«إننا بموجب حكم الملائكة وأمر الرجال المقدسين نطرد وندين ونلعن باروخ دى سبينوزا بموافقة الله تبارك شأنه.. وبموافقة كل جماعة المصلين المقدسة.. فليلعن نهارا ويلعن ليلا، يلعن عندما يرقد وعندما يستيقظ.. لا ينبغى لأحد أن يتواصل معه كتابه أو يمنحه أى صنيع أو يبقى معه تحت سقف واحد أو يقترب منه بمقدار أربع أذرع ولا ينبغى لأحد أن يقرأ أى مقاله ألفها أو كتبها». كان ذلك هو الحكم على الفيلسوف الهولندى «باروخ دى اسبينوزا» ( 1632 1677) أحد أهم فلاسفة القرن السابع عشر، والذى وضعته طبيعته الناقدة والمتعطشة للمعرفة فى صراع مع مجتمعه اليهودى فكان القرار بالطرد والحرمان على يد مجلس الطائفة اليهودية فى أمستردام 27 يوليو 1656. وفى لغة رشيقة هادئة سلط الكاتب عبدالرشيد الصادق محمودى، الضوء على فترة عصيبة من حياة اسبينوزا خلال مقالة بعنوان «محاكمة اليهودى المارق» ضمن كتابه الذى حمل العنوان ذاته، مع تسعة مقالات أخرى، والكتاب صادر حديثا عن المجلس الأعلى للثقافة، أما غلاف الكتاب فتزين بلوحة الفنان «جو كوين سوروللا» والذى أبدع فيها صورة الفيلسوف الهولندى. قليلون هم الفلاسفة الذين نالوا من الشرف والرفعة مثلما نال باروخ اسبينوزا فكان مذهبه فى وحدة الوجود ما جعله يعد نقطة انطلاق المثالية الألمانية، حتى قال عنه هيجل «إما أن تقبل الاسبينوزية أو لا تكون هناك فلسفة»، ولكن فى الوقت ذاته كان اسبينوزا أوفر الفلاسفة حظا من الشتائم واللعنات، حتى أنه كانت تطلق عليه مسميات من قبيل «حليف الشيطان»، «الخائن الوضيع»، الأغرب من ذلك أن فلسفة اسبينوزا كانت أقرب الى التصوف فى روحانيته من أى شىء آخر، حتى ذهب نوفاليس فوصفه «بالمنتشى بالله» وقال رينان «إن الله لم يشاهد عن قرب كما شوهد من موقع اسبينوزا». وتتنوع أسباب هذه الحرب على اسبينوزا، منها بعض الآراء التى دونها فى كتابه الشهير «الأخلاق» وهو ما تناول فيه آرائه حول (الله والطبيعة والإنسان والنفس) ليبرهن فيها على أن سعادتنا نحن كبشر ليست هى أن نحيا عبيدا لعواطفنا وللخيرات العابرة وليست هى التعلق بالخرافات التى تتزيا بزى الدين بل نحيا بما يمليه العقل وفقا للتصور السليم للكون وهو تصور يوجد الله فى أساسه بحيث تترتب على صفاته وأحواله سائر الموجودات. ويشير عبدالرشيد إلى شكل النسق الهندسى بتعريفاته وبديهياته وبراهينه التى اتبعها اسبينوزا فى كتاباته. ومن أهم الآراء التى جرم بسببها اسبينوزا أنه عندما يعرف الله تعالى يقول: «إنه سبب ذاته» وهو أيضا جوهر الوجود، فيقول: «كلما زاد فهمنا للأشياء الفردية زاد فهمنا لله»، الغريب فى ذلك القول إنه بوسع المثالين الابتهاج بهذا المذهب فى الوجود على اعتبار أنه يوله الطبيعة، ولكن اسبينوزا نفسه يرفض رؤية الكون من جانبه الإلهى فحسب، وفى الوقت ذاته، نجد أن بإمكان بعض الماديين أيضا أن يفترضوا من ذلك أن اسبينوزا يغفل الجانب الإيجابى فى الكون فيكون فى صفهم ولكن اسبينوزا أيضا يرفض هذه الغفلة المادية. أما موقف فيلسوفنا الهولندى من قصة «شعب الله المختار» فكان منه ما جر عليه الوبال والطرد ثم النفى حيث يقول اسبينوزا: «ينص الكتاب على أن الرب اصطفى العبرانيين من بين سائر الأمم، وهكذا غدو شعب الله المختار فى كل زمان ومكان». ولأن اسبينوزا رأى أن هذا القول صحيح لا بالمعنى الذى استخلصه العبرانيون ولكن بمعنى آخر وهو أن هذا الاختيار كان رهنا بظروف طبيعية أو تاريخية معينة وأنه من ثم مؤقتا وليس أبديا، وإلى الآن لم يتسامح بعض اليهود والصهاينة معه وذلك لأن اسبينوزا اقترح الحل الاندماجى فى دولة إسرائيل. وكذلك النقد اللاذع الذى وجهه اسبينوزا للعهد القديم وفكرة «شعب الله المختار» دون أن يتطرق إلى العهد الجديد، جعل اليهود يعتبرونه منحازا للمسيحية ومن ثم اتهموه بخيانة أمته. المقالات التسعة التى تناولها المؤلف، ينتقل فيها من التصورات الهندسية فى الفن الإسلامى بما يحمله من أبعاد جمالية، إلى قضايا فلسفية من خلال استعراض كتاب «لم الفلسفة؟» للمفكر والفيلسوف عبدالغفار مكاوى، وهو الكتاب الذى حاول فيه مكاوى إعادة الاعتبار إلى أهمية وجدوى الفيلسوف وفلسفته لهذا العالم البشرى؟ فيبدأ فى فك رموز قصة بسيطة للغاية. قصة الفتاة الريفية التى سخرت من أول فلاسفة اليونان طاليس فكان يمشى ذات يوم فى الشارع مشدود البصر إلى النجوم وإذا به يتعثر فيقع فى بئر، فقالت له الفتاة ساخرة «إنك لحرصك على معرفة ما يدور فى السماء لا تدرى ماذا يجرى عند قدميك»، تلك الفتاة التى قال عنها وقد صدق «أن صدى ضحكاتها ما زال يتردد عبر القرون حتى بلغ سمعه»، ولعل هذا الطاليس الحكيم يمشى مشدود البصر إلى السماء، يبحث عنها ليقتفى آثار الحقيقة فيها ولكن هذه أيضا « لنفع الناس وخير مصالحهم. ولقد كان هو نفسه مزارعا وتاجرا ناجحا، ولقد كانت لأفلاطون وأرسطو وهيجل، وغيرهم صلات وثيقة بالحكام وشئون الحكم تحديدا، ألم يؤسس أرسطو عدة علوم بداية من الميتافيزيقا حتى الخطابة ومرورا بعلوم الطبيعة والحياة والنفس والسياسة والأخلاق.. فمن الممكن أن نسلم بأن الفلاسفة كانوا دائما على علم بالواقع، وبأن كبارهم يعدون أعلم أهل زمانهم بتطور الأحداث والمعارف، وبأن معظمهم يتصرفون فى الحياة اليومية كما يتصرف سائر الناس، بل لعل بعضهم أكثر فى هذا الميدان حذقا وتبصرا ولياقة من رجال العمل والسياسة». أما العلاقة الشائكة بين الثقافة العربية فى مواجهة الغرب، فيخصص لها مؤلف الكتاب فصلا، باعتبار هذه العلاقة ساحة للتشابك والنزاع، وفى ذلك يحاول الكاتب أن يجيب عن تساؤل مهم وهو: هل البحر المتوسط من الناحية الثقافية بحيرة سلام ووئام أم أنه ميدان اقتتال؟، وفى ذلك الإطار يطرح المحمودى مذهبين متعارضين إلا أنه يطرح هو حل ثالث، أولى هذه المذاهب هو ما نادى به طه حسين منذ عقود ويعيد المحمودى فى ذلك قرأه كتاب «مستقبل الثقافة» فيما يقرن بين محاكاة الأوربيين والاستقلال. وينقل عن طه حسين قوله «إذا كنا نريد الاستقلال العقلى والنفسى والذى لا يكون إلا بالاستقلال العلمى والأدبى والفنى فنحن نريد وسائله بالطبع. ووسائله أن نتعلم كما يتعلم الأوروبى وهو فى ذلك يوضح أن محاكاة الأوربيين ليست إلا وسيلة لتحقيق الاستقلال أو لتأكيد الذاتية «ذلك عندما تكون تلك المحاكاة إبداعية، التى بها يخرج الفنان عن حدود المورث فيطرح جديدا ذاتيا ليعيد لهذا الموروث نضرته وحيويته ليؤكد عليه من جديد. وذلك فى مقابل مذهب يطرح تيارا يرسم نموذجا آخر يمثل حدة الصراع. ولهذا التيار جذور عريقة وصور متعددة كما يشير المؤلف، ولكن أبرز ممثليه كان هو الأستاذ محمود محمد شاكر. فى كتابه «رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا» والذى عبر خلاله عن الخط الفاصل بين ثقافتين بينهما الحرب لا هوادة فيها منذ انتشار الإسلام، وكلا الثقافتين عالم قائم بذاته. أما الحل الثالث الذى طرحه المؤلف هو «أنه لا مفر فى هذه الحالة أن نشترك مع الثقافة الغالبة فتعلم عنها وننازعها بقدر الإمكان فيما لديها، أو فيما آل إليها ويبدو أن ابن خلدون هو خير مثال يحتذى به فى هذا الصدد. ويقتضى هذا أن نتخذ من الثقافة الأوروبية موقفا إيجابيا فنشتبك معها فى بناء العلوم والحضارة. المؤلف عبدالرشيد الصادق محمودى درس الفلسفة فى جامعتى القاهرة ولندن ونظم الشعر غير كتابته الإذاعية فضلا عن ممارسته الترجمة عن الإنجليزية والفرنسية معا، وبعدها اتجه إلى الإبداع الأدبى فكتب القصة القصيرة، والرواية. مروة كمال الشروق