صحفي من تونس الأيام الماضية كانت سوداء، حزينة، ثقيلة ومظلمة على الأسرة الإعلامية في تونس، ففي أقلّ من أسبوع تصدر أحكام مُسيّسة وكيدية بسجن صحفيين اثنين على خلفية كتاباتهما و تقاريرهما الإعلامية. في 26 من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي حكم بالسجن لمدّة ستة اشهر على الصحفيّ الساخر وصاحب الكتابات اللاذعة والمنتقدة توفيق بن بريك لإدانته بما قيل إنه الاعتداء على امرأة و على الأخلاق الحميدة. ويوم الثلاثاء الماضي صدر حكم جديد بسجن الصّحفي زهير مخلوف ثلاثة اشهر والزامه بدفع غرامة مالية قدرها ستة آلاف دينار بتهمة الإساءة للآخرين عبر الانترنت ليصبح بذلك ثاني صحفي تونسي يسجن خلال أسبوع واحد! غريب أمر الحكومة التونسية،تحسب أننا ما زلنا نعيش في القرون الوسطى وتتناسى أننا نعيش في الألفية الثالثة! وتتناسى الحكومة التونسيّة، أننا نعيش ثورة العولمة والمعلومات والعلم والتكنولوجيا. وأن الكلمة الحرّة أصبحت طليقة كالطيور في السماء، لا تحدها قيود ولا سدود ولا حواجز و لا قضبان سجون. ويبدو أنّ الحكومة بسجنها للصحافيين بن بريك ومخلوف تعتقد أن الاتحاد السوفياتيّ لم يسقط بعدُ و أنّ "الإعلام السّوفياتي" أحاديّ التوجّه لا يزال يُؤتي أكله في نشر المعلومات التي يريدها الحكام والتعتيم على ما لا يروق لهم و لأنظمتهم الفاشلة. بل وتحسب أن تونس بلد منعزل عن هذا العالم الفسيح، لا يتأثر بما يجري خارجه، و لا يهتمّ أحد بما يجري داخله، وهذا دليل على ضيق نظر و تصوّر، لا يصدر سوى عن "عقل" يعادي روح العصر ويقرأ واقع الأمور و المستجدات قراءة خاطئة. الطريف والمضحك والمبكي في حكاية سجن الصحافيين في تونس الذين يحاكمون بسبب آرائهم وكتاباتهم، هو تعمّد الحكومة في كلّ مرّة تشويه صورة الصحفيين المنتقدين بتلفيق تهم كيدية ضدّهم تتعلّق بالحقّ العام والمخالفات التي تمسّ من كرامتهم و تشوّه سمعتهم كإعلاميين جدّيين يحضون بالاحترام والمصداقيّة. فتوفيق بن بريك أدين بسبب "الاعتداء على امرأة في الشارع" في حين يعلم القاصي و الداني أنه يحاكم بسبب مقالاته النقديّة التي حرّرها في صحف أجنبيّة قبيل "الزّفة" الانتخابيّة الأخيرة التي لم يكن التونسيون في حاجة إلى تقارير بن بريك ليعلموا أنّ نتائجها حُسمت سلفا أي قبل يوم إعلان النتائج. أما زهير مخلوف الذي أدين ب"الإساءة للآخرين" فكان يُجري تحقيقاً حول المشاكل البيئية في محافظة "نابل" الصناعية للفت نظر الرأي العام والحكومة إلى المشاكل البيئية والاقتصادية والاجتماعية التي تهدد تلك المنطقة. وقام مخلوف بتصوير مشاهد من المنطقة الصناعية وأجرى مقابلات مع عدد من المواطنين و العمال. وعوض أن تسارع الحكومة والجهات المعنيّة و المسؤولون فور نشر الشريط الذي لم يتجاوز 10 دقائق إلى التحقّق مما جاء فيه والبحث في السبل الكفيلة بحماية المواطنين من التلوّث الذي يعمّ منطقتهم و يهدّد صحتهم، سارعت إلى اعتقال زهير مخلوف ومحاكمته وإدانته وكأنه ارتكب جرما لا يغتفر بكشفه لحقيقة التدهور البيئي في نابل. وعوض أن تتروّى الحكومة و تتقبّل برحابة صدر انتقادات توفيق بن بريك وتعمل جاهدة على تسريع نسق الإصلاح السياسي في البلاد حتى لا ينتقدها بن بريك وغيره من الصحافيين المُستقلين، يضيق صدرها ببضع مقالات فتسارع إلى الزجّ بالصحفي في غياهب السجون بسبب آرائه ومواقفه. "تطبيق القانون" الذي يردده المسؤولون كلما سئلوا عن الأسباب الحقيقية لسجن الصحافيين في تونس لم تعد يقنع حتى من يروّج لذلك، فتطبيق القانون أضحت كلمة حقّ أريد بها باطل، إذ كيف يمكن فهم حرص الحكومة على تطبيق القوانين مقابل غضّ الطرف ودعم الصّحافة الصفراء التي أطلقت في الآونة الأخيرة بلا رقيب أو حسيب لهتك أعراض الحقوقيين والصحفيين والسياسيين المعارضين و تخوينهم و نعتهم بأبشع النعوت، بل و إهدار دماء بعضهم!! لا ندري متى يطبّق القانون – بذات الحزم – ضدّ الأقلام المأجورة التي تصف الحقوقيات والصحافيات ب"المومسات"، ومتى تتخلى الحكومة عن اعتماد الأساليب التي تتنافى وروح العصر في "سحق" من يختلف معها، ومتى تتخلى عن الأساليب التي تعود بالبلاد إلى العهود السحيقة التي لا مصلحة للتونسيين في تذكّر مآسيها فما بالك بالعودة إلى تفاصيلها؟ قصارى القول أنّ عقوبة السجن التي يناضل الصّحافيون في كل أنحاء العالم لمحوها من قاموس العقوبات المفروضة على حرية إبداء الرأي، تمثل إهانة للصحافيين والصحافة في تونس الخضراء، فالصحافة التي هي رسالة سامية قبل أن تكون مهنة ووظيفة تتطلب مناخ أفضل بكثير من المناخ الذي يعيش فيه الصحفي التونسي اليوم، والقائم على التهديد و التنكيل والثلب و التخوين والرقابة المسلطة من كل صوب وحدب. لقد آن الأوان لإيقاف هذا المسلسل السخيف الذي يشوّه صورة البلاد ويجعلها محلّ تندّر كل من هبّ ودبّ، فلن يقتنع أيّ كان بأن الديمقراطية و احترام الحريات واقع معاش في تونس واثنين من خيرة الصّحافيين يقبعان خلف القضبان. و لن يصدّق أي كان وعود الحكومة في تحرير قطاع الإعلام، في حين أنّ أقلية دخلية عن المهنة لا زالت تتحكم في مقاليد أموره و تحوّله إلى آلة للدعاية السمجة يضيق صدرها بكلّ رأي مخالف. من حقّ الصحافيين التونسيين اليوم العمل بحرية وبعيدا عن التهديدات و الاعتداءات والإعتقالات التعسفية خصوصا بعد أنّ تمّ شلّ نقابتهم المستقلة من طرف الحزب الحاكم. ومن حقّ أهل القلم أن ينتقدوا الحكومة و أدائها، فحرية التعبير و إبداء الرأي حقوق يكفلها دستور البلاد والمواثيق الدولية التي وقّعت عليها تونس منذ عقود. ومن واجب السلطات حماية الصحفيين و إيقاف نهجها المتصلب في التعامل معهم، ومن واجبها أيضا رفع وصايتها على قطاع الإعلام والإعلاميين وكفّ أذاها عنهم ومن ذلك الإفراج الفوري وغير المشروط عن الصحافييْن توفيق بن بريك وزهير مخلوف وكفّ الاعتداءات الجسديّة على الاعلاميين ومحاسبة كلّ من يثبت تورطه في أي اعتداء ضدّهم، وإخراس الأصوات التي تشتم و تخوّن وتهدر دماء المواطنين ليلا ونهارا بدعوى حريّة التعبير. هي مطالب ودعوات ونداءات أطلقت في السابق ونكرّرها عبر هذا المنبر، ولكن لا يبدو أن في بلادنا "عقلاء" يلبون النداء و يتحملون مسؤولياتهم و يرتقون بها أمام مواطنيهم و أمام التاريخ. بل الأقرب و الأرجح أننا سنردّد مع السيدة فيروز أغنيتها المُعبّرة " كتبنا و ما كتبنا و يا خسارة ما كتبنا".... و لا حياة لمن تنادي ! إيلاف الجمعة 4 ديسمبر 2009