كثيراً ما يرتطم بك أحد المارة أثناء تواجدك في الأماكن المزدحمة في غزة، أو يتصرف معك بطريقة غير لائقة أو مؤذية، أو يقوم بحركة غير منضبطة، فإذا أبديت انزعاجك، قد يبرر ذلك قائلاً: "مش واخذ بالي"، أو "مش داري على حالي"، أو "مش شايفك"،... وهي عبارات تدل على أن قائلها في حالة لامبالاة تجاه الآخرين. وفي كثير من الأحيان تشتد هذه الحالة، فتتحول إلى مرض نفسي اجتماعي خطير يمكن تسميته "فرط اللامبالاة تجاه الآخرين". ويقترن بهذا المرض حالة شديدة من التمركز حول الذات والذوبان فيها، فلا يرى المريض إلا نفسه، ولا يشعر إلا بحاجته، ولا يتصرف إلى وفق هواه. وأخطر ما في هذا المرض، أن المصابين به يتخذون "اللامبالاة" مبرراً لتصرفهم بلا مسؤولية أو انضباط، وبرعونة وهمجية، وأحياناً بعدوانية. ولذلك تكاد تندثر كثير من المعاني الإنسانية في الشارع الغزي، كالتعامل بلطف ومسؤولية وانضباط، وتحمل المسؤولية الأخلاقية، واحترام الذوق العام، ومراعاة مشاعر الناس، والإيثار على النفس، وإغاثة الملهوف... وتظهر أعراض هذا المرض بوضوح في الشارع الغزي، حيث الازدحام والاكتظاظ الشديدين، فتشعر أن الناس يسوقهم الهلع، وتحكم تعاملهم سياسة لي الذراع، ويختصمون وكأنهم في عراك مستمر بعضهم مع بعض. الكثيرون منهم فقدوا الإحساس بمن حولهم، مفترضين أن كل شيء يجب أن يكون لخدمتهم، ولمصلحتهم، وطوع إرادتهم، مهما أضروا بغيرهم من الناس. هذه الصورة المؤسفة التي أحاول تسليط الضوء عليها، نتجاهلها كثيراً نحن الكتَّاب، بسبب انشغالنا في السياسية. وهذا التجاهل خطأ، فالسلوك السوي والأخلاق الحسنة هما أساس قوة المجتمع، وهما ركيزتا رقيه وتحضره. فلا تعليم ينفع، ولا سياسة تفيد، إذا كانت قيم الإنسان مختلة، وأخلاقه مضطربة، وأنانيته طاغية، وشعوره متبلد، ولامبالاته مفرطة، وسلوكه طائش. كل ذلك يقودنا إلى السؤال عن أسباب تدهور المروءة في الشارع الغزي والجهة المسؤولة عن التدهور القيمي الحاد! ربما يعزو كثير من الناس ذلك إلى الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة التي يعيشها الغزيون، ولكنني لا أتفق مع هذا التبرير، فأخلاقنا وثقافتنا المستمدة من ديننا الحنيف تدفعنا إلى مزيد من المروءة في الظروف الصعبة. والمروءة هي الإنسانية، بمعنى أنها الأمور التي تكمِّل إنسانية الإنسان وتميزه عن البهائم، ويشمل ذلك الأخلاق والسلوك والصفات التي تجمِّل الإنسان وتحسِّن أخلاقه وترفع مستواه إلى مرتبة سامية بين بني جنسه. ومن الأخلاق التي تدل على المروءة: العفو عند المقدرة، نصرة المظلوم، إغاثة الملهوف، حب الخير للناس، التلطف مع الناس وعدم الاستقواء عليهم، تنفيس الكرب عن المكروبين، التخلي عن الأخلاق الذميمة... والإسلام دعانا إلى المروءة. أليس كذلك؟ أليس الأجدر بنا إذاً أن نتعبد الله ونتقرب إليه باحترام الناس ومساعدتهم؟ زرت لندن في 2001، فأخذتني الدهشة عندما رأيت الناس يتعاملون بلطف، وتساءلت: ما الذي يحمل الناس على فعل ذلك؟ فالسائق يتوقف بمحض إرادته عندما يجد شخصاً يحاول عبور الطريق، أو عندما يجد سائقاً آخر ينتظر خلو الطريق ليواصل مسيره، ويغض الناس أبصارهم تجنباً لإيذاء غيرهم... وهكذا. ظننت للوهلة الأولى أن قوانين السير هي التي تحكم تصرفاتهم الرائعة، ولكنني أدركت على الفور أن الذي يحمل الناس على ذلك أخلاقهم الحسنة، ومروءتهم، ووعيهم، لأن المنفعة تعم الجميع وتعود علي المجتمع بالخير. كم نحن بحاجة إلى نشر الفضيلة في مجتمعاتنا، لنشعر بإنسانيتنا ورقينا وتحضرنا، وبتميزنا عن البهائم، وبترفعنا عن الرعونة والغلظة والفظاظة... وكم نحن بحاجة إلى أن تعكس تصرفاتنا حسن الخلق الذي دعانا إليه رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، والذي جعله الله تعالى أثقل ما في ميزان العبد يوم القيامة. هذه دعوة أوجهها للدعاة، وأئمة المساجد، والمعلمين، والجامعات، والآباء والأمهات، ووسائل الإعلام، لإنقاذ المجتمع الغزي من هذا المرض الخطير قبل استفحال خطره وفوات الأوان. 3/11/2009