بالفيديو: رئيس الجمهورية يشرف على اجتماع مجلس الوزراء...التفاصيل    الاتحاد العام التونسي للشغل يدعو إلى فتح جولة مفاوضات جديدة في القطاع العام والوظيفة العمومية    إيران: هاجمنا عاصمة إسرائيل السيبرانية    استقبال شعبي كبير في شارع بورقيبة لقافلة الصمود    أول فريق يحجز بطاقة التأهل في كأس العالم للأندية    بوتافوغو يُلحق بباريس سان جيرمان هزيمة مفاجئة في كأس العالم للأندية    باريوس يقود أتليتيكو للفوز 3-1 على ساوندرز في كأس العالم للأندية    الأوركسترا السيمفوني التونسي يحتفي بالموسيقى بمناسبة العيد العالمي للموسيقى    إيران تطلق موجتين صاروخيتين جديدتين وارتفاع عدد المصابين بإسرائيل    كأس العالم للأندية: أتليتيكو مدريد يلتحق بكوكبة الصدارة..ترتيب المجموعة    ميسي يهدد عرش رونالدو!    إيران تحبط مؤامرة اسرائيلية لاستهداف وزير الخارجية عباس عراقجي    موسم الحبوب: تجميع4.572 مليون قنطار إلى غاية 18 جوان 2025    شارع القناص ...فسحة العين والأذن يؤمّنها الهادي السنوسي .. الثقافة وهواة اللقمة الباردة : دعم ومدعوم وما بينهما معدوم.. وأهل الجود والكرم غارقون في «سابع نوم»!    خطبة الجمعة... ذكر الله في السراء والضراء    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    رابع سبب للموت في العالم الخمول البدني يصيب 83 ٪ من التونسيين!    مع الشروق : تُونس واستشراف تداعيات الحرْب..    وفاة أول مذيعة طقس في العالم عن عمر يناهز 76 عاما    المنار.. بطاقات ايداع بالسجن لمتورطين في تحويل مركز تدليك لمحل دعارة    الاستثمارات الاجنبية المباشرة تزيد ب21 بالمائة في 2024 في تونس (تقرير أممي)    عاجل: انقطاع في توزيع الماء بمناطق من ولاية سوسة: التفاصيل    راج أن السبب لدغة حشرة: فتح بحث تحقيقي في وفاة فتاة في جندوبة    المنتخب التونسي أصاغر يحقق أول فوز في الدور الرئيسي لمونديال كرة اليد الشاطئية    أمطار أحيانا غزيرة ليل الخميس    إسناد المتحف العسكري الوطني بمنوبة علامة الجودة "مرحبا " لأول مرة في مجال المتاحف وقطاع الثقافة والتراث    صابر الرباعي في افتتاح الدورة 25 للمهرجان العربي للاذاعة والتلفزيون وكريم الثليبي في الاختتام وتنظيم معرض الاسبو للتكنولوجيا وندوات حوارية بالحمامات    الدولار يتخطّى حاجز 3 دنانير والدينار التونسي يواصل الصمود    ديوان التونسيين بالخارج يفتح باب التسجيل في المصيف الخاص بأبناء التونسيين بالخارج    التقلّبات الجوية: توصيات هامّة لمستعملي الطريق.. #خبر_عاجل    بعد 9 سنوات.. شيرين تعود إلى لقاء جمهور "مهرجان موازين"    عاجل/ الخطوط البريطانية تُلغي جميع الرحلات الجوية الى اسرائيل حتى شهر نوفمبر    مأساة على شاطئ المهدية: شاهد عيان يروي تفاصيل اللحظات الأخيرة    بوتين وشي: لا تسوية في الشرق الأوسط بالقوة وإدانة شديدة لتصرفات إسرائيل    اطلاق بطاقات مسبقة الدفع بداية من 22 جوان 2025 لاستخلاص مآوي السيارات بمطار تونس قرطاج الدولي    وزارة التجارة للتونسيين: فاتورة الشراء حقّك... والعقوبات تصل إلى 20 ألف دينار    الخطوط التونسية: تطور مؤشرات النشاط التجاري خلال أفريل وماي 2025    اتحاد الفلاحين ينظم، اليوم الخميس، النسخة الرابعة لسوق الفلاح التونسي    وفاة 5 أعوان في حادث مرور: الحرس الوطني يكشف التفاصيل.. #خبر_عاجل    تحذير للسائقين.. مفاتيح سيارتك أخطر مما تعتقد: بؤرة خفية للجراثيم!    عاجل/ الإطاحة بشبكة تستقطب القصّر عبر "تيك توك" وتقدّمهم للأجانب    الترجي في مواجهة مفصلية أمام لوس أنجلوس بكأس العالم للأندية..تدريبات متواصلة    أزمة لقاحات السل في تونس: معهد باستور يكشف الأسباب ويُحذّر    لجنة الصحة تعقد جلسة استماع حول موضوع تسويق المنتجات الصحية عبر الانترنت    تونس: مواطنونا في إيران بخير والسفارة تتابع الوضع عن قرب    النوفيام 2025: أكثر من 33 ألف تلميذ في سباق نحو المعاهد النموذجية اليوم    بداية من العاشرة صباحا: إنطلاق التسجيل للحصول على نتائج البكالوريا عبر الSMS    قافلة "الصمود" تصل الى الأراضي التونسية    وزارة الصحة: علاج دون جراحة لمرضى البروستات في تونس    كأس العالم للأندية 2025: يوفنتوس الإيطالي يمطر شباك العين الإماراتي بخماسية    عاجل: أمل جديد لمرضى البروستات في تونس: علاج دون جراحة في مستشفى عمومي    قيس سعيد: يجب إعادة هيكلة عدد من المؤسّسات التي لا طائل من وجودها    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الداخلية وكاتب الدولة لدى وزير الداخلية المُكلّف بالأمن الوطني    بعد تعرضها للهجوم .. نجوم الفن المصري يدعمون هند صبري بأزمة "قافلة الصمود"    قافلة الصمود تُشعل الجدل: لماذا طُلب ترحيل هند صبري من مصر؟    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في مجموعة "كأعمى تقودني قصبة النأي"


استقطار الشعرية وجدل التماهي مع الآخر
في مجموعة "كأعمى تقودني قصبة النأي"
تشكل بنية العنونة في مجموعة "كأعمى تقودني قصبة النأي" للشاعر المبدع محمد حلمي الريشة انزياحًا في تجسيد المعمار اللغوي الذي ينبني شعريًّا لحظة انوجاده داخل أرومة التخيل، واستثمار شعرية المعنى بقوة الملفوظة.
أَيَّتُهَا الْقَصِيدَةُ..
لَا تَتْرُكِي الشَّاعِرَ يَكُونُكِ ثَمَرَةً عَلَى شَجَرَةٍ دُونَ قِطَافٍ.
*
لِأَنَّكِ غَيْرُ مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ،
تَظَلِّينَ تَنْتَظِرِينَ يَدًا عَارِفَةً مَذَاقَ عَيْنِهَا الثَّالِثَةِ.
*
لِأَنَّكِ تَعُودِينَ الشَّاعِرَ، كُلَّ مَرَّةٍ، بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.. يُحَاوِلُكِ حِبْرُهُ مِنْ جَدِيدٍ.
ويقول في ديمومة المعاني العميقة:
لِأَنَّكِ تُخْفِينَ دَهْشَةَ المَعْنَى بَيْنَ فَرَاغَاتِ كَلِمَاتِكِ،
يَخِزُ الشَّاعِرَ عَصْفُ الْقَارِئِ غَيْرِ المُتَمَرِّسِ بِكِ.
*
تَجْعَلِينَ الشَّاعِرَ، أَوَّلًا، وَرَقَةً خَضْرَاءَ،
ثُمَّ صَفْرَاءَ،
ثُمَّ مَتْنًا بَيْنَ دَفَّتَيْ سِفْرٍ،
ثُمَّ لَا يَجِدُ أَنَاهُ حَتَّى فِي هَوَامِشِهِ.
*
تَأْخُذِينَ الشَّاعِرَ مِنْ زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ،
لِيَلِدَكِ بَعْدَ حَرَكَاتٍ شِبْهِ عَابِثَةٍ،
فَدُخُولٍ مَرِيضٍ،
فَيَتِيمٍ عَلَى صَفْحَةِ الْحَيَاةِ.
*
كَيْفَ يُسَافِرُ الشَّاعِرُ فِيكِ،
وَلَا يَصِلُكَ أَبَدًا؟
ويقول في كل هذه المنحنيات لقوس الدلالة ومجساتها ومتسعاتها:
يُقَامِرُ الشَّاعِرُ حَتَّى عَلَى خَسَارَةِ الْحَيَاةِ..
أَنْتِ تُرَاهِنِينَ عَلَى كَسْبِ خَسَارَتِهِ.
*
لَكِ هَبَّةٌ غَامِضَةٌ تُذِيبُ وَعْيَ الشَّاعِرِ
فِي غَيْبُوبَةِ المَجْهُولِ.
ومن نصّه "عماء":
فِي الْحُلُمِ تَرَى أَكْثَرَ
فِي الْحَقِيقَةِ عَمًى
فِي اللَّذَّةِ.
ويعمق كل منطقة من مناطقه الشعرية بأنساق شعرية متقدة، ففي نصّه "نضوج" نكتشف هذه الالتماعات الشديدة في الرؤيا:
بِمِنْدِيلٍ مُتَكَاسِلٍ
تَمْحُو حَلِيبَ الْقَمَرِ
بَعْدَ يَفَاعَةِ اسْتِرْخَائِهَا.
ومن نصّه "لا جداولي تملؤها ولا بئرها تلقيني":
دُمُوعٌ حِينَ الْفَرَحِ
دُمُوعٌ حِينَ الْحُزْنِ
لكِنْ حِينَ الْانْتِشَاءِ
دُمُوعُ الْعَيْنِ الثَّالِثَةِ.
يرسل الشاعر قفلة دينامكية في خاتمة النص، فيجعله يعيش على نبض المفردة الشعرية المتوهجة.
ومن نصه المشار إليه، يشتغل الشاعر على بنية المفارقة والحدس (البرغسوني) في القبض على مفاعل الزمن:
السَّاعَةُ الَّتِي تَلُوكُ الْوَقْتَ
تُدَبِّبُ عَقْرَبَيْهَا بِلُعَابِ غَيْرَتِهَا
أَنَا أَرْمُقُهَا قَلِقًا
بِنَظْرَةِ.. قِفِي.
ومن نصّه الجميل "تكاثفْ مسكوبًا قارورة وحدك":
إِنِّي أُطِيلُ المَاءَ
أُوسِعُهُ شَوَاطِئَ هَادِئَاتِ النَّهْدِ وَالتَّنْهِيدِ.. آهْ
هَلْ أَنْتَ تُوْقِظُنِي لِأَغْفُوَنِي هُنَا؟
لَسْتُ المُقِيمَ بِدَارَةِ الدُّنْيَا هُنَا... كْ
هِيَ أَسْكَنَتْنِي ضِلعَ إِمْرَأَةِ النَّشِيدَةِ
لَمْ تَزَلْ
فِي شَقْوَةِ الْجَنَّاتِ عَارِيَةَ النُّضُوجِ
فَلَا زَمَانَ وَلَا مَكَانَ
سِوَى؛
شِينِ الشَّقِيَّةْ
مِيمِ المَدَى
سِينِ السُّؤَالْ
أَبْقَتْ حُرُوفِيَ صَافِنَاتِ الْقَدِّ
تَكْرَارًا: تَعَالْ.
ويستهل الشاعر نصه الآخر "الشاعر وال(حبيبته) العالقة بدبق نجمة المجاز" باستهلال نصي جميل للشاعر (رامبو): "لَقَدْ عَثَرْتُ عَلَى الْمِفْتَاحِ وَتَفَرَّدْتُ بِهِ وَحْدِي".
يقول الشاعر الريشة:
أَيُّهَا الشَّاعِرُ:
لِمَ تُصِرُّ عَلَى انْتِظَارِ الْآتِيَةِ/ ارْتِكَابِ التَّالِيَةِ؟
أَلَمْ تَتَعَلَّمْ أَنَّهَا نَدَّاهَةٌ فِي بَرِّيَّةٍ تَشَّاسَعُ دَائِرَةً حَوْلَكَ؟
*
(أُحِبُّكَ)..
أَقُولُهَا لَكَ عَابِرَةً إِيَّاكَ نَحْوَ عُنْوَانِهَا الطَّائِشِ
فِي شِغَافِ الْقَلْبِ.
تشتغل لغة النص الشعري في مجموعة الشاعر على استقطار شعريتها في جدل التماهي مع الآخر، وفي معظم مشهدية النصوص يكاد الآخر أن يتماهى مع الذات الشاعرة تارة، والذات الأنا في علاقة خصائصية تارة أخرى، تشفر محمولاتها عنفوان المفردة وقوة الإيحاء المتدفق بين طبقات اللغة الشعرية التي يقول فيها (أدونيس): "على الشاعر أن يحف باللغة ويفجرها كي يسبر أغوار المجهول فيها". يقول الشاعر الريشة:
تَقْصِفِينَ أَنْفَاسَ الشَّاعِرِ،
كَأَنَّهَا أَعْمِدَةُ سَنَابِلَ،
بَحْثًا عَنْ عُشْبَةِ الْخُلُودِ،
رَغْمَ أَنَّهُ يَقْتَنِعُ بِوَرْدَةِ الْفَرَحِ.
وبما أن الشعر لغة في اللغة حسب (بول فاليري)، فإن الشاعر هنا، في بناءاته اللغوية، يبني معمارًا شعريًّا بقوتها التي ترسخ المعاني والدلالات الكلية أو الكليانية حسب (كلود ليفي شتراوس), وتنبجس منظومة المعاني بقوة المخيال الشخصي. وإذا كانت المرأة أو الأنثى بالضبط, وهذه إشكالية السؤال الفلسفي في إرساليات النص الشعري الحديث، وتحديدًا هنا في مجموعة الشاعر الريشة, إذا كانت الأنثى المعادل الموضوعي للعلائقية النصية، فإن حلم الشاعر يجسد هاجسه الحياتي في كل مقتربات النص المؤسس على الذاكرة الشخصانية المعرفية, المثيولوجية والأبستمولوجية, وهذا امتياز ثنائي يحقق للنص تفوقه في الحياة والإبداع.
إن نصًّا شعريًّا يتواتر في منظومته الحسية والفكرية والجمالية كنص الشاعر الريشة يحقق مبتكراته الإبداعية في الوعي الشخصي الشعري, وهو بمعنى من المعاني الخالدة نصًّا يشتغل على الجوهر الشعري والروح الوجودية المرتبطة بالوجود الشخصي الكلي، ويتمظهر هذا الاشتغال في تشظي المعاني بقوتها الدلالية والرمزية والإيقاعية, وهذه أقصى الرغبات الباطنية التي تتوسلها الذات الشاعرة والأنا الشخصي معًا.
تشع مشهدية النصوص من حدس التجربة العميقة؛ هذه الحدسية المتفوقة قرأت فتوحاتها على نقوش حجر الفلسفة العميقة في معظم أعمال الشاعر الشعرية, ومنها (كتاب المنادَى)، و(خلف قميص نافر)، و(أطلس الغبار)، و(معجم بك). ويتمظهر هذا الاشتغال في توتر اللحظة الشعرية بين مسافتين في قولي كهذا القريب من مقولة الناقد الدكتور كمال أبو ديب "الفجوة ومسافة التوتر".
يعيش الشاعر محمد حلمي الريشة كل محتويات النص، لا بل كل قرائن المحتويات التي تسعف ذاته الشاعرة التواقة إلى إرسال شفافية ورشاقة لغوية وقوة النبض وروح الشعرية العالية في موشور علائقي يقطر شعرية المعنى، ويبث النفحة الشذرية في مركب خيميائي- تراجيد صوفي- في معظم نصوصه، إذ تزخر لغته بهذا الوعي الحاد بالعقل الشعري المركب في توليد الدلالات، وتحولات الذات الشاعرة في محاورها وترسيخ علاقتها بالعالم والأشياء.
إن الكتابة الشعرية في مشغل الشاعر، هي كتابة حياة ووجود وتأسيس حياة كائنات تتلامع وتتلاعب بمدركاته, وهو الفيلسوف الحائك الذي يوجهها كما يشاء. يقول الشاعر الريشة:
يَدَعُ الشَّاعِرُ كُلَّ شَيْءٍ لِأَجْلِكِ إِلَّاكِ..
ذَكِيَّةٌ أَنْتِ فِي اجْتِذَابِ لَا وَعْيِهِ نَحْوَكِ طَائِعًا
لِانْخِطَافِهِ/مُنْصِتًا لِأُوَارِ صَمْتِكِ يَضِجُّ بَيْنَ خَلَايَاهُ.
يقوم كل هذا التأسيس على حجم العلاقة المركبة بين الشاعر ومخلوقاته الظاهرة والسرية؛ تلك التي يشتهيها في معنى من معاني الإيروتيكية في مقتربات نصوصه الموجهة، لا بل الحاملة كل إيروتيك الأرض الأنثى ونباتها الكنعاني الخصب، الذي يفتح له آفاق العلاقة المركبة مع العالم وأسرار الأرض, هذا الإحساس الشاعري والشعري يدفع بالشاعر إلى الاختناق أحيانًا، وأحيانًا إلى الإفلات من مكمن الشهوة الكليانية:
كَمْ تُعَذِّبُنِي صَحْوَتِي مِنْهَا
حِينَ تَشُدُّنِي لِغَيْبُوبَةِ الشِّعْرِ
كَيْ أُعِيدَ تَمْثِيلَهَا عَلَى الْوَرَقِ
كَجَرِيمَةٍ جَمِيلَةٍ.
قد يأخذك الشاعر إلى مناوراته وتوريطه الآخر للتأهب لاصطياد صوره الشعرية، أو العبور إلى منطقة أخرى شوكية تكاد تجرحك بدهشتها وسلالم مشروعها الشعري، وكل هذا يتطلب منك أن تتسلح بأسانيد وسريالية ورمزية تسرك، وتجعلك ترتقي بالأفكار والطبيعة واللوحة النفسية والأشياء في الكون والمخلوقات، لتتعرف إلى أشكالها وأحجامها وطبيعتها, كل ذلك بقوة الحلم والتخييل.
إن الشاعر الريشة، هو ذلك الحالم الذي لا يطيق إلا أن يرسل أحلامه بمنظومة التخييل, الذي كان يؤسسه (سلفادور دالي) و(رامبو) و(بودلير) و(أندريه بريتون) و(لوتريامون) في كل منجزاتهم الفنية التشكيلية والشعرية. كل هذا الكلام في قوة حلول الذات الذكورية في مركز مدار الأنثى، أو مركز مدار الإيروتيك, حين ذلك يكتمل مشهد الكينونة العلاقاتية. الكتابة الشعرية عند الشاعر- إطلاقًا- ليست نزهة, بل هي استمطار الألم العظيم، والقصيدة هي نداء الباطن الكثيف المكثف بكل حلقات التخيل الذي يرشح عنه الفعل الشعري المتقد, يصدمك الشاعر بقوة أداء قاموسه اللساني الكثيف, في كثافة ظلاله المعرفية في ترتيب بيته الشعري الذاكراتي، وفي النبرة الحادة للسياق الحاد عبر مشهدية شعرية مليئة بكائنات تتحرك بوعيها الاستثنائي على مساحة النصوص. إن الشاعر يصمم خريطته الشعرية في اللامحدود الشعري ويرى إلى معادلة جديدة فريدة المكونات, سحرية ناطقة بعقل العالمين,.
بالعودة مرة أخرى إلى تماهي الأنثى في هذه النصوص، نرى انغماس الشاعر في خلاصات شعرية تؤسس لمعاني الإيروتيك بمعادلات مغايرة للمألوف الشعري والسائد المنجز، وحتى الراسخ في الذاكرة الجمعية؛ ففي تلافيف النصوص تراجيدية إيروتيكية تتماهى والرؤى التصوفية الحاذقة بين طبقات اللغة الشعرية وإرسالياتها الصورية التوالدية الحادة، التي يؤسس لها الشاعر بقوة الإزاحة ومعامل الانزياح حسب (جاكوبسن) و(جان كوهين) في الانزياح. إن حلم الشاعر هو في العودة إلى عشبة (كلكامش) ورؤيا الخلود:
أُغَازِلُ عُشْبَتِي
كَيْ لَا يَضِيقَ حِجَابُهَا الْوَهْمِيُّ
حَلَّتْ وِزْرَهَا وَإِزَارَهَا امْرَأَةٌ
تَحُكُّ الشَّهْدَ صُوَّانَ الذُّهُولِ
أَنَاكِ أَنَا
كُنْتُ الْكَلَامَ
فَكَانَتِ المَعْنَى الْخَبِيءَ
إن تجربة الشاعر الريشة تكمن في قدرته الفائقة في التحول من علاقة إلى أخرى، وترسيخ بنيان العلاقة الشعرية الجديدة، وتموقع المعاني الكبيرة في سياقاتها الجديدة, لذا نرى إلى تشاكل علائقي حاد داخل النص بخارجه، أي ترشح الدلالة فوق منسوب المعنى أو تسريح الدال مكان المدلول, وبالعودة إلى دائرة الحلم، "فالشاعر يؤكد لنا هويته الشعرية في اقتران ذاكرة الفعل وذاكرة الحلم والخروج من ذاكرة المكان والتواريخ للسفر على متن الشعر وتشعباته,كاشفًا التوازن بين الأسطوري والرمزي..." هذا ما يؤكده الشاعر محمد بنيس في تقديمه لأعمال الشاعر الريشة.
تتمحور القيمة الشعرية في نصوص الشاعر بين ثنائية المعادلة الحياتية الوجودية في المقترب الجدلي الثنائي (الأنا والأنت) في بؤرة مركزية مشتركة تنظمها، وتشع بها لسانية عالية التشفير، حيث توجه العلاقات اللغوية إلى منطقة الإدهاش الشعري، وفي طراز من استعراض الخيال والذاكرة، ويتموقع الشعري في رسوخ هذا الفضاء الجمالي الذي تشيده ملفوظات النصوص, فالكلمة في نص الشاعر تشع بالصورة وفيها ما يميز أقصى جماليات الخطاب الشعري, أفق الحال الشعري وفاعلية الأفعال, إذ تزرع الروح الشعرية في الأشياء لتتحول من شيئيّتها إلى حال من المعاني والدلالات في الوجود والحياة.
هكذا يسيح بنا نص الشاعر الريشة بصوره المشعة بقوة الملفوظة وإشعاعها الشعري، ليرسم بالتالي دوائرَ شعرية متوهجة تستند إلى الحدس (البرغسوني) في الشعر والفلسفة معًا، وإلى الشهوي الذي يتشرب شعريته من فيض الكلمة، ومتانة النسيج النصي، وقوته وكثافته الشعرية، وضخه الغنائي العميق:
هِيَ وَحْيٌ؟ إِلْهَامٌ؟
لَا..
أَنْتَ تَشْعُرُهَا..
أَنَا أَرَاهَا أَكْثَرَ مِنْكَ:
هِيَ لِسَانُ احْتِرَاقِكَ خَارِجًا مِنْكَ/
مِنْ فَمِ الرُّوحِ.
ويواصل الشاعر في هذا الموشور الشعري الجميل:
أُخْرُجْ مِنْكَ..
إِنَّكَ الطِّفْلُ الَّذِي يَنْدَهُ عُصْفُورًا طَازَجًا
عَلَى شَجَرَةٍ ضَجِرَةٍ.
إن الشاعر الريشة يواصل رحلته الأثيرية في اصطياده للمعاني الكبيرة في تشعير الحادثة النصية سعيًا منه لإرسال قيماتها الإنسانية والاحتفالية والجمالية, إذ ينزع في مجمل قصائدها إلى الحرث في حقل الأبستيمولوجيا، لإثراء محمول الدلالة، والانفتاح نحو آفاق رحبة، ليشكل بها مشهده الشعري الذي يتأسس من محاور عديدة، تتخذ لها مجسات ومجرات تدخل في بناءاتها جنسانية الذات الشاعرة في توريدها لمصل من أمصال الأنتلجنسيا الوجودية، وتتشاكل هذه الأنساق بقوة الحمولة المعرفية والفكرية التي يغرفها الشاعر من مرجعياته التأسيسية.
يتحقق حلم الشاعر في اقتران المعنى بالحامل الأرضسمائي، الذي يفصح عن ذوات تتكرر في تشفيرات الإشارة اللفظية التي ينبني بأنساقها النص, وتكاد تشكل هذه الأنساق البنية الأرموزاتية لجنسانية النص، وأرومته المغلقة والمفتوحة معًا. إن قصائد الشاعر تتخذ لها معان متوازية، حيث يرتفع بأحلامه ونداءاته الظاهرة والباطنية من البؤرة المركزية للنص إلى لغة الحلم والذاكرة ومشهدية المكان والزمان، وتشكل الأشياء عبر التداعيات والوقائع داخل الوجود وخارجه. إننا نقف عند حافة النص لاستبصار رؤياه، حيث يتحرك الشاعر باتجاه تأسيس بانوراما حلمية وصورية متساوقة، تتشاكل بين البوح بالداخل الشخصي ومتواليات الحلم والتباسات المعاني في إزاحاتها المتكررة وحضور الذكرى؛ ذكرى الشعرية العالية وقوتها الروحية المفتوحة على العالم.
* شاعر وكاتب من العراق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.