" انصب في وعي الانسان إنه ليس فقط مختلف عن الحيوان ، ولكن أيضا أن معنى حياته لا يتحقق إلا بإنكارالحيوان الذي بداخله " " علي عزت بيجوفيتش " إذا كان هناك من لا يمكن اختصار أفكاره ، مهما أوتي المتعاطي معها من صنعة وخبرة ، فإن علي عزت بيجوفيتش واحد من هؤلاء المفكرين ، الذي أظهروا تفوقا جليا في استيعاب وتأطير فلسفات العصر الحديث وأفكاره ومدارسه المختلفة ، وواحد من أهم من ردوا على الأفكار من جنسها ، وبين قصورها في فهم أبعاد الوجود عامة والوجود الانساني خاصة . لقد ساهم علي عزت بيجوفيتش ، رحمه الله ، من حيث يدري في إبراز العين الأخرى للوجود والأذن الأخرى للحياة ، والحقيقة الكامنة في الموضوعي ، بظهورها الخفي ، وعمقها الظاهر . وذلك إذا استحضرنا رؤية محمد أسد رحمه الله الذي رأى في بعض مدارس العلم الحديث المؤدلجة " الدجال الأعور " . وكتبه رحمه الله ، مما يجدر بالمسلمين دراستها وتدريسها ، وليس مجرد قراءتها قراءة سريعة ، وترفية . يؤكد علي عزت بيجوفيتش بأن " الكائن الانساني ليس مجرد مجموع وظائفه البيولوجية المختلفة " كما يذهب إلى ذلك الوجوديون ، بل أن اللوحة الفنية ليست كذلك ، فضلا عن الانسان . حيث لا يمكن تحليلها إلى كمية الالوان المستخدمة فيها . ولا القصيدة إلى الألفاظ التي تكونها . صحيح أن المسجد مبني من عدد محدد من الأحجار ذات شكل معين وبنظام معين ، ومن كمية محددة من الأحجار ذات شكل معين وبنظام معين ومن كمية محددة من المواد إلى غير ذلك ، ومع ذلك فليست هذه كل الحقيقية " . وكأني بعلي عزت ( وهو بيننا ) يشير بطريقة غير مباشرة لدعوة الصهاينة الأخيرة إلى نقل المسجد الأقصى من القدس في فلسطينالمحتلة ، إلى مكةالمكرمة ، فهم يحاولون الايهام بذلك ، ولكن المسجد الأقصى أكبر وأشمل من مجرد مواد وشكل هندسي ومعلم مادي . فالمسجد كما يقول علي عزت يختلف عن معسكر حربي " فبعد كل شئ هناك فرق بين المسجد وبين معسكر حربي " . لقد ذكر علي عزت رحمه الله ذلك في معرض رده على أحد رموز المادية التاريخية والمادية الجدلية ، المنهارة ، في القرن العشرين ، فريدريك انجلز ، الذي اعتبر " اليد ليست عضو العمل فقط ، بل أيضا نتاج العمل .. فمن خلال العمل اكتسبت اليد البشرية هذه الدرجة الرفيعة من الاتقان الذي استطاعت من خلاله أن تنتج لوحات " رفاييلو " وتماثيل " تورفالدسين " وموسيقى " باغانيني " . ويوضح علي عزت بيجوفيتش ، بعيني الفكر والوجدان أن ما يتحدث عنه " انجلز " هو استمرارية النمو البيولوجي وليس النمو الروحي . وفن التصوير عمل روحي وليس عملا تقنيا ( فحسب ) . فقد أبدع "رافائيل " لوحاته ليس بيده ( فحسب ) بل بروحه . وكتب بيتهوفن أعظم أعماله بعد أن أصيب بالصمم . إن النمو البيولوجي وحده ، حتى لو امتد إلى أبد الآبدين ، ما كان بوسعه أن يمنحنا لوحات " رافائييل " ولا حتى صور الكهوف البدائية التي ظهرت في عصر ما قبل التاريخ " ويؤكد بعقل مستنير " هنا نحن أمام جانبين منفصلين من وجود الانسان " . ويضيف " من الممكن أن تكتب تحليلا لغويا كاملا لقصيدة من قصائد " جوته " ( أو غوته ) ومع ذلك لا نقترب خطوة واحدة من جوهر القصيدة ، والقاموس اللغوي يحتوي على جميع كلمات اللغة وهو بالغ الدقة ، وقد لا تحتوي قصيدة ما مكتوبة باللغة نفسها إلا على عدد قليل من كلمات القاموس ، ولكن القاموس يفتقر إلى حبكة القصيدة ، كما تحمل القصيدة معنى وجوهرا لا يمكنه الوصول إليهما " . ويمضي قائلا " إن علم الحفريات وعلم هيئة الانسان وعلم النفس ( عندما تجرد من الغائية ) تصف من الانسان فقط الجانب الخارجي الآلي الذي لا معنى له " ومع فارق جوهري يصف علي عزت بيجوفيتش الانسان بأنه " الانسان مثله كمثل اللوحة الفنية والمسجد والقصيدة ، أكثر من مجرد كمية ونوعية المادة التي تكونه .. الانسان أكثر من جميع ما تقوله عنه ( العلوم ) مجتمعة " . وينقض علي عزت مزاعم الماديين المؤدلجين للعلم قائلا " طبقا لنظرية التطور ، كان الأب الأعلى لأكثر أنواع البشر بدائية هو نوع من أكثر أنواع الحيوان تقدما ، ولكننا إذا ذهبنا نقارن بين الانسان البدائي وبين أكثر أنواع الحيوان تقدما لوجدنا أن هناك فرقا جوهريا ملازما " ويلفت الانتباه إلى الطبيعة ذاتها " أنظر إلى قطيع من الحيوانات وهي تبحث عن الطعام وتتصارع من أجل البقاء ، ثم انظر إلى إنسان بدائي خائف مشوش بمعتقداته ومحرماته الغريبة ، أو غارق في أسراره ورموزه الغامضة . هذا الفرق بين المجموعتين لا يمكن رده إلى مجرد اختلاف في مراحل التطور فحسب " . فعلي عزت رحمه الله ، يشير إلى أن العبادة خاصية رافقت الانسان منذ وجوده على الأرض ، وخلت المدن من أسوار ومن مرافق كثيرة لكنها لم تخل من أماكن عبادة مهما كانت . وأن العلم والتقدم العلمي لم يقض على ذلك ، وإن حاولت الشيوعية وفلول الحداثة العوراء ،( الثورة الفرنسية ، والحداثة المغشوشة في البلاد العربية ) فرض ذلك بالقوة من خلال القمع ، بل أن القرن الواحد والعشرين توقع له أن يكون قرن عودة التدين ، ليس على المستوى الفردي فحسب بل على الصعيد الأممي وما يطلق عليه راهنا بالحقول الحضارية . فالانسان كما يقول علي عزت " قد انصب في وعيه ليس فقط أنه مختلف عن الحيوان ، ولكن أيضا أن معنى حياته لا يتحقق إلا بإنكار الحيوان الذي بداخله " . ويتساءل علي عزت بيجوفيتش " إذا كان الانسان ابن الطبيعة كما يقولون ، فكيف تسنى له أن يبدأ في معارضة الطبيعة ؟ وإذا تخيلنا تطور ذكاء الانسان إلى أعلى درجة ، فإننا سنجد أن حاجاته ستزدادا من ناحيتي الكم والنوع ولن يتلاشى شئ منها ، فقط ستكون طريقة إشباع هذه الحاجات أكثر ذكاء وأفضل تنظيما .. أما فكرة أن يضحي الانسان بنفسه في سبيل الآخرين ، أو أن يرفض بعض رغباته ، أو أن يقلل من حدة ملذاته الجسدية ، فكل هذا لا يأتي من ناحية عقله " . ومن هذا المنطلق قد يساعدنا شرح علي عزت بيجوفيتش في فهم الدعوة للعقلانية التي ظهرت في زمننا ، وهي بمعنى من المعاني " الحيوان بداخل كل انسان بتعبير علي عزت نفسه . وليس إعمال العقل كما يبدو من المعنى الظاهر للعقلانية أي التجرد من العقل الكامل الذي يدرك أبعاد الانسان ، الأكثر من مجرد نزعات وغرائز . فالعقلانية المرفوضة تعني بطريقة ما " التجرد من كل أشكال التضحية وتقييد بعض الرغبات والتقليل من حدة الملذات لأسباب إنسانية . أي دينية . ويضرب علي عزت رحمه الله ، المزيد من الأمثلة عن الفوارق الجوهرية للكائنات ، وتحديدا ما بين الانسان والحيوان من خلال الخصائص الوجودية " إن مبدأ وجود الحيوان للمنفعة والكفاءة ، وليس هو الحال بالنسبة للانسان ، على الأقل فيما يتعلق بخاصيته المميزة . وغرائز الحيوان أفضل مثل على الكفاءة والمنفعة . فالحيوان لديه شعور دقيق بالوقت أفضل من شعور الانسان .. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك منها طيور الزرزور التي تتوقف عن تناول الطعام قبل الغروب بساعة . وينظم النحل عمله اليومي بدرجة من الدقة مدهشة ، فمعظم الزهور تبث رحيقها بضع ساعات يوميا في مواعيد معينة دقيقة يذهب فيها النحل لامتصاص الرحيق ، فهو يتخير الوقت المناسب كما يتخير أفضل المواقع ، ولتحديد الاتجاه يستخدم علامات مختلفة على الأرض ، كما يقدر موقع الشمس في السماء . وعندما تتبلد السماء بالغيوم يكيف النحل نفسه باستقطاب ضوء الشمس من خلال السحب .. وهكذا " . ويضيف " هذه القدرات هي قدرات من هذا العالم . إنها تدعم الكائنات الحية وتجعلها قادرة على البقاء " . لقد تحدث القرآن الكريم عن النحل وعن السير في الأرض وعن الطبيعة ، بما يغلق المجال تماما أمام الصدفة ، أو التفسير المادي للتاريخ وللانسان وللطبيعة . ولكن علي عزت بيجوفيتش يتوجه بكلامه في مجموعة أعماله الصادرة حديثا إلى العقل الغربي ويرد عليه من جنس منطلقاته . ليس على طريقة أسبقية العقل على المادة كما ذهب إلى ذلك " هيغل " ولا " المادة على العقل في الأطروحات الماركسية ، وإنما الطريق الوسط ، الذي يجمع بين الروح والمادة والعقل والروح ، ومملكة الأرض ومملكة السماء بالتأكيد على قوله تعالى " وهو الذي في المساء إله وفي الأرض إله " فمملكة الله هي الدنيا والآخرة .وعلو الشريعة مقاصد القرآن بصفته كتاب أمة بقطع النظر عن الجنسية والطائفة والزمن والجغرافيا . كتاب ينادي الفرد " وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ، و لاتنسى نصيبك من الدنيا " وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " الدنيا مزرعة الآخرة " . فمملكة الدنيا لها صلة وثيقة بمملكة الآخرة ، بل إن الحياة غراس الدنيا وحصاد الآخرة . ------------------------------------------------------------------------ علي عزت بيجوفيتش.. فكر عابر للزمن :عبد الباقي خليفة