عندما تمكنت الهزيمة الروحية والانتكاسة الحضارية من أمّتنا انبرت طائفة من الناس تسوّغ الأمر الواقع وتبشّر بغد مزدهر ليس بإشاعة أسباب القوة وعوامل النهضة المتكاملة وإنما بإشاعة الفن باعتباره المقوّم الأول في الحياة وعنصر الانتصار الأساسي ، وراح بعض من يسمّون فنانين وفنانات ''يخدمون '' الأمّة ويقيمون دعائم عزتها بملء أرجائها وأوقاتها بالغناء والرقص والنحت وما يصاحب ذلك من ميوعة وتخنّث وإهدار للطاقات في الفساد الفكري والخلقي ،،فانسحب ما لا يحصى من شباب الأمة وفتيانها من ميادين العمل والبحث والإنتاج المادي والمعنوي وأفنوا شبابهم في التسكّع الفارغ والعيش على حساب الجماهير المخدّرة وخزينة الدولة المعطاءة ينتقمون للهزائم بمزيد من الغناء ويعوّضون عن التخلّف والفقر والمرض والجوع بمزيد من الطرب وهزّ البطون وإلهاب الشهوات.. ما أتعس أمّتنا وما أظلم الفن في ربوعها.. تضافرت المؤامرات الخارجية وحيل الأنظمة ودسائس الأقلية التغريبية في التمويه على الحقائق وتوجيه اهتمامات الشعوب نحو الهوامش والتوافه والشواغل التي تكرّس الرداءة في الثقافة والأحادية في السياسة لتستمرّ الأوضاع على حالها بل ليصيب الأمة اليأس من عودة الأمجاد وبناء مستقبل زاهر ،هكذا أريد للفن أن يكون مخدّرا وعامل إلهاء عن الاشتغال بأسباب القوة وعوامل النهضة ، وقد طغى على الساحة الإسلامية – والعربية خاصة – سيل من الثقافة المأجورة يملأ ليل الناس ونهارهم بأخبار الفنانين ويقيم للفن تماثيل وأصناما ويغري الجماهير بالركوع لها باعتبارها عوامل الإنقاذ باسم الإنسانية والذوق الرفيع والانفتاح الحضاري ، إن جرائدنا وكتبنا وحصصنا الثقافية تكاد تنحصر مهمتها في التبشير بالفن كأنه دين جديد يعوّض رسالات السماء ويقضي على الشقاء في الأرض حتى إن القنوات المسموعة والمرئية يحتلّ فيها الغناء والحديث عن الفن النسبة الكبرى من أوقات البثّ ، وتبعا لذلك اصطنعت النجومية المزيّفة لتكون بديلا عن العمل الجادّ ، وإلاّ كيف نفسّر اهتمام الأنظمة و ''المجتمع المدني'' بالمطرب والراقصة في حين نعرف جميعا مدى التقدير الذي يحظى به العلماء من مختلف التخصّصات ...فضلا عن الدعاة إلى الله تعالى ؟ يكاد الأمر يتلخّص في صنع قدوات سيئة للشباب للحيلولة دون نشأته على قيم العلم والعمل والجهاد وكسر طوق التخلّف وإقامة خلافة الله في الأرض ،والأدلّة على ذلك لا تحصى ، ويكفي أن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يوصف بالتطرّف والإرهاب وأن مالك بن نبي رحمه الله محاصر في بلاده حتى بعد موته في حين يصوّر عادل إمام وكأنه منقذ مصر ، ويبني للمدعو الشاب خالد مجد وكأنه أمل الجزائر الوحيد الخ...ولولا عناية الله تعالى وتجذّر الإيمان في الأمة لتمّ شنق علماء الدين والدنيا حتى لا يبقى في الساحة إلا أصحاب الغناء الفاحش والتمثيل المبتذل ، وهو هدف لا يخجل أدعياء الفن من التلميح به وربما التصريح أيضا ، ومن منّا لم يقرأ المقابلات المطوّلة مع مطرب بذيّ أو راقصة خليعة أو ممثّلة ينحصر فنّها في كشف المفاتن وصور الإثارة وهم يتكلمون وكأنهم رسل الخلاص الإنساني في مقابل تزمّت '' الأصوليين'' وجحيم المتدينين؟
هذا الفن أكذوبة ،و هذه الرسالة المزعومة للفن أكذوبة يلهي بها أصحاب المصالح وأصحاب الانحرافات الفكرية والخلقية وزعماء الفساد العالمي توجّهات الشعوب وأخلاقها ،وهذا الفن المتعفّن يشكّل عند الاستراتيجيين بديلا عن طموح الأمة في التحرّر الحقيقي والرقي والاحتماء بالأصالة والانطلاق منها إلى مدارج السؤدد ،وهذه ثلاث عيّنات تؤيّد طرحنا :فبعد هزيمة 1967 النكراء أحسّت القومية العربية بانهيار عرشها فاستنجدت بالفن لرفع معنويات العرب والتعويض عن النكسة فأصدرت المرحومة أم كلثوم قصيدة ''الأطلال'' وروّجت لها الأوساط الفنية والثقافية والإعلامية على أوسع مستوى و أوسع نطاق باعتبارها أعادت الأمل للجماهير العربية !!! وفي حديث إذاعي سمعت أحد شيوخ المالوف {نوع من الطرب الأندلسي }الذائع الصيت في الجزائر يتباكى على الشباب ويطالب الدولة بالاهتمام بشأنه وتحصينه من الضياع ، فتبادر إلى نفسي وهو يتكلّم أنه تاب – بعد حجته- لكنني فوجئت به يقترح الحل في شكل فتح مزيد من المعاهد الموسيقية وتيسير سبل الفن !!!أما ثالثة الأثافي فتتمثّل في حضور الممثّل عادل إمام مؤتمرا فكريا بالقاهرة – منذ سنوات - لمناقشة قضايا التطرف في مواجهة محمد الغزالي ومحمذ عمارة و سليم العوا باعتباره صاحب الحل الفني !!! وقد عامله مفكرونا بما يستحقّ إذ انسحبوا من الندوة لأن الأهواء لا تناقش في حلبة العلماء. إنّ كل هذا يدخل في إطار الإستراتيجية التي ذكرنا والهادفة إلى خدمة الأغراض التخريبية بواسطة فن الخنا والعفن. هذا، وقد بثّ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله جملة من الخواطر القيمة لها علاقة بموضوعنا في ثنايا كتابه '' هكذا علّمتني الحياة ''نوظف بعضها في هذا المقال مع شيء من التصرف يليق بالمقام :
إن الانصراف إلى الفن شغل الذين تمّ لهم البناء أما الذين لم يبدؤوا البناء بعد أو بدؤوا متأخرين فمن أكبر الجرائم صرفهم عن الاهتمام بتقوية البناء إلى الاهتمام بالرسم والغناء وعن الاختراع إلى رقص الإيقاع وعن صنع الحياة إلى ''رسم الحياة''،إننا لم نسمع بأمة هزمت أخرى بالفن ولكن تهزمها بالقوة ،ومن التضليل اعتبار الفن من عناصر القوة ،وها هي إسرائيل لم تعدّ لغزونا وإذلالنا وإلحاق الهزيمة بنا فرقا من الراقصات والمغنيات والفنانين ولكنها أعدّت فرقا من العلماء وفيالق من الجيوش البرية والجوية والبحرية وألوانا من الأسلحة ،أجل إن الفن يصقل المواهب وينمّي الشعور بالجمال لكننا أمة تحتاج في الدرجة الأولى إلى ما يلهب الإيمان ويقوّي الأخلاق ويفتح العقول ويفتل السواعد ليدفع عنها خطر الإبادة ويكسّر طوق التخلف ،وهو ذا التاريخ يشهد أن نجمنا لم يأفل إلا يوم سطعت نجوم المغنين وقويت دولة الراقصات في حضارتنا ،فكيف نكاد اليوم نستغني عن العلماء في المختبرات والمخترعين في الصناعة والأبطال في الحروب والأقوياء في الإيمان والأخلاق لينصبّ همّنا على خلق نجوم في الرسم والغناء والتمثيل ؟ يتكلمون بكل وقاحة عن الإبداع ،فأي إبداع في أدب الجنس؟ أي كفاح فيه وأية تضحية ؟ أليس هو صنعة المجد بين الكسالى الأنانيين الذين لا يقدرون على أدب النفس الذي فيه روعة الإبداع وتعب الكفاح وشرف التضحية؟ يتكلّمون عن الحرية لكن كيف أترك من يحمل معولا ليهدم بيتي يتمّ عمله باسم الحرية؟ إني آخذ على يده باسم الحق ولا أدعه يتلذّذ بمناظر الخراب باسم الفن ولكن أجرّعه مرارة العقاب باسم القانون ،ما الفرق بين لصّ يتسلّل إلى بيتي باسم زائر محبّ فيسرق أغلى ما فيه وبين فنّان أو أديب يتسلّل إلى عقل بنتي أو زوجتي باسم فنان بارع أو أديب مفكّر فيسلب منه أثمن ما فيه؟ لماذا يسجنون لصوص المتاع ويطلقون الحرية للصوص الشرف والسعادة الزوجية والعائلية؟ هل من المعقول أن تترك الأمة هؤلاء العابثين يسجّلون في التاريخ أنهم كانوا من المعبّرين عن آمالها وأهدافها في حين لا يحسنون إلا الطواف باللذائذ الجنسية والحلم بسرقة شرف البنات والزوجات وخيانة الآباء والأزواج؟ ما أشدّ لعنة التاريخ إذا حدث هذا من جيل لا يستحقّ خلودا ولا ثناء.. إن دعاة الانحلال يتكلّمون بالشهوات وينسجمون مع مجون الحضارة الغربية ونحن نحتكم إلى الشرع والعقل ،هم مع الأهواء ونحن مع المبادئ ، هم مع الفن الهابط ونحن مع الفن الراقي ،هم يقدّسون الفن ونحن نعرف الأولويات، وبينما هم في سكرتهم غافلون نعلم نحن أن العقل يبني المجتمع من حيث يخرّبه الهوى ،فهل تكون العاقبة لنا أم للمنحلّين والمتآمرين والكسالى والوجوديين والمستغربين والمفتونين ؟ عبد العزيز كحيل