"من الواجب على فقهاء وعلماء المسلمين مواكبة تطورات الحياة ومستجداتها على جميع الأصعدة" هذا ما أكده الفقيه السوري وهبة الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي بجامعة دمشق، في الحلقة الماضية من برنامج الشريعة والحياة 2/8/2009 على قناة الجزيرة الفضائية؛ معتبرا أن الإخلاص للشريعة الإسلامية يقتضي أن نحقق للناس ما يرعى مصالحهم ويحقق لهم النفع والطمأنينة. وتابع الزحيلي: "إن الأمور التعبدية لا تقبل التغيير"، مردفا أن التغيير يكون في الوسائل والمجالات التي تمكن الإنسان من أداء مهمته دون حرج، ولا ضرر من أجل مصلحة الإنسان، كما أنه يكون في الأحكام المعلقة في أصل القضاء والقدر، مثل مسألة صلة الأرحام ورد البلاء بالدعاء. كما أشار إلى أن المجامع الفقهية لا تستطيع التدخل في قضايا المتغيرات في الشريعة الإسلامية؛ معللا ذلك بأنه أمر متروك للزمان والمكان، فقد يكون حكم اليوم جائزا لكنه يتغير غدا بتغير الظرف. التوازن بين الحركة والثبات وأفاد الزحيلي في بداية حديثة أن الشريعة الإسلامية تتميز بثلاث خصال، هي: الدوام والثبات إلى يوم القيامة، النزعة العالمية التي تبغي الخير والمحبة للعالمين، خاتمة للشرائع السماوية واعتبر أن الخلود والعالمية والخاتمية منطلقات أساسية لإعطاء التوجه الصحيح لقضايا الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية، مضيفا أن استمرار هذه الشريعة يتطلب أن تجمع بين عناصر الأصالة والثبوت والتغير أحيانا، ومواكبة التغيرات والحفاظ على مصالح الفرد والجماعة مع الأخذ بعين الاعتبار رفع الضرر، وتيسير الأحكام ودفع الحرج والمشقة، وكل هذا يجعل من الشريعة أساسا لمواكبة كل العصور. وفي رده على سؤال حول كيفية التوازن في الشريعة الإسلامية دون إسراف، أجاب الفقيه السوري بأن الأصول في العبادات والأخلاق وعلاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم تعتمد على الأصالة التي تحقق للمجتمع الإسلامي صفة نموذجية رائعة في احتضان الوحي الإلهي. وزاد بالقول إن مبادئ الحق والعدل والمسئولية مبادئ خالدة وثابتة تمتاز بأنها شاملة كل ما يحقق علاقة الإنسان مع نفسه ومع الله ومع المجتمع، مؤكدا أن هذه الصفة تمتاز بالمواءمة مع تطلعات المجتمع البشري؛ لأنها تعتمد على ركائز من قبيل الحفاظ على الدين والمال والنفس والعرض، وهي كليات خمس لم تخل شريعة من شرائع الله منها. مجالات التغير وحول مقولة "الشريعة صالحة لكل زمان ومكان"، أكد الزحيلي صدقية هذه العبارة؛ لكونها ذات مصدر إلهي، كما أنها تحقق للإنسان ظمأه الديني والروحي، مضيفا أن المعاملات التي دعت إليها الشريعة محبوكة النظام وتحقق الاستقرار والانسجام بين الناس، وإن وُجد انحراف فمن الناس أنفسهم وليس من المبدأ في حد ذاته. واسترسل الزحيلي قائلا إن الأمور التعبدية لا تقبل التغيير، إنما التغير يكون في الوسائل والمجالات التي تمكن الإنسان من أداء مهمته دون حرج ولا ضرر من أجل مصلحة الإنسان. وبخصوص التغير في الشريعة وانقلاب الحكم الفقهي من جهة إلى أخرى، أوضح الزحيلي أن الشريعة كاملة ونموذجية، مستشهدا بقول الله تعالى: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"، مشيرا إلى أن الشريعة السمحة راعت في أحكامها أداء الواجبات واجتناب الفواحش والقيام بالعلاقات الاجتماعية والإنسانية. وشدد الزحيلي قائلا: "لا يمكن أن يتغير الحرام إلى الحلال إلا في حالة الضرورة"، مستطردا أن هناك خمس آيات من القرآن تقلب الحرام إلى حلال من أجل الحفاظ على النفس البشرية، كما أن التغيرات لا يمكن أن تكون إلا في دائرة الاختلافات والاجتهادات الفقهية في النص ذاته. ونبه إلى أن التغيير يمكن أن يحدث في الأحكام المعلقة في أصل القضاء والقدر، مثل مسألة صلة الأرحام، لافتا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم "من أحبَّ أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثَره، فليَصِلْ رحمه"، فجعل حكم البسط في الرزق والبركة في الأجل معلقا بصلة الرحم، وأيضا قول الرسول الكريم: "لا يرد البلاء إلا الدعاء"، وهذا يعني أن حكم البلاء قد يتغير بسبب دعاء المسلم.. وهذا كله من أجل خير الإنسان وترغيبه في سلك طرق المعروف والبر. وأضاف الزحيلي بأنه يمكن حدوث تغيير في الأقيسة (جمع القياس) بهدف تحقيق المناط الذي يعتبر ضرورة من ضرورات ديمومة الشريعة وصلاحيتها؛ حيث تمدها بالأحكام الفقهية للمستجدات الحياتية التي لا يخلو منها عصر ولا مكان. وقال: "إن هذا التغيير لا يعد تغييرا في حقيقة الأمر؛ لأنه دائرة اجتهادية مرتبطة بالمصالح والعادات ورعاية المصلحة ودرء المفسدة، مما يبرز عظمة الشريعة، لكونها لم تضيق على تطلعات المسلمين ومصالحهم المستجدة. تغير الأحكام بتغير الأزمان وحول قاعدة "تغير الأحكام بتغير الأزمان"، أوضح الزحيلي بأنها قاعدة فقهية اجتهادية؛ حيث إن الحكم الشرعي يتغير في ضوء العادات ووفق مصالح الفرد، مضيفا أنها قاعدة مُسَلم بها في نطاق الاجتهاد، لكنها ليست مطلقة تماما، فالأحكام لا تتغير بالنسبة لأصول وقواعد الشريعة، مؤكدا أنه "إذا ما تغيرت هذه القواعد والأصول لوقعنا في هاوية خطيرة"؛ على حد تعبير الزحيلي. وذهب الفقيه السوري إلى أنه بالمقابل جاءت الحياة الحديثة محملة بقضايا كبيرة، لم تكن معروفة من ذي قبل في مجالات البيئة والطب والاقتصاد والسياسة والمجتمع، لهذا يرى أن على العلماء مواكبة هذه التطورات والمستجدات وإلا جمدنا الشريعة وضيقنا رحابتها، فالإخلاص للشريعة يقتضي أن نحقق للناس ما يرعى مصالحهم. ولخص عوامل التغيير في الشريعة في فساد الأخلاق والمجتمعات، وتطور الظروف، أو بسبب مستجدات التنظيمات الحديثة، مشيرا إلى أنه يمكن حدوث تغيير في النصوص الشرعية القابلة للاجتهاد حسب مدى تحقق ثبوت النص ثبوتا قطعيا، كما في القرآن أو الحديث المتواتر، فهذه النصوص من الشريعة لا يمكن تجاوزها لكن يمكن التغيير في التطبيقات. وعن دور المجامع الفقهية في رصد الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية، أجاب الزحيلي "أن المجامع الفقهية لا تستطيع التدخل في أمر متروك للزمان والمكان، فقد يكون حكم اليوم جائزا لكنه يتغير غدا بتغير الظرف". كما نفى الزحيلي احتمالية وجود منطقة فراغ تشريعي قائلا: "ليس هناك منطقة فراغ تشريعي، بل هناك اجتهاد يتم حسب ظروف الوقائع الجديدة وعرضها أمام المجامع الفقهية اقتصادية أو أخلاقية أو إنسانية كانت"، مضيفا أن "قرارات هذه المجامع الفقهية تملأ ساحة الاجتهاد؛ ولا أقول الفراغ؛ لأن الفراغ يعتبر نقصا والشريعة لا نقص فيها..". صحفي مغربي. مدارك 05-08-2009