إذا كان مولد مالك بن نبي سنة 1905، ذات السنة التي توفي فيها الإمام محمد عبده فإن أول ما يمكن أن يطرح من الأسئلة هو: هل تواصل مع مالك سؤال النهضة العربية الذي اعتنى به رجال الإصلاح الديني؟ ما تبرزه لنا ابتداءً قراءة كتابه «وجهة العالم الإسلامي» في سلسلة «مشكلات الحضارة» هو هذا التموقع الفكري الذي يحرص على إبرازه حين كان يتناول مسألة النهضة التي تولى الإصلاحيون العرب تركيزها في القرن ال 19. في هذا الأثر المنهجي ندرك نوع العلاقة النقدية التي حرص مالك على إرسائها مع الفكر الإصلاحي. يتضح هذا في تقويمه لأبرز الوجوه الإصلاحية حين يقول عن السيد جمال الدين إنه «نهض سياسياً أكثر مما نهض فكرياً وإنه اندفع بطاقته الفطرية أكثر مما اندفع بطاقته النظرية رغم أنه موهوب فكرياً». يضيف بعد ذلك في مقارنة مع الإمام عبده فيقول عنه إنه «أصاب بعض جوانب مشكلة النهضة ولكنه أخطأ في تطويرها تماما». حين ندرس موضع ابن نبي الفكري ندرك أنه في علاقته بالمسعى الإصلاحي يختلف مع الفريقين البارزين اللذين عالجا التيار الإصلاحي طوال القرن ال 20. هو لا يتفق مع الخط السلفي الذي يهمل أي تواصل مع الفكر الإصلاحي ولا يجاري أيضا ما اعتاده الآخرون من توظيف قسري لجهود الإصلاح مع نزوع تمجيدي أيديولوجي واضح. ينطلق موقف مالك بن نبي من إقرار بأن الإصلاحيين أحدثوا هزة عميقة للضمير المسلم وأنهم في اعتمادهم اختيار الإصلاح الديني والمرجعية الثقافية الإسلامية قد وفروا أول شروط إنقاذ المجتمعات المسلمة. لكن هذا لم يمنعه من قراءتهم قراءة نقدية ترتكز في المقام الأول على أطروحة الزمن الثقافي، المقولة التي تناولها في كتابه الثاني: «شروط النهضة» حيث اعتبر أننا في «العالم الإسلامي نعرف شيئا يسمى الوقت لكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة الزمن التي تتصل اتصالا وثيقا بالتاريخ». ما غاب في التوجه الإصلاحي هو هذا الوعي التاريخي الممسك بسيرورة الحضارة عامة وبالخصوصيات التي توقف المثقف على العوائق الخاصة بالحضارة الإسلامية. هي ذات المقولة التي سيطورها بعد مالك مفكران مغاربيان معاصران هما عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري. هذان العلمان، وإن اعتمد كل واحد منهما أدوات تحليلية أكثر دقة مع تميز كل واحد بتمش منهجي خاص، فإنهما يدينان بشكل واضح لمالك بن نبي حيث أولى مسألة التحقيب التاريخي أهمية عند تحليل الجهود الإصلاحية ونقدها. لقد بدأ مالك بمسألة «مجتمع ما بعد الموحدين» ليحدد الإحداثيات التاريخية الضرورية التي تضبط مرحلة الانهيار لحضارة المسلمين وعواملها الذاتية أساساً. في مجتمع «ما بعد الموحدين» نكتشف بجلاء العجز الحضاري الذي حول بغداد من مركز الشرق الوسيط والقيروان عاصمة للأغالبة إلى معالم أقرب للخراب. مع هذا الاكتشاف تتوالى الأسئلة الباحثة عن الأسباب والعوامل. بعد مالك أصبح مشروعا أن يقول العروي إن الإنسان كائن تاريخي إلا أنه لم يع تاريخيته إلا مؤخرا أي أن للوعي التاريخي بداية لا بد من تحديدها. في الاتجاه ذاته يرى الجابري أن الوعي العربي الإصلاحي يتميز باستبعاد الزمان من خلال المكان فيتعامل مع العصور المختلفة كجزر ثقافية تحضر إلى الوعي العربي حضورا متزامنا متداخلا. إنه جهد ركزه العلمان المعاصران بعد ابن نبي للخروج من تداخل الأزمنة الثقافية ومن الضبابية التي تقود من المعقول إلى اللامعقول ومن اليسار إلى اليمين مما يجعل الوعي التاريخي قائما على التراكم وليس على التعاقب وعلى الفوضى وليس على النظام. هذا بينما ندرك حين نقرأ ما دونه -قبل ذلك- محمد عبده عن الإصلاح خطورة هذا «السديم الثقافي» الذي سبح فيه فكر المصلحين قبل مجيء مالك بن نبي ثم ما تبعه بعد ذلك من جهود العروي والجابري. يقول الإمام في تعريف الإصلاح: «هو تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى واعتباره ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه وخبطه لتتم كلمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني». لمواجهة مثل هذه الإطلاقية، التي سادت القرن ال 19 وجزءا من القرن ال 20 بل والتي ما تزال متحكمة في فئات هامة من المعتنين بالشأن العربي العام اليوم، قدم مالك بن نبي أطروحة الزمن الثقافي التي دعمها بالمسألة الحضارية وأولوية الفاعلية الثقافية على ما عداها من العوامل التاريخية الأخرى. بهذا التموقع الفكري يمكن القول إن مالكاً دشن مرحلة جديدة في الوعي العربي تريد أن تضع حدا لتيه الفكر الإصلاحي عبر الزمان الثقافي وعلاقته اللاتاريخية بالماضي. • كاتب تونسي العرب 2009-11-19