الجزائر مشاهد بيع خبز المطلوع وبعض الحشائش وعصير الليمون التي تستهوي الصائمين، تشدك إليها يوميا في بلدية الكاليتوس الواقعة جنوب العاصمة، مشاهد يصنعه أطفال لا يزيد سنهم عن الأربعة عشر عاما.فعلى مقربة من مقر البلدية وبالضبط عند مدخل سوق حي (أر.أش. بي) يلتقي محمد، تسع سنوات، مع رياض، 12 سنة، لبيع خبز المطلوع للمارة ممن يسلكون الطريق الوطني العابر للكاليتوس والأربعاء ولسكان الكاليتوس وضواحيها المترددين على السوق. ''كل يوم يأتي كل واحد منا بنحو عشرين خبزة على أمل الحصول على مصروف يومي'' يقول رياض الذي يشير إلى أن الخبز تتولى أمه إحضاره بالبيت. ''المطلوع'' والحشائش لشراء الأدوات المدرسية ومساعدة العائلة وعلى الرغم من أنه لا شيء يؤشّر إلى أن رياض عرضة للحرمان ولا للاحتياج، إلا أن كلامه يترك انطباعا مفاده أن الوضع الاجتماعي لعائلته مهزوز وهش بالنظر لكونه يعترف صراحة أن ميزانية البيت لم تعد كافية لتفي بكامل حاجيات العائلة. وإن كان هذا الطفل يعترف ببيعه لهذا النوع من الخبز إلا في المناسبات، وخاصة شهر رمضان، فان زميله محمد يقول إن عملية بيع هذا النوع من الخبز أصبحت بالنسبة إليه هواية يقوم بها في شهر رمضان وفي باقي الشهور الأخرى، على الرغم من أنه لم يجتز بعد مرحلة الطور الابتدائي من الدراسة. لكن ما فهمناه من خلال الحديث إليه هو أن أفراد عائلته يواجهون ظروفا اجتماعية صعبة، ''المقابل الذي أبيع به، نصفه تأخذه أمي ونصفه أحتفظ به وأدخّره لشراء الأدوات المدرسية''. على هذا النحو يتعلم محمد مسؤولية الكبار، يتعلم حمل هموم عائلته ويحرم من العطلة واللعب والتنزه عكس أقرانه ممن هم في مثل سنه الذين يمرون به وهو منشغل ببيع خبز المطلوع. ولو أن محمد يقر بأنه لا يهتز لرؤية أقرانه وهم يمرون عليه لأنه أصبح بمثابة (حقل جليد) لا يحركه أي شيء. ومن الكاليتوس إلى الأربعاء بالبليدة، تتعدد المشاهد وتكبر، فعلى طول الطريق ترى أطفال لا يأبهون لا بحرارة شهر أوت الحارقة ولا بغبار الطريق، يعانقون شبه طاولات لبيع التين وأنواع أخرى من الحشائش مثل المعدنوس، وصولا إلى سوق الأربعاء أين تجدهم منتشرين عبر مداخل السوق وفي زواياه يصيحون ويهتفون بأعلى أصواتهم لاستقطاب الزبائن لسلعهم، بينهم من يبيع الديول، ومنهم من يبيع كل ما يلزم من حشائش لإعداد شربة رمضان. فيما راح نبيل، 13 عاما، يرتّب نحو عشرة أكياس لعصير الليمون، الشاربات، فوق طاولة، رد علينا حين سألناه عن سبب إقدامه على بيع هذا النوع من المشروبات قائلا ''أخي الذي يكبرني هو من كلّفني بالبيع بعد أن وعدني بتخصيص المقابل لشراء الأدوات المدرسية''. تراجعت معيشتها فاستعانت بالأطفال هذا الوضع المتمثل في إقبال الأطفال على العمل ولو بشكل مؤقت، أصبح لافت للانتباه بالنظر إلى أن عددا من التجار بالحراش يقولون أن الظاهرة اتسعت دائرتها بالقياس لما كانت عليه خلال الأعوام السابقة وتفاقمت. فإذا زرت الحراش ومررت ببومعطي مرورا بكامل الشوارع والأزقة التي تحتضن يوميا أنشطة الباعة الفوضويين المتجولين، وصولا إلى قلب الحراش، ستقف على عشرات الأطفال يوميا ينافسون الكبار في بيع خبز المطلوع، الحشائش والعصير (الشاربات) وبعض الفواكه، بل وحتى بيع الأقمشة من نحو ما يقوم به ''أمين'' بسوق بومعطي والذي يبلغ من العمر 14 عاما ''توقفت عن الدراسة منذ عامين، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتولى بيع الأقمشة التي تتم خياطتها بالمنزل''. فمن منظوره أن عمله ذاك يساهم في استعادة ميزانية العائلة لتوازنها. على هذا النحو يدفع الآباء بشكل خاص والعائلات بشكل عام بأبنائهم إلى العمل من أجل تحسين أوضاعهم الاجتماعية، حتى أن العديد من الأطفال لا يجدون الجو المناسب مع عائلاتهم لمتابعة دراستهم، فتضطرهم الظروف إلى التوقف والخروج للعمل قصد مساعدة آبائهم. وعلى الرغم من أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يعرف تشغيل الأطفال بأنه كل شكل من أشكال النشاط الاقتصادي الذي يمارسه أطفال والذي يحرمهم من كرامتهم ويضر بنموهم الطبيعي والجسدي والنفسي، فإن ظاهرة تشغيل الأطفال تفاقمت واتسعت لتشمل كافة أرجاء الوطن بعدما كان الجزائريون يسمعون عن أحداثها في البنغلاديش وعددا من الدول التي أنهكتها الحروب والمجاعات. فإذا سلكت الطريق الرابط بين زرالدة وتيبازة إلى الغرب من العاصمة ستشدك مشاهد عشرات الأطفال ممن يحملون قفف وأكياس، يعانقون شبه طاولات على قارعة الطريق لبيع خبز المطلوع وحشائش محببة للجزائريين وفواكه مثل التين والبطيخ. فيما اجتهد آخرون لا تزيد أعمارهم عن الأربعة عشر سنة ببوهارون وبواسماعيل في استغلال حركة المصطافين الوافدين من ولايات أخرى لبيع الذرى التي يعكف هؤلاء الأطفال على شوائها فوق الجمر. وحسب شهود عيان من بوهارون، فإن أغلب الأطفال الذين جعلوا من طرق ومداخل المدينة مكانا لتجارتهم، هم ضحايا التسرب المدرسي، على اعتبار أن هؤلاء ألفوا المكان في كل الفصول، وهم أبناء عائلات فقيرة. إذ من المفروض أن ينعم هؤلاء بكامل حقوقهم في اللعب وتحصيل العلم وأن يحظوا بالحماية كونهم مستضعفين. فأن ترى طفلا يضحي بنفسه من الصباح إلى المساء وتحت أشعة الشمس لأجل إعانة عائلته، هو مظهر جارح يفضح خطابات المسؤولين في هذا الوطن الذين يقولون أنه لا وجود لفقراء في الجزائر، لأن وظيفتهم هي تزيين الواجهة بالخطابات التي تغطي عن المطالبين بحقهم في العيش الكريم. وفي الحقيقة أن استئثار العائلات بأطفالها للحصول على العيش لا يقتصر على ولاية تيبازة أو العاصمة بقدر ما يمتد إلى باقي ولايات الوطن أين يعرف تفاقما. يبيعون لشراء ''كسوة العيد''الزائر مثلا لولاية جيجل حين يسلك الطريق المؤدي إلى سيدي عبد العزيز أو الطاهير، بوسعه الوقوف على عشرات الأطفال الذين لا تلهيهم عن تجارة بيع الدرة المشوية والتين وبعض الخضر لا أشعة الشمس الحارقة ولا أي شيء، في سياق ما يشير إليه أحد المواطنين هناك إلى أن العديد من الأولياء هناك تخلوا عن مسؤولية تمدرس أبنائهم نتيجة عجزهم المادي، فيما يشير آخرون من ولاية قسنطينة إلى أن أطفال في سن التاسعة والعاشرة من العمر جعلوا من المكان المسمى''السويقة'' مرتعا لهم قصد بيع المطلوع القسنطيني وبعض الحشائش بل وحتى الأقمشة والخضر ''وعلى الرغم من أن القانون يمنع عليهم أي نشاط اقتصادي في سن الحادية عشر والثانية عشر، إلا أنه لم يسبق وأن تعرّض لهم أحد من أعوان الدولة هناك''. كما تشير أصداء مواطنين من ولاية الشلف إلى أن الخبز لا سيما المطلوع يأتي في مقدمة الأشياء التي يتولى الأطفال بيعها في شهر رمضان، ثم تأتي الحشائش والمشروبات الغازية والعصير. ويؤكدون على أن هناك من الأطفال يريدها هواية مؤقتة، وهناك من اختارها مهنة لأن عائلته فقيرة. وينقل عبد القادر عن مجموعة من الأطفال أنهم يعتزمون شراء كسوة العيد بالمقابل المادي الذي يحصلون عليه، فيما قرر بعضهم شراء الأدوات المدرسية. وفي ولاية وادي سوف تبدأ مغامرة الأطفال منذ الصبيحة إلى المساء وسط الصحراء لاصطياد ''سمك الصحراء'' المسماة بالتعبير الجزائري ''الزرزومية''، ثم يقومون بذبحه بعد اصطياده. ويشير مواطنون من هناك إلى أن هذا النوع من السمك يتم بيعه لخليجيين قصد استخراج بعض الأدوية منه. نوار سوكو