفترض الآن: هل استطاعت هذه الكتابات النقدية أن تقدم شيء؟
بكل راحة أقول: نعم.
وهنا أفترض أن يعلق السائل: إلى أي مدى؟
أجيب: بنسبة 100%.
أرى الاستغراب بادياً في وجه السائل: كيف؟
أجيب: قياساً لعمر التجربة والكم المنتج في هذه التجربة (بالنسبة للزمن)، فإن ما قدم من نتاج قياساً لما قدمناه من ظروف يكون 100%، العملية نسبية، فالأسئلة النقدية طرحت منذ فترة طويلة، فشاعر الوطن "أحمد رفيق المهدوي" يكتب في مجلة (ليبيا المصورة)13 مقالة بعنوان (المتجبرنون/1937) ناقداً فيها أسلوب "جبران خليل جبران" في تلاميذه المحليين، هذا المقال في رأي حقق نجاحه في مستويين: أول/ كونه رصد تأثر مجموعة من الكتاب بأسلوب "جبران"، وبالتالي توجه مباشرة إلى نقد هذه التجربة في مكوناتها (المكون المعرفي). ثان/ أنه قدم ما يمكن أن نسميه مقابلاً إبداعياً، بأن طرح المدرسة الشرقية كبديل (يقصد شعراء مصر).
إن النتاج النقدي المقدم، سواء المطبوع في كتب، أو الموزع في الصحف والمجلات والدوريات، يقدم متناً جيداً، وقادراً على تقديم صورة عامة وقريبة من التجربة الإبداعية الليبية. أسأل نفسي: لماذا قلت صورة عامة وقريبة؟، لماذا لم أقل مثلاً: صورة التجربة الإبداعية؟. الحقيقة التي تفرض نفسها أن هذا النتاج يشكو من بعض الإشكالات:
1- أولى هذه الإشكالات الانعزال والاستقلال/ فهذه الكتابات النقدية هي كتابات معزولة عن بعضها ومستقلة بما قدمت، بمعنى أن هذه النصوص لم تخلق تراتبية فيما بينها ولم تستفد من بعضها، أي أن مبدأ التواطؤ لم يجمع فيما بينها لخلق حوارٍ منتج.
فلو نظرنا مثلاً لما قدمه "مفتاح العماري" في كتابه (فعل القراءة والتأويل) ورصده للتجربة الشعرية في ليبيا، لوجدنا يتقاطع وما قدمه "إدريس المسماري" في كتابه (حدود القراءة)، وما قدمه "أحمد الفيتوري" في كتابه (قصيدة الجنود). تلتقي هذه الكتابات في رصدها للبدايات واللحظات الحرجة في مسيرة الشعرية الليبية، وكذا تخلص لذات النتائج، وكأن كلٍ منهم يسعى لكتابة مسيرة التجربة من وجهة نظره، وإن كنت أرى أن هذه التجربة لا تحتمل وجهات النظر الكثيرة.
2- ثانيها، النظر من الخارج/ فهذه الكتابات حتى وهي تتبع مسيرة التجربة الإبداعية لم تعمل على النصوص، بمعنى إنها أقصت النص كشاهد، مكتفية بحضوره كصوره، بمعنى أن النص يطرح كصورة للمرحلة، لا كشاهد يمكن استجوابه والغوص فيما يملكه من شهادة. واستخدمت مفردة الصورة، كون النص النقدي لا يحاول استثارة الشاهر إنما يكتفي منه بما يقول فقط، فلا يقف عند دقائقه أو تفصيلات القول إلا في مجرد التعليقات، عند استخدام المفردات أو إعادة إنتاج الصور.
ومن الدراسات الشعرية المهمة في هذا الصدد، دراسة الكاتب "خليفة التليسي" حول شاعر الوطن "أحمد رفيق المهدوي" الصادة في 1965، ويكاد يكون هذا العمل الوحيد الذي تناول شاعراً ليبيا بهذا القدر من الجهد والعمل، فكأننا نلمس قلة صبر ومثابرة الكتابات النقدية عن تقديم نماذج تحليلية لما قدمته من طرح.
3- الانطباعية/ وهي ثالث إشكالات الكتابات النقدية، فهذه الكتابات تخضع لذائقة الناقد لا منهجه، وبالتالي فإن هذه الكتابات لا تخضع لأي منهج نقدي أو تنظيري (باستثناء الدراسات الأكاديمية، وبعض الجهود الحالية)، فهي لا تتعامل مع النصوص بذات القدر من الانحياز الذي يتطلبه العمل النقدي14، إنما يظهر الانحياز بكل وضوح، في الانتقائية التي يتعامل بها الكاتب مع النتاج المطروح. وهذا يعيدنا لم قلته سابقاً من أن هؤلاء النقاد هم كتاب نص غير متفرغون للعمل النقدي، بالتالي يقعون كمتلقين في مطب الإعجاب والانبهار بالنص.
[6]
ماذا بعد.. حتى لا يطول بنا حبل الكلام، فنضيع، أفضل التوقف هنا، خالصاً: أن الجهد النقدي المقدم والموازي للتجربة الإبداعية في ليبيا، هو جهد نقدي مميز في مادته (كمتن)، استطاع رغم كل شيء من الاقتراب من النص، وأنه استطاع رصد لحظات التجربة الإبداعية المهمة وكشف مناطق السخونة فيها، وهو وإن عانى من قصور، إنما قصور المحاولة، التي تعقبها خطوات أكثر وأكثر، وسيكون للغد رأي آخر، خاصة وأن بعض الدراسات الأكاديمية15 التي تتناول التجربة الإبداعية في ليبيا صدرت في السنتين الأخيرتين، وهي تساهم بقوة في رفد التجربة.
وأجد نفسي أختم بهذا المقطع للشاعر الليبي "عاشور الطويبي":
فالسماء مكتنِزة بالنجوم..
بعضها مُبهِر.. بعضها باهت..
وبعضها كما يجب أن يكون..
أقف مُتكِئاً على حافة الشرفة
أرقب المشهد العظيم
……..
أحاول أن أفهم..
لكن هذا لا يتأتَّى في اتكاءةٍ واحدة
هوامش:
1- دخل الإيطاليون إلى ليبيا في أكتوبر-1911، واستمروا بها حتى هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، إذ خضعت البلاد للبريطانيين. ولا ننسى ما تعرضت له البلاد من قبل تحت الحكم العثماني.
2- (إبراهيم الكوني يلخص العملية النقدية في ليبيا/ حوار مع الناقد "أحمد الفيتوري"/ حاوره: رامز النويصري) صحيفة الجماهيرية_ العدد:4123_ التاريخ: 9-10/10/2003.
3- المصدر السابق.
4- نشير إلى أن بعض هذه الدراسات فاز بفرصة النشر، أما الأكثر فيظل حبيس المكتبات الجامعية رغم توصيات النشر التي تلحق إجازات هذه البحوث.
5- نعني بليبيا الكيان والإقليم المحدد جغرافياً بالحدود والمظاهر الطوبوغرافية.
6- أما أولى الصحف الخاصة فهي (الترقي) لصاحبها "محمد البوصيري" سنة 1897.
7- علي الرقيعي (الحنين الظامئ) منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان-طرابلس/1979/ ص: 22.
8- المصدر السابق- ص: 23.
9- سليمان سالم كشلاف (الشمس وحد السكين.. مقالات في الأدب) الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان-مصراتة/7-1998.
10- رامز رمضان النويصري (مقال: في مصطلح الجيل) صحيفة الجماهيرية_ العدد:4466_ 19-20/11/2004- ص: 13.
11- عرفت هذه الفترة انتقال الكثير من الغرب إلى الشرق، وبالعكس، وأيضاً اتجاه الكثير للمدن خاصة طرابلس وبنغازي بشكلٍ خاص، لتأتي من بعد مرحلة النفط في ستينيات القرن الماضي ليترك الكثير قراهم ونجوعهم باتجاه الذهب الأسود.
12- رامز رمضان النويصري (مقال: في مصطلح الجيل والمجايلة) صحيفة الجماهيرية_ العدد:4472_26-27/11/2004- ص: 13.
13- لم أتمكن من الاطلاع على هذا المقال، وما أورده في هنا هو ما تناولته بعض الكتابات.
14- لا أستطيع أن أبرئ نفسي من الوقوع في هذه الدائرة، فيما قدمته من قراءات وكتابات نقدية.
15- رغم ما تتمتع به هذا الدراسات من طابع أكاديمي، إلا إنها في منهجها تقدم نوعاً من الحياد، والقراءة العميقة للنص والتجربة في عمومها. * نشر بصحيفة القدس العربي: العدد: 5278 / 18.5.2006
رامز رمضان النويصري
ليبيا
المصدر : مجلة الفوانيس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.