أكثر ما يلفت في خطاب "التنحي المؤجل" لمحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، هو تمسكه بذات المواقف والسياسات التي قادته والقضية الفلسطينية إلى مأزقه الراهن، والمتفاقم. فهو، وبعد أن أوفى بجميع التزاماته المنصوص عليها في المرحلة الأولى لخارطة الطريق، لجهة نزع اسلحة المقاومة الفلسطينية، وتفكيك اذرعها المسلحة في الضفة الغربية، والإصطدام بها، وعدم تمكنه من تنفيذ ذات البرنامج في قطاع غزة، دون أن تلتزم اسرائيل بوقف الإستيطان، المنصوص عليه ضمن استحقاقات ذات المرحلة من الخارطة، ما اضطره إلى إعلان رغبته في عدم الترشح لولاية ثانية، يؤكد:
1.التزامه بالخارطة، التي كانت أس الداء الفلسطيني الحالي، وسبب الإنقسام بين حركتي "فتح اوسلو" و"حماس"؛
2. ثقته وقناعته بإمكانية تنفيذ حل الدولتين..!
وهو يفعل ذلك، محملا حركة "حماس" المسؤولية الأولى عن فشل برنامج التسوية، مقدما لإسرائيل مبررات وذرائع اضافية لمواصلة الإمتناع عن الإلتزام بأي من الإستحقاقات المترتبة عليها بموجب الخارطة.
ما دام الأمر على هذا الحال، فكيف يمكن لعباس أن يواصل محاولاته تنفيذ هذه الخارطة..؟
سياق الخطاب يقول إن ذلك يتم فقط بمواصلة الحرب على حركة "حماس"، وعلى قطاع غزة بطبيعة الحال..!
لهذا، فقد اعتبر عباس حركة "حماس" هي المعرقل الأول لمشروع حل الدولتين، وصب جام غضبه على الحركة، باعتبارها عنوانا للمقاومة الفلسطينية بكل فصائلها واذرعها المسلحة، واكتفى بمناشدة اسرائيل واميركا عدم التخلي عن برنامج حل الدولتين، الذي يواصل هو التمسك به، دون أن تلوح في الأفق أية امكانية لأن ترى تطبيقات هذا البرنامج النور.
هذا الموقف يحتمل أحد ترجمتين على أرض الواقع:
الأولى: أن إعلان رغبة عباس بعدم الترشح لولاية ثانية هو مجرد مناورة سياسية، يريد بها استعطاف اميركا واسرائيل، أو تحريك ضغوط اميركية غير ظاهرة في الأفق، على اسرائيل، وهذا ما نرجحه.
الثانية: أن عباس قرر أن يشكل أحد ظاهرتين:
1.ظاهرة معارضة للسلطة الفلسطينية في حال فوز رئيس يقرر العدول عن عبثية برنامج عباس، وهو (فوز رئيس معارض) أمر غير متصور حدوثه في ضوء البنية الأمنية التي نجح الجنرال كيث دايتون في بنائها.
2.ظاهرة تأييد للرئيس المقبل في حال قرر مواصلة السير على نهج عباس.
أين هو التنحي إذا..؟!
السؤال يطرح كذلك في ضوء الفهم الموضوعي لقرار عباس عدم الترشح لولاية ثانية، بعيد إصداره مرسوما فقط قبل أيام معدودات بتحديد موعد للإنتخابات الرئاسية والتشريعية، بهدف تجديد ولايته، ولو على حساب تكريس الإنقسام الفلسطيني بين الضفة والقطاع، ما دامت حركة "حماس"، والغالبية الساحقة من الفلسطينيين يرفضون الإنتخابات دون توافق وطني فلسطيني.
وعلينا أن نلاحظ هنا، أن التمسك بالقانون الأساسي الفلسطيني من قبل عباس، يمكن أن يغض النظر عنه فورا، في حالة التوصل إلى توافق مع حركة "حماس" على قاعدة القبول باستمرار رئاسته، واعتراف "حماس" بإسرائيل، ضمن بقية شروط اللجنة الرباعية..!
في هذه الحالة يعلن عباس جهوزيته لتأجيل الإنتخابات حتى 28 حزيران/ يونيو المقبل، وربما لا يجد أصلا داع لإجراء أية انتخابات، ما لم تكن خطوته المقبلة وهذا مؤكد نزع أغلبية "حماس" في المجلس التشريعي، رغم كل الرقابة الدولية التي يعلن تمسكه بها في خطابه. السؤال التنحي يطرح كذلك في ضوء: أولا: اختيار عباس موعدا آجلا لتنحيه عن رئاسة السلطة، يمتد لمدة شهرين وثمانية عشر يوما من لحظة إعلان قراره، بدء توظيف كل لحظة فيها، وبدءا من لحظة انتهاء الخطاب كا شاهدنا على شاشة تلفزة السلطة من أجل ثني عباس عن قراره..! ثانيا: احتفاظ عباس برئاسة حركة "فتح"، ورئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وعدم اتيانه اية اشارة إلى أنه قرر كذلك ترك هذين المنصبين..!
لم لم يشر عباس إلى رئاسة حركة "فتح" ورئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير..؟
سبب ذلك يكمن في أمرين:
الأول: أن إعلانه يجب أن يكون في هذه الحالة هو الإستقالة لا عدم الترشح، وهذا ما لا يريد عباس فعله..! إذ لا انتخابات قريبة لحركة "فتح"، أو لمنظمة التحرير.
الثاني: وجود طامحين في خلافة عباس سواء داخل "فتح"، أو داخل منظمة التحرير.
هنا علينا أن نلاحظ أن محمد دحلان، الذي يكرر في جلساته الخاصة "أنا رئيسكم المقبل، وأنا قائد الشعب الفلسطيني، وعباس يوقع على القرارات التي اريدها أنا".. دحلان هذا كان الغائب الأبرز عن حفلة مطالبة عباس بالتراجع عن قرار عدم الترشح..! علينا أنة نلاحظ أيضا عدم الحاجة إلى انتخاب رئيس بديل لحركة "فتح"، لعدم وجود نص على هذا المنصب في النظام الأساسي للحركة.
وعلينا أن نلاحظ أيضا وأيضا، وجود أمين سر للحركة، هو محمد راتب غنيم، الذي غادر الأراضي الفلسطينية حانقا على عباس، بعد أن استشعر أنه تم استغفاله عبر اغرائه بالمشاركة في مؤتمر بيت لحم.
وعينا أن نلاحظ أيضا وأيضا وأيضا، وجود قطب فتحاوي آخر في اللجنة التنفيذية جاهز للإنقضاض على رئاسة اللجنة التنفيذية، وعلى عباس نفسه، انتقاما منه لتعمده افشاله في انتخابات اللجنة المركزية، وعدم دعمه في انتخابات ملء شواغر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وتعمده توزيع الصلاحيات على اعضاء اللجنة التنفيذية اثناء غيابه في رحلة علاجية إلى المانيا، من أجل توفيت الفرصة عليه للحصول على امانة سر اللجنة بدلا من غير الفتحاوي ياسر عبد ربه.. ذلك هو أحمد قريع.
ثم إن النظام الأساسي لمنظمة التحرير ينص على انتخاب اعضاء اللجنة التنفيذية لرئيس اللجنة، دونما حاجة إلى عقد مجلس وطني أو مركزي لهذه الغاية.
وللتذكير، صرح سليم الزعنون عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" مؤخرا ل "المستقبل العربي" أنه حين طرح على عباس في مؤتمر بيت لحم، قبل فقط ثلاثة أشهر من الآن، موقع القائد العام للحركة، أو أمينها العام، أصر على موقع رئيس الحركة، غير المنصوص عليه في النظام الأساسي.
كما أصر عباس على عقد المجلس المركزي الفلسطيني بعد مؤتمر بيت لحم بأيام، من أجل استكمال عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، واستعادة شرعية هذه اللجنة، مع عدم مراعاة أن ولاية المجلسين الوطني والمركزي قد انتهت منذ شباط/فبراير 1991.
لقد فعل عباس كل ذلك، من أجل أن لا يبقي مطعنا لمن يريد أن يشكك في شرعية اتفاق الحل النهائي الذي يمني النفس بتوقيعه مع اسرائيل، ولا يزال، كما يؤكد في خطابه.
إلى ذلك، فإن هذه ليست بالمرة الأولى التي يعلن فيها عباس، ليس فقط رغبته في عدم الترشح، وإنما أيضا رغبته في الإستقالة.
هذا التهديد بالإستقالة أو التنحي يوجهه عباس ليس للشعب الفلسطيني، وإنما للولايات المتحدة واسرائيل. ومضمون هذا التهديد هو أنه في حالة تركي موقع الرئاسة، من شأن مصالحكم، ممثلة في الإلتزام الكامل بخارطة الطريق، أن تصبح في مهب الريح..!
لهذا تحديدا، حرص عباس وهو يعلن قراره عدم الترشح، على تأكيد تمسكه بخارطة الطريق، وقناعته بإمكانية التوصل إلى حل الدولتين.
ولهذا أيضا، صدر تصريح صائب عريقات، في السياق، الذي يلوح فيه بالتحول عن حل الدولتين، إلى حل الدولة الواحدة ثنائية القومية، في وقت يعرف فيه أن هذا الحل هو "السرساب" الذي "يتسرسب" منه الإسرائيليون كونه يقضي على يهودية الدولة التي يتمسكون بها..!
ولكن هل يملك عباس أو عريقات فرض حل الدولة الواحدة، بالضد من رفض اسرائيل ذلك..؟!
عباس، وفي إطار مناورته السياسية الجديدة، يحرص على تأكيد كذلك تمسكه بالتنازلات التي سبق أن قدمها لإسرائيل، فهو في إطار تعداده لشروط تنفيذ حل الدولتين، يذكر بأهم التنازلات التي سبق أن قدمها لإسرائيل:
التنازل الأول: "امكانية إجراء تبادل للأراضي بالقيمة والمثل"..!
التنازل الثاني: "ضمان حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة".. في القدس، وهي العبارة التي يعترف بها بحائط البراق باعتباره "حائط المبكى" كما يسميه الإسرائيليون، وكذلك الحي اليهودي، الذي يملك العرب منازله وكان يسكنه اليهود قبل 1948..!
التنازل الثالث: "حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين كما ورد في مبادرة السلام العربية التي أصبحت جزءا من خارطة الطريق".. أي التنازل عن حق اللاجئين الفلسطينين بالعودة إلى ديارهم رغم كل تأكيدات عباس في خطاب التنحي على تمسكه بحق العودة، إذ كيف يمكن تحقق العودة، وهو يرهن الحل العادل لقضية اللاجئين بالإتفاق عليه مع اسرائيل..؟ وهل يمكن أن توافق اسرائيل على ذلك..؟!
لو كان هذا ممكنا لما قبلت اسرائيل بخارطة الطريق..!
التنازل الرابع: "ترتيبات أمنية يقوم بها طرف ثالث على الحدود ما بين دولتي فلسطين وإسرائيل".. أي عدم امتلاك الدولة الفلسطينية للسيادة..!
الأهم والأخطر من كل هذه المناورات، هو أن خطاب عباس، كما هو نهجه السياسي، يقوم على تجاهل، أو عدم ادراك حقائق وبدهيات الصراع العربي الإسرائيلي، والتطورات الجارية على هذا الصعيد.
أساس الصراع يقوم على حقيقة وجود تحالف استراتيجي معلن عبر جميع وسائل الإعلام، بين اميركا واسرائيل، على قاعدة تلاقي مصالح اسرائيل (المشروع الصهيوني) ممثلة في قيام دولة يهودية من الفرات إلى النيل، وطرد الفلسطينيين من وطنهم فلسطين، وغدا طرد العرب الآخرين الذين تقع بلدانهم في إطار "وطنك يا اسرائيل من الفرات إلى النيل"؛
تلاقي هذه المصالح الإسرائيلية مع المصلحة (الإمبريالية) الأميركية الرئيس ممثلة في السيطرة على منابع النفط العربي، بما يستدعيه ذلك من وجود وبقاء اسرائيل قاعدة عسكرية اميركية متقدمة، والإيغال في تفرقة العرب والحيلولة دون وحدتهم، وتقسيم المقسم وتجزئة المجزء من بلدانهم، وإضعاف الضعيف منها.
مفردات هذه الإستراتيجية تتجلى في التآمر على الإقتصاد والمجتمع المصريين، دون أن تشكل معاهدة كامب ديفيد رادعا لهذا التآمر.. والتآمر حتى على وحدة مجتمع عراق الإحتلال، وايران، واليمن، والأردن، والسعودية والكويت، والسودان..إلخ.
اقامة دولة فلسطينية من خلال عملية سياسية يمكن أن يتحقق فقط في إحدى الحالات التالية:
الأولى: تراجع اسرائيل عن المشروع الصهيوني، وواقع الحال يؤكد اتجاه المجتمع الإسرائيلي نحو المزيد من التشدد، بدليل أن الأحزاب الأكثر يمينية وتشددا هي التي تفوز في الإنتخابات الإسرائيلية منذ 1969، باستثناء فترتين محدودتين: حكومة اسحاق رابين، وحكومة ايهود باراك، مع ضرورة ملاحظة أن حزب العمل لا يقل صهيونية عن الليكود أو كاديما، أو حتى اسرائيل بيتنا..!
التراجع عن المشروع الصهيوني لا يمكن تصور حدوثه، بدليل اجماع الأحزاب الإسرائيلية على يهودية الدولة، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، والقدس عاصمة موحدة ابدية لإسرائيل، وعدم اعتراف أي حكومة اسرائيلية حتى الآن بحل الدولتين، الذي يضمن قيام دولة فلسطينية، بما في ذلك حكومة اسحاق رابين، الذي شرح للكنيست اتفاق اوسلو في خطاب سري نشره "المستقبل العربي" مؤخرا، موضحا أنه لا يتضمن قيام دولة فلسطينية، أو أي انسحاب من القدس أو عودة اللاجئين، أو تفكيك المستوطنات. الثانية: تراجع الولاياتالمتحدة عن هويتها الإمبريالية، وهذا ما لايمكن تصور حدوثه، بل إن الولاياتالمتحدة تواصل في عهد باراك اوباما ممارسة ذات النهج الإمبريالي، وفقا للطبيعة الناعمة للإمبريالية، التي تميزها عن عهد الإستعمار العسكري، مع أن اميركا أصبحت تزاوج ما بين النهجين، رغم محاولات اوباما التخلي عن المظاهر العسكرية للإمبريالية الأميركية، حرصا على ارواح الأميركيين، وبأمل الحفاظ على مصالح واشنطن داخل أوسع نطاق ممكن من الكرة الأرضية..! الثالثة: انفكاك التحالف الإستراتيجي بين اسرائيل والولاياتالمتحدة.
الرابعة: قبول قيادة فلسطينية لدولة كانتونات مؤقتة، وهذا هو المطلوب الأميركي الإسرائيلي من محمود عباس..!
وهو كيان مؤقت، ليس بانتظار التوافق على قضايا الحل النهائي، وإنما بانتظار أن تسنح الفرصة لطرد سكانه إلى خارج "أرض اسرائيل"..!! لكن عباس، وبدلا من أن يتجه في ضوء فشل برنامجه للحل السياسي نحو استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية على قاعدة برنامج المقاومة والممانعة، نجده يوغل في إطار مناورته في التصدي لهذا البرنامج، مواصلا مطالبته حركة "حماس"، وعموم قوى المقاومة والممانعة الفلسطينية بالإعتراف بإسرائيل ضمن الإستجابة المطلوبة لشروط اللجنة الرباعية الدولية، قافزا من فوق اقراره الضمني بفشل هذا النهج، واضعا الشعب الفلسطيني أمام استحقاق المواجهة الكفاحية المسلحة لنهج المفاوضات العبثية، ووضعه هذا النهج وممثليه في ذات خندق الإحتلال الإسرائيلي