'كاد المريب أن يقول خذوني!'... هذا ما ينطبق بالضبط على نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني في دفاعه المستميت هذه الأيام عن أحلك ما في فترة جورج بوش من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ولقيم التحرر الأمريكية نفسها. بالطبع لم نسمع تصريحا واحدا للرئيس السابق جورج بوش المعني الأول والأخير بالدفاع عن 'إنجازاته'، لكننا لم نسمع كذلك تصريحا واحدا لوزير العدل الأمريكي السابق جون أشكروفت ولا لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد ولا لمساعده بول ولفويتز ولا أيضا لوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس...الكل لاذوا بالصمت إلا هو فتقريبا لم يتحدث تشيني بوتيرة متقاربة طوال ثماني سنوات في منصب الرجل الثاني في الإدارة الأمريكية كما تحدث منذ وصول الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض قبل ثماني أشهر ولا سيما هذه الأيام بشكل خاص. لا يقتصر تشيني في مقابلاته الصحافية وبياناتها التي يصدرها على الدفاع عن الحقبة التي كثيرا ما قيل إنه كان الحاكم الفعلي فيها وإنما طال كلامه التشكيك في كفاءة أوباما وحرصه على الدفاع فعلا عن أمن البلاد ومناعتها وكأن هذا الدفاع ما عاد ممكنا إلا بانتهاك الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات كما حددتها المواثيق الدولية الشهيرة بل وكما حددتها القوانين الأمريكية نفسها ناهيك طبعا عن القيم والمثل التي لطالما روجت لها الولاياتالمتحدة في كل أنحاء العالم وافتخرت بسيادتها في قوانينها وسلوكيات أجهزتها. آخر تصريحات تشيني كانت تلك التي عبر فيها عن غضبه الشديد تجاه فتح إدارة الرئيس أوباما التحقيق مرة أخرى مع محققي وكالة الاستخبارات المركزية بشأن أساليب التحقيق التي اتبعوها مع المعتقلين المتهمين بعلاقتهم بالإرهاب إذ اعتبر ذلك 'فضيحة' و'تطورا مشينا' قائلا في مقابلة تلفزيونية لم يستطع أن يخفي فيها شدة حنقه 'لدينا سجل حافل على مدى 8 سنوات قضيناها في الدفاع عن الأمة ضد أي هجمات أخرى من قبل تنظيم القاعدة تحصد عددا كبيرا من الأرواح' وأنه كان 'أحرى بإدارة أوباما الذهاب لهؤلاء الأشخاص الذين اتبعوا تلك السياسة لتتعلم منهم كيف استطاعوا حماية البلد طوال تلك الفترة، لكنها بدل أن تفعل ذلك خرجت تهدد بشطب المحامين الذين أعطونا الآراء القانونية من قوائم المحامين ومنعهم من مزاولة المهنة'. ويبدو أن كل التصريحات السابقة التي أطلقها تشيني طوال الأشهر والأسابيع الماضية كانت بهدف تخويف إدارة أوباما والتشهير بها قبل إقدامها على أية خطوة لكن بعد أن أعلن وزير العدل اريك هولدر الاثنين تعيين مدع عام خاص للتحقيق في الوسائل المستخدمة من قبل المخابرات المركزية الأمريكية في إطار استجوابات مشتبه بعلاقتهم بالإرهاب تلت اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 لم يعد أمام تشيني سوى الانتقال إلى مرحلة جديدة من التشهير لأنه بات يشعر أكثر من أي وقت مضى بأن الحبل بدأ يضيق تدريجيا حول عنقه هو بالذات باعتباره الاسم الأكثر ارتباطا بكل السلوكيات الأمريكية المعيبة في هذا الشأن بدءا من اللجوء إلى التعذيب الذي يخير تشيني وصفه ب'أساليب التحقيق المتقدمة' وصولا إلى السجون السرية وإرسال معتقلين للتحقيق معهم في أكثر من عاصمة عربيا مرورا بمعتقل غوانتنامو سيئ السمعة . أصاب البيت الأبيض بوصفه اتهامات تشيني بأنها 'نمطية ولا أساس لها' ولكنه قد لا يكون دقيقا في اعتبارها 'في غير محلها' لأنه من الواضح الآن أن نائب الرئيس السابق بات يشعر بأنه محاصر وأنه الوحيد المدافع عن حصيلة لا أحد يتشرف بالدفاع عنها وبالتالي فهو يدافع عن نفسه أولا وأخيرا. وقد يكون تشيني فعل ذلك بنبرة أعلى من المتوقع لأنه يخشى من تطور الأمور لاحقا لتعود كل الاتهامات إليه على أساس أنه عراب تلك المرحلة والمتدخل في كل تفاصيلها الأمنية بحيث يخشى في النهاية أن تصير الأمور في النهاية إلى محاسبته هو شخصيا على كل ما جرى. لهذا قد يكون محقا أنه شرع في الصراخ من الآن لعله يثني القوم عن الوصول إلى هذه النقطة. القدس العربي 02/09/2009