موريتانيا:حين أدّى الجنرال محمد ولد عبد العزيز اليمين الدستورية كرئيس منتخب لموريتانيا، توجّهت أعيُن المراقبين نحو الحكومة التي سيشكِّلها.فبعد حملة انتخابية اتّسمت بخطاب حادٍّ وساخِن، شن فيه هجوما لاذِعا على مُنافسيه ونَعتَهم بأبشع الأوصاف وتعهّد بقلب الطاولة على رؤوس الطبقات السياسية والمالية، التي كانت تُسيطر على البلد منذ عقود، توجّهت أعيُن المراقبين نحو الحكومة التي سيشكِّلها ولد عبد العزيز، لمعرِفة ما إذا كان الرجل سعى بخطابه الانتخابي لاستمالة أصوات الشريحة الكُبرى من ساكنة البلد، وهم الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة، أم أنه سيكون جادّا فعلا في تجسيد خِطابه على أرض الواقع؟ وبعد أسبوع جاء الإعلان عن التشكيلة الحكومية، التي يُمكن القول أنها اتّسمت بجملة مميّزات أساسية: أولها: كون معظم أعضائها من غير المعروفين سياسيا أو مَن يوصفون حسب رأي المعارضة بالمغمورين. ثانيا، أغلب أعضائها من الشباب. ثالثا، كان الحضور التكنوقراطي فيها أكثر من الحضور السياسي. رابعا، أهملت التّوازنات الجهوية والقبلية في البلد، خِلافا لما درجت عليه الحكومات السابقة. خامسا، كانت حكومة ضيِّقة، اقتصرت على مؤيِّدي ولد عبد العزيز في الانتخابات الماضية، دون إشراك أحزاب المعارضة، بما فيها تلك التي اعترفت بشرعية انتخاب ولد عبد العزيز رئيسا للبلاد وعبّرت عن استعدادها للدّخول معه في شراكة سياسية والتخلي عن موقِع المعارضة، الذي كانت تنتهجه. سادسا، أنها ضمّت أكبر عددٍ من النساء في تاريخ الحكومات الموريتانية، فأسندت 6 من حقائِبها الثمان والعشرين إلى سيِّدات، من بينهم حقيبة وزارة الخارجية، التي تُعتبر هذه المرّة الأولى التي تتولاّها فيها سيِّدة عربية. هذه المميِّزات، إذا ما قرأنها بتمعُّن، سنجد أنها حملت معها مبرِّراتها في خطاب الرّجل الذي سوّق له في الأشهر الماضية ووعد به، رغم أن حزب تكتّل القِوى الديمقراطية، بقيادة زعيم المعارضة أحمد ولد داداه قرأها من زاوية معارِضة، خلصت إلى أن المعيار الوحيد الذي تمّ اختيار أعضاء الحكومة على أساسه، هو "الزبونية السياسية والمكافأة خلال الحملة الانتخابية الماضية". كما ضمّت الحكومة الجديدة عناصِر من حكومة ما بعد انقلاب 6 أغسطس 2008، بما في ذلك الوزير الأول مولاي ولد محمد الأغظف. خلفِيات ومعايير ويأتي اختِيار ولد عبد العزيز لأغلبية أعضاء حكومته من الأوجُه الشابة وغير المعروفة سياسيا، كمحاولة منه لتجسيد وعودِه بتجديد الطّبقة السياسية، إذ طالما اعتبر أن النّخبة السياسية التي حكمت البلد خلال العقود الماضية، هي المسؤولة عن ما يُعانيه المواطن من تخلّف وفقر وعدَم استقرار، لذلك، كان من الطبيعي أن يبدأ هذا التّجديد بحكومته ورجاله الذين سيتولّون معه إدارة شؤون البلاد في المرحلة القادمة. أما عن غلبة الطابع التكنوقراطي على الحكومة، فمردّه أن الرجل فاز في الانتخابات الرئاسية الماضية، دون أن يدخل في أي تحالُفات سياسية تفرض عليه استحقاقاتها في مرحلة ما بعد الانتخابات، بل يمكن القول أن معظم التكتّلات السياسية والحركات والتيارات الأيديولوجية التقليدية في البلد، اصطفّت ضدّه وسعت لإسقاطه في الانتخابات الماضية، ربما خوفا من خطاب تجديد الطّبقة السياسية الذي رفعه، كما يقول أنصار الجنرال أو إيمانا بعدم صلاحيته للحُكم في البلد، بسبب تهوّره ونزعته الانتقامية، كما يقول معارضوه. وبما أن الرجل استطاع أن يحصد أغلبية أصوات الموريتانيين دون الحاجة إلى التّحالف مع كبار الزعماء السياسيين في البلد وقادة التيارات، فقد كان في حلّ من أي التزام سياسي لتلك الحركات والتيارات، مما مكّنه من الإفلات من قبضة مجموعات الضّغط السياسي، ثم أن الجنرال ولد عبد العزيز نفسه رجل تكنوقراطي لم يُعرف عنه أي ميول ايدولوجي ولا سياسي، لذلك، فهو ينظر إلى السياسيين في البلد بتوجُّس، ويخشى تحكّمهم في قبضة الأمور، خصوصا وأن مُعظم الحركات السياسية في البلاد، عمِلت لفترات طويلة في السِر، بسبب الأنظمة الشمولية والاستبدادية الماضية، التي كانت تنتهِج سياسة القمْع وكبْت الحريات السياسية، ومن هنا، يرى ولد عبد العزيز أن فِكر العمل السِرّي والتحرّك خلْف الكواليس، هما السِّمتان الغالِبتان على أبناء الحركات السياسية الموريتانية، ممّا جعله يتوجّس خيفة من أولئك السياسيين، ويتعمد الابتعاد عنهم قدر المستطاع، ساعده في ذلك أن هذه الحركات، في معظمها، ناصبته العداء بعد الانقلاب وخلال الانتخابات الرئاسية الماضية. أما احتلال النساء حقائِب هامة في الحكومة من قبيل وزارات الخارجية والتشغيل والثقافة والرياضة والشؤون الاجتماعية والطفولة، فذلك خِيار يأتي كمُحاولة للتناغُم مع خطاب التّجديد، خصوصا وأن السيدات اللّواتي تمّ اختيارهُن لشغل تلك المناصب، هُنّ من فِئة الشباب. وجوه جديدة ومن أبرز الوجوه الجديدة في الحكومة، وزيرة الخارجية الناهة بنت حمدي ولد مكناس، وهي من مواليد سنة 1969، شغل والِدها منصب وزير الخارجية خلال أول فترة حُكم مدني في البلاد بعد الاستقلال، وعُرف عنه أنه أحد أعمدة الدبلوماسية الموريتانية ومن أبرز حُكمائها الكِبار، خلَفت والدها بعد وفاته سنة 1999 في رئاسة الحزب الذي أسّسه، وعيِّنت آنذاك وزيرة مُستشارة في رئاسة الجمهورية إبّان حُكم الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع. وفي سنة 2007، انتُخبت نائبة في البرلمان الموريتاني، وهو المنصب الذي ظلّت تشغله إلى حين تعيينها وزيرة للخارجية، لتكون بذلك أول سيدة عربية تتولّى قيادة الدبلوماسية في بلدها. ومن أبرز الوجوه الجديدة كذلك، وزير الداخلية محمد ولد ابيليل، وهو إداري قديم، انتُخب نائبا في البرلمان عن حزب تكتّل القوى الديمقراطية المعارض سنة 2007، إلا أنه أعلن انشِقاقه عن الحزب بعد الخلاف بين رئيسه أحمد ولد داداه والجنرال محمد ولد عبد العزيز، وانخرط في صفوف البرلمانيين المؤيِّدين للجنرال ولد عبد العزيز. وقد عُرف خلال تولِّيه مناصب إدارية في الدولة، بالصّرامة وقوّة الشكيمة. وهناك أيضا ضمن الوجوه الجديدة، وزير العدل بهاه ولد احميدة، حاصِل على شهادة دكتوراه في القانون، عُرف عنه عزوفه عن ممارسة العمل السياسي، وقد اختِير لمواجهة ما يقول ولد عبد العزيز، إنها "مافيات الفساد"، التي تعصِف بالقضاء الموريتاني. ويرى المراقبون أن ولد احميده سيكون أمام امتِحان صعْب، خصوصا وأنه سيُواجه رجالا متمرّسين سبَق وأن أطاحوا بوزراء سابقين وفرضوا رؤيتهم على القضاء، إلا أن الأخير أكّد لمقرّبين منه، أنه يُعوِّل على دعم الرئيس له في معركته من أجل إصلاح القضاء. كما نجد من أبرز الوجوه أيضا في الحكومة، وزير الصحة الدكتور الشيخ ولد حُرمة، وهو طبيب متخصِّص في الأشعّة وابن أحد أبرز زعماء الاستقلال أحمد ولد حرمة ولد ببانا، وكان من السياسيين الذين عارضوا الرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، وقد اعتُقل وقُدِّم للمحاكمة أكثر من مرّة. تحدِّيات تُواجه الحكومة وتواجه حكومة ولد عبد العزيز الجديدة عدّة تحديات، من أبرزها تنفيذ البرنامج الطّموح الذي تعهّد به الرجل خلال الانتخابات الرئاسية القادمة، خصوصا في المجالات التنموية والاقتصادية. فقد وعد الرجل بالقضاء على أحياء الصّفيح في المدن الكبرى وتقليص نِسبة الفقر في المجتمع، في حين استلَم مهامّه والبلاد تواجِه أزمة مالية خانقة، دفعت ببعض المؤسسات التابعة للدولة إلى التأخّر في دفع رواتِب عمّالها وتوقيف المشاريع التنموية في البلد، ويرجِّع المراقبون أسباب هذه الأزمة إلى عوامل داخلية وأخرى خارجية. فعلى المستوى الداخلي، واجهت البلاد خلال العام الماضي عقوبات اقتصادية وسياسية بسبب انقلاب أغسطس 2008، الذي قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز ضدّ الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وخارجيا، تسلّم ولد عبد العزيز وطاقمه الحكومي مهامّهم في وقت تضرب فيه الأزمة المالية العالمية أطنابَها وتعصف بأمهات الاقتصاد العالمي، فمِن أين لاقتصاد هشٍّ، يعتمد على المساعدات الخارجية، أن يصمُد في وجهِها أو يقاوم طوفانها؟ كما تواجِه الحكومة تحدِّيا آخر لا يقِلّ شأنا عن سابقه، وهو محاربة الفساد الذي استشرى في الإدارة وأصبح جزءً من الرّوتين اليومي، حيث باتت الوظائف تتفاضل بحسب ميزانيتها لا بحسب رواتب أو نفوذ أصحابها، هذا فضلا عن أن كِبار المسؤولين المتورِّطين عادةً في قضايا الفساد، يحظون بحماية عشائرهم ولوبِياتهم القبيلة والسياسية. حريات في دائرة المخاوف وإن كان بعض المراقبين يتوقّعون في حال نفّذ الرئيس المنتخَب تعهّداته تقدّما في مجال التنمية الاقتصادية وإحداث ثورة في مجال تجديد الطبقة السياسية، إلا أن هؤلاء المراقبين لا يتوقّعون تقدما كبيرا في مجال الحريات السياسية وكذلك الحريات العامة والفردية، نظرا لعدم حضورها في صدارة اهتِمامات الرجل، انطلاقا من خطاباته وتعهّداته، وهو ما ينفيه مقرّبون منه. غير أن مِحكّ التجربة يبقى الفيصل الوحيد في الحُكم على الرجل: هل سيكون على قَدر التحدِّيات التي وعد بقهرِها خلال حملته الانتخابية وأين تتموقع الحريات من خارطة اهتماماته؟ أم أنه سيكون مجرّد حلقة في سلسلة أنظِمة تعاقَبت على البلد ورحلت، دون أن تخلِّف وراءها سوى بُؤس مفرط وفقْر مدقع وتخلّف مقيت؟ نواكشوط محمد محمود أبو المعالي – swissinfo.ch