تونس حققت الرياضة التونسية قفزة نوعية لا يستهان بها من ناحية التكوين والتأطير والنتائج والتجهيزات. ولم تدخر الدولة جهدًا للإحاطة بالشباب والرياضيين في العاصمة والمدن الكبرى إلى أصغر القرى وأبعد الأحياء.وانتشرت في العشريتين الماضيتين قاعات الرياضة والملاعب المعشبة بدرجة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الرياضة التونسية وهو ما جعلنا من صفوة الدول الإفريقية والعربية في مجال البنية الأساسية الرياضية وجعل منشآتنا قبلة لعديد الفرق والرياضيين من الدول العربية والإفريقية وحتى الأوروبية. لكن هذه الإنجازات الضخمة والاهتمام الكبير للسلط بإنشاء الملاعب وتعشيبها وتمويل صيانتها كثيرًا ما اصطدمت بعقلية التواكل والإهمال والتسيب فتدهورت حالة عديد الملاعب وتآكل عشبها وصلحت لكل شيء إلا ممارسة كرة القدم، فذهبت بسبب ذلك المليارات من أموال الدولة أدراج الرياح وتضررت نتيجة لذلك الفرق التي أصحت تنشط على أرضيات رديئة جدًا وأغلقت ملاعبها للإصلاح. والأمثلة كثيرة على ملاعب صُرفت على تهيئتها وتعشيبها أموال طائلة لكنها الت إلى حالة يرثى لها، فهي إما تآكل عشبها واصفرّ كأنها مرعى للأغنام أو غطتها الحفر والمطبات كما لو أن سوقًا أسبوعية أقيمت عليها أو أن العشب لم يقع قصّه بالطرق العلمية والمطلوبة فكان إما طويلاً جدًا تتعثر فيه الكرة والسيقان أو قصيرًا جدًا فيغطيه التراب. المنزه.. كبير باسمه صغير بحالة عشبه فوجئنا ونحن نتابع انطلاق بطولة الرابطة الأولى أن معشب ملعب المنزه، معقل الرياضة التونسية وأحد أعرق الملاعب في العالم، في حالة يرثى لها إذ غطت جزءًا كبيرًا منه بقعة صفراء وحفر تخفي بقايا عملية صيانة غريبة وفاشلة أجريت على الميدان منذ سنة تقريبًا. ورغم غلق الملعب أكثر من مرة أمام المباريات في الموسمين الماضيين ورغم عمليات الصيانة التي أجريت عليه منذ كأس أمم إفريقيا 2004، لا تزال حالته رديئة وما انفك اللاعبون والمدربون يشتكون منها لخطورتها على صحة اللاعبين ولكونها تحول دون تقديم كرة قدم جميلة. وإذا كانت أرضية ملعب المنزه على هذه الحالة فلا تسألنّ عن بقية الملاعب وكثيرًا ما شاهدنا مباريات تدور فوق ميادين «كاراتيه» بكل المقايس ونسوق مثالاً على ذلك ميدان ملعب الطيب المهيري بصفاقس الذي تسبب في إصابة عديد اللاعبين بإصابات خطيرة (عصام المرداسي بالأربطة المتقاطعة في الموسم قبل الماضي) إضافة إلى أنه كثيرًا ما حرم الفريق من تقديم لعب جميل وكثيرًا ما استغرب الملاحظون اختلاف أداء النادي الصفاقسي بين مباريات المهيري والمباريات خارجه. وفي الموسم الماضي كانت حالة عشب ملاعب الفصرين وجندوبة والمرسى رديئة واشتكت منها كل الفرق تقريبًا. كما أغلق ملعب حمام الأنف للصيانة وتضرر لذلك (رياضيًا وماديًا) الفريق المحلي، وكذلك سيغلق قريبًا ملعب جرجيس للصيانة. أما في الرابطة الثانية وبقية الأقسام السفلى فحدث ولا حرج، ونكاد نجزم بأن ميداني رادس وسوسة هما الوحيدان اللذان حافظا على حالة جيدة نظرًا للصيانة بطرق علمية وعصرية. التمويل والمناخ: التعلات الممجوجة كثيرًا ما تعلل المسؤولون عن الملاعب بقلة الموارد التي تحرمهم من رصد ميزانية لصيانة ميادين اللعب وهي تعلة واهية لسببين: أولاً، لا يتطلب الأمر كثيرًا من المال بل حسن تدبير وتعيين مختصين (مهندسين أو تقنيين سامين) كامل الوقت فنكسب بذلك على واجهتين، ضمان ملاعب في حالة جيدة دائمة والمساهمة في تشغيل خريجي الجامعات من أهل الاختصاص وهم بالآلاف. وثانيًا، تصرف الأندية مئات الملايين في انتداب لاعبين فاشلين ومدربين نكرة و«تستخسر» في نفسها وفي الجهات التي تنتمي لها رصد مبالغ زهيدة للاهتمام بحالة العشب وصيانة الملاعب من التلف. كما يتخفى البعض الآخر من المسؤولين وراء عامل المناخ (الأمطار أو الحرارة) لتبرير تقصيره في صيانة الملاعب وتبذيره أموال الأندية في مصاريف ما أنزل بها من سلطان. لهؤلاء نقول إن الملاعب في أكثر الدول حرارة وجفافًا في إفريقيا والخليج العربي مثلاً في حالة ممتازة. كما أن أفضل الملاعب في العالم في أوروبا حيث الأمطار والثلوج لا تنقطع صيفًا ولا شتاء.. فلم لا يكون الحال على ما هو عليه عندنا حيث ليس لنا حرارة إفريقيا ولا ثلوج أوروبا؟! الفرق إذن هو في عقلية المشرفين على ملاعبنا سواء كانت البلديات (المالكة لها) أو الأندية (المستغلة لها) وهما يتنصلان من مسؤوليتهما ويصران على التهرب من مواجهة الأمر بجدية وإيجاد الحلول الناجعة (وما أسهلها) لهذه المعضلة، بل وكثيرًا ما يتبادل الطرفان التهم حول مسؤولية كل منهما في الاهتمام بالملاعب ويبقى الخاسر الوحيد الرياضة التونسية وشباب المدن والقرى. وحتى الميادين الاصطناعية لم تسلم، في أغلب الحالات، من التلف ونسي المشرفون عليها أو تناسوا أن صلوحيتها محدودة زمنيًا وأنها لا تصلح لممارسة كرة القدم إن تجاوز استغلالها مدة معينة. لماذا بقيت كراس الشروط حبرًا على ورق؟ ينصّ كراس شروط البطولة المحترفة والمصادق عليه خلال المجلس الفيدرالي المنعقد في 8 جويلية 2005 في الفصلين الخامس (الرابطة 1) والسابع (الرابطة 2) على أنه لا يمكن لأيّ فريق المشاركة في إحدى هاتين البطولتين إلا إذا استوفى عديد الشروط ومنها «امتلاك ملعب... معشب مصادق عليه ومستوفي لشروط السلامة». ولا بد من الإشارة إلى أن المصادقة على صلوحيات الملاعب هي من مشمولات لجان جهوية مختصة تضم مختلف الأطراف المعنية ومنها ممثل عن الجامعة التونسية لكرة القدم والرابطات الجهوية وغيرها. إلا أن المصادقة على صلوحية عديد الملاعب مثل التي ذكرنا والتي لا تستوفي لا شروط السلامة ولا أبسط ضروريات ممارسة كرة القدم لا تزال مستمرة بل وأعطيت عدة ملاعب استثناءات لاحتضان المقابلات. ورغم أننا نفهم الدوافع التي تجبر المشرفين على الرياضة التونسية على الترخيص لملاعب رديئة ومتهالكة باحتضان مقابلات كرة القدم، إلا أن نواميس الاحتراف وسمعة كرة القدم التونسية لا تسمحان اليوم بالتجاوزات مهما كان مصدرها وبالاستثناءات مهما كانت مبرراتها. الصباح