لم تعلن القاهرة موقفا واضحا من الدعوة لانفصال جنوب السودان، التي أعلنها السيد سلفاكير ميارديت رئيس حكومة إقليمالجنوب الذي يتمتع بالحكم الذاتي، وجاء كلامه في ذلك تحريضيا ومفاجئا، لأنه قال للجنوبيين في كلمة ألقاها في ختام قداس بكاتدرائية القديسة تريزا في جوبا: إن تصويتهم للوحدة سيجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية، ومن ثم فخيارهم لكي يصبحوا أحرارا أن يصوّتوا للانفصال في الاستفتاء الذي سيجري خلال العام المقبل. ووجه المفاجأة في هذا الكلام أنه صدر عن رجل يشغل في الوقت الحالي منصب نائب رئيس جمهورية السودان، وكان قبل أسبوعين من هذا الكلام يتحدّث عن الوحدة في جولة قام بها إلى منطقة كردفان والنيل الأزرق، فضلا عن أن موقفه يعد تراجعا عن اتفاق «السلام والعهد والميثاق» الذي عقده مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وتعهد فيه بالحفاظ على وحدة السودان. أثار الانتباه أن السيد سيلفاكير أطلق دعوته بعد أسبوع من زيارته للقاهرة، التي التقى فيها الرئيس حسني مبارك. وليس معروفا ما إذا كان اللقاء قد تطرّق إلى مستقبل الجنوب بعد الاستفتاء أم لا، لكن القدر الذي أُعلن أن قرارا صدر بإنشاء فرع لجامعة الإسكندرية في جوبا عاصمة الجنوب، أسوة بفرع جامعة القاهرة في الخرطوم. أثار الانتباه أيضا أن إعلان سيلفاكير تزامن مع بعض الخطوات التصعيدية التي استخدمتها الحركة الشعبية لتحرير السودان، وتمثلت في مقاطعة الوزراء الجنوبيين لاجتماعات مجلس الوزراء، ومقاطعة نوابهم لجلسات البرلمان، والتهديد بسحب الضباط الجنوبيين من جهاز الأمن، وذلك بهدف ممارسة أكبر قدر من الضغوط على الحزب الحاكم لتقديم تنازلات في شأن قانوني الاستفتاء على مصير الجنوب والأمن الوطني. المتابعون للشأن السوداني لاحظوا أن القاهرة استقبلت بعد زيارة سيلفاكير السيد مصطفى عثمان مستشار الرئيس عمر البشير، الذي التقى بدوره الرئيس حسني مبارك، وأعلن أن الرئيس البشير سيزور مصر هذا الأسبوع بدعوة من الرئيس مبارك، حيث يشارك في المنتدى الصيني الإفريقي الذي سيعقد في مدينة شرم الشيخ. ونشرت الصحف المصرية على لسانه تصريحات ذكر فيها أنه سيفتتح في نهاية هذا العام طريق بورسودان الإسكندرية، الذي سيصل إلى جنوب إفريقيا. كما أن الرئيس السوداني سيفتتح طريق شرق النيل الذي يصل الخرطوم بمدينة حلفا، بحيث تتبقى منه مسافة 26 كيلومترا فقط لكي يصل إلى أسوان. وتحدّث عن تنشيط العلاقات وحركة التبادل التجاري بين القاهرةوالخرطوم، وزيادة رحلات شركة مصر للطيران التي كانت تقوم بثلاث رحلات أسبوعيا، بحيث تصبح ثلاث رحلات يوميا. من المبكر الكلام عن مدى نجاح الدعوة إلى انفصال الجنوب، التي يتبناها تيار قوي داخل الحركة الشعبية، علما بأن أوضاع الجنوب ذاته لا تطمئن إلى احتمالات نجاح تلك الدعوة، من ناحية بسبب الصراعات الداخلية والتاريخية بين قبائل الجنوب، خصوصا أن قبيلة الشيلك الكبيرة ترفض سيطرة قبائل الدينكا المهيمنة في الوقت الراهن، وبين القبيلتين غارات مستمرة وثأرات عميقة أغرقت الجنوب في بحر من الدماء، ومن ناحية ثانية فإن اعتماد إقليمالجنوب على نفط منطقة «ابييه» أصبح محل شك، بسبب ثبوت حقوق الشماليين فيه. الملاحظة الأهم أن شيئا لم يتحرك في مصر لا سياسيا ولا إعلاميا حين أعلنت الدعوة إلى الانفصال، إذ أهملتها وسائل الإعلام ونشرت بعض الصحف الخبر على صفحاتها الداخلية، رغم أن موضوع الانفصال كان ينبغي أن يحدث رنينا في مصر، لا يقل عنه في الخرطوم، وعند بعض السوادنيين فهو مشكلة مصرية أكثر منها سودانية، إذ أنه لا يفتح الباب لتمزيق السودان فحسب، لكنه أيضا يشكل تهديدا مباشرا لأمن مصر القومي، ذلك أن قيام كيان جديد يشرف على مياه النيل له ارتباطاته الإسرائيلية الوثيقة يمثل خطرا، ينبغي عدم الاستهانة به، ومن ثم كان ينبغي أن يستنفر الدولة المصرية، لكي تستخدم كل ما تملك من نفوذ للحيلولة دون حدوثه. هل يسوغ لنا ذلك أن نقول إن الأمن الداخلي أصبح أكثر أهمية من الأمن القومي، وإن مصير النظام صار مقدما على مصير الوطن.