لمّا اخترت مقالة محمّد كريشان، الصحفي البارز بقناة الجزيرة القطرية - موسم الهجوم على "الجزيرة" - لنشرها في أحد المنتديات قدّمتُ لها بما يلي: "أحسب أنّ هذا المقال نموذج ممتاز نتعلّم منه كيف تكون الكتابة وكيف تكون الحجّة بعيدا عن الغضب المفضي إلى سقطات اللسان"، فقد خلا موضوعه – وهو منشور بالصحف والمواقع (*) – من كلّ ما يخدش الحياء! وكيف يكون فيه مثل ذلك ومحمّد من عائلة تونسية عريقة – أحسب - علّمته كيف يكون حييّا وكيف يكون ناجحا وكيف تُذكر بذكرهِ تونسُ بخير رغم ما فيها من الظلم والهبوط الأخلاقي الذي أرسى بها على ضفاف لا يراها الماشي فوق أديم الأرض... وقد خفي عنّي ما انتبه إليه أحدُ أبرز خُدّام "صبّاط الظلام في نسخته المنقّحة للعهد الجديد" الذين لم يتناولهم السيّد التميمي – أطال الله عمره وأعانه على كشف ما يخدم الحقيقة - في منبر "الذاكرة الوطنية" بعد..، فقد كتب مقالا نشرته جريدة الصباح التونسية، أراد أن يسلخ به محمّدا سلخا، مستعملا أوصاف هدف منها - بجهله مدلولاتها - التنقيص من شأنه، فقد ركّز على "قارئ الأخبار"، و"مشغّليه"، وقد أنطق محمّدا بما لم ينطق به من قبل فبيّن أنّ محمّدا وصف مخالفي الجزيرة ب"كتاب تقارير أو منفذو آوامر، سطحيون، تافهون، منحطون، وشاة مرتزقة وغير ذلك من نعوت القاموس الديمقراطي المتشبّع كما هو واضح بثقافة الرأي والرأي الآخر."... وقد ذكّرني خَدّامُ "صبّاط الظلام" بمثل عامّي لنا في تونس يقول (وبدقّة): "لجرب تحكّو جنابو"، مفاده أنّ الذي يقرأ نصّا (مثلا) فيه الحديث عن بعض أمراض يعلمها هو في نفسه – إذ ليس من النّاس من هو أعلم منه بما في نفسه – يحسب أنّ الكاتب إنّما يعنيه هو ولا يعني أحدا غيره (وقد لا يكون الكاتب عناه بأيّ حرف)! فرغم أنّ محمّدا لم يسمّ أحدا ولم يزد على إشارته المتأدّبة التي قالت: "المشكلة إذن ليست في نقد هذه المحطة، فهي بأمسّ الحاجة إليه إذ يكفيها تخمة المديح طوال هذه السنوات، ولكن في الطريقة المبتذلة التي يتم بها ذلك، وفي الصحف والصحافيين الذين تولوا هذه المهمة والذين ما عرف عنهم سوى أنهم يكتبون ويخرسون بالأوامر"، كما أنّه لم يسمّ بلدا بعينه بل اكتفى بالقول ب: "... إنّ إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة في إحدى هذه الدول خصصت لها برنامجا كاملا عبارة عن ثلاث ساعات متواصلة من الردح"! فإنّ خَدّامَ "صبّاط الظلام" في تونس قد كشف عن هوية البلاد التي أخفاها (وإن لم تخف) محمّد كريشان؛ قناعة منه أنّ البلاد الوحيدة التي تصرف الأموال العمومية الطائلة على القنوات من أجل تدليس الحقيقة ولفت الأنظار عن الحياة ومشاكل النّاس إلى ما يقتل الحياة ويُلهي النّاس هي تونس، ويكفي العاقلَ إحصاءُ ساعات الرّياضة والرقص الماجن والغناء الهابط في القناة الرسمية التونسية حتّى يقبل بهذا التقييم... وإنّ خَدّام "صبّاط الظلام" في تونس قد ترجم عبارات محمّد الحييّة بنعوت نسبها بنفسه إلى قاموس وصفه بالقاموس الديمقراطي، والديمقراطيّة عنده لا تعترف – ربّما - بالخطوط الحمر، كما أفاد بذلك مقدّم برنامج "ذبح قناة الجزيرة" عندما تدخّل فحرّض بالقول: "نسمّي الأشياء بأسمائها، ففي حنّبعل وتونس ليس هناك خطوط حمر"(**) في إشارة منه ربّما لاستحلال الأكل من لحم "الجزيرة الإخوانية" - حسب تعبير كارهي الإخوان والأخوّة والمحبّة - دون ضابط شرعي قد يُلزم بتحرّي الحلال من الحرام، فتكلّم عن منفّذي الأوامر وهو يعلم أنّه أوّلهم وعن السطحيين والتافهين والمنحطّين والمرتزقة؛ ولولا بعض الخوف من قانون صنعوه في تونس لمراقبة النات وأدخلوا به امرأة مثقّفة السجن هذه الأيّام دون حياء لقلت أنّه منهم جميعا، والوشاة وهو رئيسهم... وقد تناسى خَدّام الصبّاط في غمرة عزّته بالوطنيّة التي باتت في تونس حكرا على المدّاحين المرتزقة، أنّ محمّد كريشان تونسيّ وطني غيور على بلده خادمٌ له بسمعته كما أسلفت، وأنّه صحافي خير منه وأنجح... كما غفل أيضا عن أنّ النّاس جميعا قد انقسموا إلى عمّال وأرباب عمل.. وأنّ العامل مهما كان وأين كان مطلوب منه الإخلاص في عمله والغيرة على مؤسّسته وإلاّ كان مأجورا راكضا وراء منفعة وليس أجيرا صاحب منفعة ونفع للنّاس!... ونحن هنا في البلاد غير الإسلامية نبذل جهدنا خدمة للمؤسّسة التي نعمل فيها ونرجو لها ولصاحبها النّجاح، وفي ذلك تطييب للدرهم الذي نقبضه وتشريف للقب الإسلامي الذي نحمله ودرء لصفات ذميمة ألصقت بالمغتربين عموما بمفعول فكر متخلّف ذميم كهذا الذي عمر رأس خدّام الصبّاط والذي عبّر عنه بقوله: "من المحزن حقا أن يختار تونسي مشغّله ويفضّله على بلده وعلى سلطة بلده مهما كان حجم الاختلاف مع أداء هذه السلطة"، فإنّ عدم الإخلاص في العمل والغشّ فيه لن ينجي من عاقبته أمام الله بلد ولا سلطة برّة كانت أم فاجرة! فكيف يستكثر خدّام الصبّاط على كريشان إنصافه للجزيرة وهي في بلاد المسلمين وتعمل لخدمة المسلمين؟!.. يقول خدّام الصبّاط في خاتمة مقاله: "أما عن مهام تطوير واقع اعلامنا الوطني التونسي فليطمئن قارىء الأخبار ان هذا التحدّي موكول الى الإرادات الوطنية الداخلية الصادقة التي لا تملك عقدة الخوف من نقد ذاتها والرغبة في تجاوز ثغرات.... سواء اتفقت مع السلطة أو اختلفت معها"، وهي جملة يستعملها خدّام الصبّاط في الكثير من المَواطن؛ عند مواجهة الإسلاميين وعند مواجهة أهل الحوض المنجمي وعند مواجهة الصحافيين وعند مواجهة مَن هم بالدّاخل ومواجهة مَن هم بالخارج، مفادها أن لا دخل لكم فيما يحدث، فللبلاد رجالها ومصلحوها، وهم جميعا عنده من شاكلته: وصوليون أنانيون مدلّسون جبناء! حصروا الحبّ في المدح وحصروا الحقّ في الصوت العالي الذي يملك وسائل التشويش على الآخر... ولن يصلح أمر تونس إلاّ حثّ التميمي خطاه وتخلّص ممّا بين يديه ممّا تعلّق بالماضي الميّت فخلص هو وثلّة من الخيّرين الشجعان إلى الحاضر يصلحونه؛ حتّى يرتّبوه في "الذاكرة الوطنية" بلا دماء تقطر من صبابيط الظلام... وليعلم خَدّام الصبّاط في النّهاية أنّ قراءة الأخبار مهنة شريفة، سيّما إذا كان القارئ فيها كمحمّد كريشان يعيش الخبر الذي يقرأه حتّى تمنعه العبراتُ ذات مرّة أو مرّات من إتمامه!... (*):المصدر: صحيفة "القدس العربي" (يومية – لندن) الصادرة يوم 4 أوت .2009 (**): في تونس هنالك الليالي الحمر والشياطين الحمر (من غير رياضيي بريطانيا طبعا) والأفكار الحمر وكثير من الحمر...