لا تقبل السياسة حضور الثقافة في دائرة نفوذها إلا وفق اشتراطاتها الخاصة، محتاجة إليها حاجة الجسم إلى فيروسات وفيروسات مضادة. السياسي يستوعب الثقافي، يعبئه لتحقيق مسعاه، لتوفير الغطاء النظري المواكب للعمل الملموس والمسوغ له، لكنه لا يقبل تحت أي ظرف أن يضع نفسه أمام امتحان مبادئ وأخلاقيات الثقافة، بل يسخر منها ويعدها مقولات ساذجة وعقيمة لا تسمن ولا تغني من جوع في مجالٍ قانونُه الصراع من أجل السلطة ومآله البقاء للأقوى، بغير مساءلة أخلاقية متعالية للوسائل والذرائع. تراءت لي هذه الخلاصة وأنا أتابع تفاعلات قضية (كليرستريم) بفرنسا. القضية اندلعت قبل شهور حين انكشفت ملابسات مؤامرة مزعومة ضد الرئيس نيكولا ساركوزي، كانت ترمي إلى الإيهام بتوفر الرئيس على أرصدة مالية في بنوك بلوكسمبورغ، وبالتالي ضرب شعبيته وشرعيته السياسية، لكن «ساركو» لم يلبث أن ركب القضية لتصفية حساباته مع خصومه في الوسائل والمبادئ والغايات، ومن ضمنهم رئيس وزرائه السابق الشاعر والمثقف والدبلوماسي اللامع دومينيك دو فيلبان، المتهم الآن بالمساهمة في تحريك خيوط المؤامرة. ليس من شأننا ولا يفيدنا أصلا في هذا المقام أن نغوص في حيثيات القضية بقدر ما يستوقفنا مشهد مواجهةٍ طرفاها رجل سياسي براغماتي، عداء المسافات القصيرة في السياسة، عاشق أضواء الكاميرا وكاره الوجود الأجنبي من جهة، في نزال الضرب تحت الحزام مع الأديب المثقف، الأخلاقي الكبير الذي افتقدته فرنسا، وقبل ذلك، الرجل الذي نصّب ساركو وزيرا للداخلية في حكومته، وفتح له أبواب المجد السياسي. مشهد له أكثر من دلالة، يستوقف المتأملين في العلاقة المتوترة والمعضلة الأزلية القائمة بين السياسة والأخلاق، السياسة والثقافة عبر عصور الاجتماع السياسي. رواد الفلسفة السياسية الذين آمنوا يوما أن المثقف (بمسمياته وسماته المتغيرة عبر الحقب) هو الأقدر على إدارة دفة الحكم في مسار المجتمع نحو بناء المدينة الفاضلة والمرجع المؤهل لتحديد قواعد اللعبة السياسية وصياغة مقومات النظام الاجتماعي والتربوي، انتهوا إلى خيبات أمل أو قناعات أكثر تواضعاً، أمام تواتر الشواهد التاريخية التي يبدو فيها المثقف وهو ينتقل إلى ملعب الممارسة السياسية لاعبا منذورا للخسارة في مواجهة السياسة الاحترافية التي لم تعد تعني شيئا آخر غير امتهان قواعد الصراع المتواصل على الأرض، في جولات كرّ وفرّ، بين فاعلين يملأ كلٌ منهم الخانة التي يخسرها غريمه، صراع له «أخلاقياته» الخاصة غير تلك المستمدة من التراث الإنساني والمنظومات العقائدية الكبرى والضمير الجمعي المشترك. وبذا يكون الدرس القاسي الذي يقدمه التاريخ السياسي في مختلف البلدان، باختلاف مستويات نموها الثقافي والاجتماعي، هو أن رجل الثقافة، وهو يطأ ميادين الفعل السياسي، يخوض مغامرة جسيمة تكلفه فقدا مزدوجا: الخسارة الملموسة على ساحة النزال السياسي بسبب عدم تمكنه -أو عدم استساغته- للوسائل «الرخيصة» المقبولة والممارسة على نطاق واسع في دوائر السلطة، بحيث يجد نفسه في مواجهة كائنات سياسية تنزع عن السياسة أي قدسية علوية وتستقل بها عن أي منطلقات نظرية جامدة محوطة بالقيود الأخلاقية، ثم الخسارة الرمزية للوضع الاعتباري الذي يستقيه المثقف عادة من التزامه بالمواقف المجردة والموضوعية ومن المسافة النقدية التي يتخذها حيال المواقف العارضة وانحيازه للقضايا العادلة ودفاعه عن الخيارات الإنسانية والأخلاقية السامية. وإذ نستخدم مصطلح «المثقف» و «الثقافة» بهذا التعميم، فإننا نحصر به ذلك الفاعل الحامل لمشروع فكري ورسالة حضارية ذات أساس أخلاقي ومرجع إنساني متّسقين، ولا يدخل ضمنه هذا الصنف المتناسل من مثقفي الخدمة الخاصة، المستعدين لوضع ذكائهم وموهبتهم رهن إشارة السياسة التي تُربح أكثر والسياسي الذي يقدم العطاء الأجزل، مستعدين لبلورة الصياغات النظرية والحِجاجية لهذا البرنامج السياسي ونقيضه، كأي وكالة إعلانية محترفة، دون أدنى شعور بالمسؤولية تجاه المجتمع والتاريخ. ومن غريب الصدف أن دوفيلبان خرج من نافذة السلطة في فرنسا وهو يرى أفكاره مهزومة أمام تيار من البراغماتيين المتهافتين بقيادة ساركوزي، كما غادر كولن باول دائرة الحكم الجمهوري في أميركا تحت ضغط طغمة المحافظين الجدد، علماً بأن الاثنين كانا قد تواجها في مجلس الأمن في محاورة يحفظ فيها التاريخ لدوفيلبان اسمه ضمن آخر الكاريزماتيين الأخلاقيين في فرنسا، إذ دافع بصلابة عن موقف باريس المناهض لشن الحرب الأميركية على العراق، باسم مبادئ «أوروبا القديمة». دوفيلبان يخسر لأن السياسة مباراة لا تلعب في السماء. • كاتب مغربي العرب القطرية 2009-09-24