مجلس نواب الشعب : جلسة عامة غدا الثلاثاء للنظر في اتفاق قرض بين تونس والبنك الإفريقي للتنمية    سعر "علّوش العيد" يصل 1800 دينار بهذه الولاية.. #خبر_عاجل    عاجل/ وزير اسرائيلي: نحن بصدد احتلال غزة وعلى الإسرائيليين تقبّل كلمة "الاحتلال"    الرابطة المحترفة الاولى : برنامج الجولة 29    سليانة: 2735 تلميذا وتلميذة من 22 مؤسسة تربوية يشرعون في إجراء اختبارات البكالوريا التجريبية    عاجل/ قتلى في اصطدام سيارة تونسية بشاحنة ليبية    عاجل/ حملة أمنية في سيدي حسين تُطيح بعناصر خطيرة مفتّش عنها    محمد رمضان يشعل جدلا على طائرته    تتمثل في أجهزة التنظير الداخلي.. تونس تتلقى هبة يابانية    تونس تتلقى هبة يابانية تتمثل في أجهزة التنظير الداخلي    رفض مطلب الإفراج عن النائب السابق وليد جلاد في قضية فساد مالي    الدورة الاولى لتظاهرة 'حروفية الخط العربي' من 09 الى 11 ماي بالقلعة الصغرى    الرّابطة الثانية : برنامج مباريات الدُفعة الثانية من الجّولة 23.    دوّار هيشر: السجن 5 سنوات لطفل شارك في جريمة قتل    تونس تحصد 30 ميدالية في بطولة إفريقيا للمصارعة بالدار البيضاء منها 6 ذهبيات    الهند توقف تدفَق المياه على نهر تشيناب.. وباكستان تتوعد    بداية من الغد: اضطراب وانقطاع توزيع المياه بهذه المناطق..#خبر_عاجل    المديرة العامة للمنظمة الدولية للهجرة في زيارة عمل إلى تونس بيومين    تصنيف لاعبات التنس المحترفات: انس جابر تتراجع الى المرتبة 36    وفد من هيئة الانتخابات في رومانيا لملاحظة الانتخابات الرئاسية    الإدارة العامة للأداءات تُحدد آجال إيداع التصاريح الشهرية والسنوية لشهر ماي 2025    قيس سعيّد يُجدّد دعم تونس لفلسطين ويدعو لوحدة الموقف العربي..    عاجل/شبهات تعرّض سجين للتعذيب ببنزرت: هيئة المحامين تُعلّق على بلاغ وزارة العدل وتكشف..    عاجل -فلكيا : موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك 2025    كل ما تحتاج معرفته عن ''كليماتيزور'' السيارة ونصائح الاستعمال    تقلبات جوية متواصلة على امتداد أسبوع...تفاصيل    مفتي السعودية يوجه رسالة هامة للحجاج قبل انطلاق الموسم بأيام    بطولة مدريد المفتوحة للتنس للأساتذة: النرويجي كاسبر رود يتوج باللقب    البطولة الفرنسية : ليل يتعادل مع مرسيليا 1-1    عاجل : دولة عربية تعلن عن حجب 80% من الحسابات الوهمية    محرز الغنوشي: حرارة صيفية الظهر وأمطار منتظرة    ترامب يأمر بفرض رسوم بنسبة 100% على الأفلام غير الأمريكية    الرحيلي: الأمطار الأخيرة أنقذت السدود... لكن المشاكل الهيكلية مستمرة    العثور على جثث 13 موظفا من منجم للذهب في بيرو    سوريا.. انفجار الوضع في السويداء مجددا.. اشتباكات وقصف ب"الهاون"    معرض تونس الدولي للكتاب: الناشرون العرب يشيدون بثقافة الجمهور التونسي رغم التحديات الاقتصادية    بوسالم.. فلاحون يطالبون بصيانة و فتح مركز تجميع الحبوب بمنطقة المرجى    بورصة تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث الأداء بنسبة 10.25 بالمائة    رئيس اتحاد الناشرين التونسيين.. إقبال محترم على معرض الكتاب    الرابطة الثانية (الجولة العاشرة إيابا)    معرض تونس الدولي للكتاب يوضّح بخصوص إلزام الناشرين غير التونسيين بإرجاع الكتب عبر المسالك الديوانية    بوشبكة.. حجز أجهزة إتصال متطورة لدى اجنبي اجتاز الحدود بطريقة غير قانونية    طقس الليلة.. أمطار رعدية بعدد من الجهات    ثنائية مبابي تقود ريال مدريد لمواصلة الضغط على برشلونة المتصدر بالفوز 3-2 على سيلتا فيغو    انتفاخ إصبع القدم الكبير...أسباب عديدة وبعضها خطير    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    رفع اكثر من 36 الف مخالفة اقتصادية الى أواخر افريل 2025    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    النفيضة: حجز كميات من العلف الفاسد وإصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    سوسة: الإعلامي البخاري بن صالح في ذمة الله    لبلبة تكشف تفاصيل الحالة الصحية للفنان عادل إمام    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شكر من لا يستحقّ الشُّكر : محمّد أحمد الوليد


محمّد أحمد الوليد الفجرنيوز
الشُّكرُ فرضٌ من الله – تعالى - على عباده ، يغفلُ عن وجوبِه كثيرٌ من الخلق فيعتقدونه مستحبّاً أو مندوباً فيتهاونون في أدائه قال تعالى { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (القصص: 73) ، وفي الفقه الإسلاميِّ سجدةٌ تسمَّى سجدةَ الشُّكرِ يشكرُ بها المسلم ربَّهُ عند قضاء الحاجات ، وكشف الكُرُبات ، ودفع الملمَّات .
والشُّكر لا يقتصرُ على شكر الله – جلَّ شأنهُ – في شريعة الإسلام ، بل يعُمُّ شكرَ من جعلهم اللهُ سبباً في وصول النِّعمة ، أو زوال الكربة ، ولهذا علَّمنا الإسلامُ شكرَ من أحسن إلينا من النَّاس ، وأوّلهم الوالدان ، وقرن ذلك بشكره فقال تعالى : (أن أشكرْ لي ولوالديك ) ( لقمان الآية 14) ، وجاء في الأدب المفرد للبخاري (256ه) عن المعصوم : " من لا يشكرُ الناسَ لا يشكر اللهَ " ، وجاء في رواية أخرى عند الهيثمي بالتوكيد مع التفضيل وهي : ( إنَّ أشكرَ الناسِ لله تبارك وتعالى أشكرُهم للنَّاس،) (مجمع الزوائد ) .
وقد جاء في حديث ثانٍ وجوبُ شكر المحسن فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - " من أُولي معروفاً فليكافيءْ عليه، فمن لم يفعلْ فليذْكرْهُ، فإنَّ من ذكرَه فقد شكرَه" ( الخرائطي في فضيلة الشكر لله تعالى على نعمائه).
وفي هذين الحديثين توجيهٌ نبويٌّ كريمٌ يعوِّد النَّفسَ المسلمةَ شكرَ غيرها إذا قُدِّم لها عوناً ما يُوجبُ الشكرَ ، فلا ترى فيه حرجاً ولا عيباً ، وفيهما أيضا : نشلٌ للنفس البشريَّة من مستنقع الأنا ، وحبِّ الذات ، ونكرانِ سواها ، ولله در الشاعر السّوي في قوله :
عَلامَةُ شُكرِ المَرءِ إِعلانُ شُكرِهِ : وَمَن شَكَرَ المَعروفَ مِنهُ فَما كَفَر
ولا يستطيعُ إنسانٌ مهما بلغَت منزلتُهُ ، وعلَت رتبتُهُ أن يستغنيَ عن مساعدة الناسِ وعونهم له ، فالبشرُ خُلقوا على العون ، و جُبلوا على طلب المساعدة ، ولقد طلب فرعونُ من وزيره هامان أن يبني له صرحاً ، وطلب سليمانُ - عليه السلام - من العبد الصَّالح أن يأتيَهُ بالعرش ، والأوّل : مُدَّعٍ للألوهيَّة ، لكنَّ بشريتََّهُ حتَّمَت مدَّ العون ، وإن كان في صورة الأمر ، والثَّاني : نبيٌّ سُخِّر له الجنُّ بأطيافِها ، والرِّيحُ بأجناسها ، ومع ذلك فقد علَّمنا هذا النبيُّ الكريمُ أنّ القوَّة وإن كانت رهنَ الإشارة ، وبقليلِ العبارة لا تعني عدمَ طلب العون من غيرك ، ولو كان أقلّ شأناً ، وأضعفَ مُكنةً .
وضرب الله في القرآن مثلا لرجلين ابتلاهما بالنّعمة والقوّة ، والتمكّن من إيجاد الخوارق ، فأحدُهما كفَر بمن ألبسه النّعمة فخسِر ، والآخر شكر فنجا ، قال الله في شأن الأوَّل وهو بلعام بن باعوراء في قول كثير من المفسرين ، وقد أُوتي الاسمَ الأعظمَ الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سُئل به أعطى : ) وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذيِنَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } (الأعراف: 175-176-177) ، وقال في شأن الآخر وهو آصفُ بن برخيا ، وقيل : سليمان ، وقيل : جبريل ، وقد جاء بعرش بلقيس من اليمن في أقل من لحظة :( قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) النمل 40 .
ونعم الله على العبد كثيرةٌ لكنَّه لا يراها من غشاوة الطَّمع ، وغلبة الطَّبع ، ودليل ذلك : أنّ كثيرين يغفلون عن نعمةَ قضاء الحاجة ، ويرونها شيئاً هيناً لا يوجبُ شكراً ، وقد روى ابن أبي الدُّنيا (281ه) في كتابه الشكر أنَّ نوحاً عليه السلام كان يشكر ربَّه بعد خروجه من الخلاء فيقول كلماتٍ معناهن : الحمدلله الذي أذاقني حلاوته ( أي الطعام ) ونفعني به ، ونجاني من آفته ، فوصفه الله تعالى لذلك بالعبد الشكور ، وهذا حال المؤمن الكيّس يشكر ربَّه على أشياء لا يتفطَّنُ لها غيره فتدومُ نعم الله عليه ، بل تزيد كما في الوعد الإلهي الصادق : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } (إبراهيم7) ، وجاء في الخبر : ( الشكرُ قيدُ الموجود وصيدُ المفقود ) أي أنَّهُ يديمُ النِّعمةَ الموجودة فلا تطيُر من صاحبها ، ويجلبُ المفقودَ ، أي : الخيرات الغائبة .
وعلى الرُّغم من فوائده إلا أنَّك لا تجدُ كثيراً من النَّاس شاكرةً لأنعم ربهّا ، فكثيرٌ ممَّن أنعم الله عليهم بنعمة المال أو الجمال أو السُّلطان يستعملونه في غير موطنه فيعتدون به على الحرمات ، وينتهكون به المحرّمات ، ليتحقَّق الخبرُ الإلهيُّ الصادقُ ( وقليل من عبادي الشَّكور ) (سبأ الآية 13) .
و يجب أن تعلم أيها الكريم أنَّ من التوفيق الإلهيّ شكرَ الشكرِ على النعمة ،أي : أنَّ المسلم يشكرُ ربَّه على نعمة ، ثم يشكرُه على أن وفَّقه للشكر ، ثم يشكرُه على أن وفّقه لشكر شكر الشُّكر وهكذا فمقام الشُّكر بحرٌ كما عبَّر أحد العارفين في الرِّسالة القشيريّة ، ومنه قول الشاعر :
إِذا كانَ شُكري نِعمَةَ اللَهِ نِعمَةً : عَليّ لَهُ في مِثلِها يَجبُ الشُكرُ
فَكيفَ بُلوغُ الشُكرِ إِلاّ بِفَضلِهِ : وَإِن طالتِ الأَيامُ وَاتَّصلَ العُمرُ
وما أحسنَ دعاءَ بعضِهم " اللهم ارزقني الشُّكرَ علي الشُّكر ، ودوام الشُّكرِ علي الشُّكر ، وتمام الشُّكرِ علي الشُّكر ، شكراً علي الشُّكر يرضيك عني " .
ونحن في زماننا على الرغم ممَّا أنعم اللهُ به علينا من نعمٍ لا تُحصى عدداً ، و لا تنتهي حدّاً ، تجد كثيراً منّا جاحداً حاقداً لا يشكرُ ربَّه ، ولا يحمدُ مولاه ، لأنّهُ لا يرى من هم دونه بؤساً في العيش ، وضنكا في الحياة ، وإنمَّا يعلق نظره بمن هم فوقه نعمةً ورغداً ، فلا يرضى أبداً ، وقد جاء في الحديث الذي يرويه مسلم (261ه) :" لو كان لابنِ ‏آدم واديان من مالٍ لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوفَ ابنِ آدم ‏إلا التُّرابُ ، ويتوبُ الله على من تاب ، " ولو ذهب أحدٌ ممّن يشكون حظوظَهم ، ويندبون أحوالهم إلى دار ذوي الاحتياجات الخاصّة ورأى شبابا في ربيع أعمارهم قد مُنعوا من الحركة ، وحُبسوا عن ترجمة الإرادة ، أو إلى قسم الحروق ورأى الوجوه المشوّهة المطموسة المعالم لعاد شاكراً ربَّه ، ذاكراً فضلَه ونعمتَه ، وحمدهُ على ما أَوْلَاه وأعطاه ، وهكذا يداوي الإنسانُ داءَ نكران النِّعم والجحود برؤية من هم أسوأ حالا من حاله ، وأشدّ ضيقا من ضيقه ، فيرضى نفسَه الطَّامعة ، ويستريحُ من إلحاح شهوات الآسرة ، لكنَّ هذا الذي ذكرته ، لا يعني أنَّ الإنسان لا ينشُدُ آمالَه ، ويُصَدُّ عن تحقيق رجائه ، إنّما أقصدُ أنَّ يعمل المرءُ ، ولا تغفَلْ عيناهُ عمَّن ابتلاهم القضاءُ اللازمُ ، والقدرُ المحتّمُ .
ومما هو غريبٌ مستقبح ٌ في عصرنا الرّاهنِ بلوى عمّت على ألسنة الكثيرين في مجتمعاتنا العربيّة ، وهي شكرُ من لا يستحقُّ الشكرّ من الزُّعماء ، والأغنياء ، والوجهاء والعلماء وغيرهم ، فيراه بعضهم حسناً لا يعدو كونه مجاملة دالّة على التمدُّن والتحضُّر ، أو هو من سياسةِ جلب المصالح ، وتثبيت المراكز ، ودفع المخاطر ، وقد يكون تسرُّعا وعجلة من بعض الطيّبين ، فيغدقون الثناء على غير أهله ، والشكر على من لا يستحقُّه فينشأ عنه من الضرر الشيءُ الكثير ، منه : مساوةُ من يستحقّ الشكر بمن لا يستحق ، وهذا ظلمٌ ظاهرٌ ، وتربيةٌ للنَّفس على النِّفاقِ والكذبِ والبُهتانِ فتستسهلُهُ وتستحسنُهُ ، وقد يتعوّدُ الناسُ على سماع هذا النوع من الإطراء الكاذب بتكراره على غير أهله فلا يطربون له بعد سماعه عن أهله ، وفيه الإضرارُ المحقّق بمن شُكِر ولايستحقُّ الشكرَ فيُعحَبُ المشكورُ بنفسهِ ،وتزيّنُ له أوهامُهُ أنَّ شكرهُ حقٌّ على غيره ، لأنه أدَّى واجبَه ، وخدم أمَّتَهُ ، وأبرأَ ذمَّتَهُ ، وقد يكون في الحقيقة مقصّراً مفرِّطا وهو لا يدري ، فنعميه بالشُّكرِ الكاذبِ عن الحقيقة الصَّادقة .
وهذا الأمرُ ليس خطراً على السَّاسة فقط ، بل هو خطرٌ على الناس جميعاً زعماء و أطباء ، ومشايخ ،و أساتذة ، وكم من أستاذ أعجبتْهُ نفسُهُ ، وذهب به الخيالُ إلى أنّه متقنٌ متفنِّنٌ فريد عصره ، ووحيد دهره ، لشكر طلابه إياه على ما يجيد وما لا يجيد ، فيظنَّ نفسه الغاية والمنتهى ، ويستدرجه الشيطانُ من حيث لا يعلم فيفتر عن المطالعة ، ويكسل عن المتابعة ، ولقد سمعتُ عن أحدهم وهو لا يعرف كثيراً من أحكام الشّرع يصرح أنه بإمكانه الآن أن يكون مجتهداً فيفتي الناس ، والسببُ أن بعضَهم كان دائم الثناء عليه لتمكّنه عندهم في فرع من فروع العربية حرسها الله .

وممَّا يحزنُ في باب شُكرِ من لا يستحقُّ الشكرَ ما تراه وتسمعُه في أيامنا هذه عن حال الطلبة في الدراسات العليا إذ إنّهم صاروا مُجبرين عُرفاً على شكر الأستاذ المشرف وإن كان لئيماً خبيثاً حتَّى لا يُتَّهَمُوا بالجحودِ ، ونكرانِ الفضل ، وأقول : ليس عيباً أن يشكر الطَّالبُ أستاذهُ ومشرفَهُ ، ولكنَّ العيبَ أن يشكرَهُُ على ما لم يقمْ به ، فتراه لم يساعده في بناء رسالته ، ولم يعنْه في فكِّ المستغلقات ، ولم يخصِّص لها وقتا لقراءتها ، ومع هذا تجد الطالبَ في مقدِّمة عمله يلبسُهُ أوصافَ الثناء جميعاً ، وأنه فكَّ المُرمَز ، وحلَّ المُلغَز ، ولولاه ما وصل إنجازه إلى ما وصل إليه من الترتيب والتهذيب .
وكلُّنا متفقون على أنَّه لا بأس أن يشكرَ الطَّالبُ أستاذَه كونه أشرفَ على عمله ، و لكن الواجب عليه ألّا يزيدَ على ذلك إلا بالحقَّ من الوصفِ ، وبالصِّدقِ من القول ، فإن قرأَ الأستاذ عملَه شكَرَه على قراءته ، وإن أصلَحَ ودقَّقَ شكرَهُ على إصلاحه وتدقيقه ، فلا يجوز شرعاً ، ولا يُقبل ذوقاً أن يستوي شكرُنا لمن عَمِلَ وكدَّ مع طلابه ، مع شكرنا لمن أهملَ ولم يعملْ ، وقسْ على حال الأساتذة مع طلابهم باقيَ الوظائف .
وعوامُ الناس يعلمون أنَّ شكر من يستحق الشكر لا بأس به ، ولا يعلمونه واجباً عليهم ، ولكنّهم في الغالب يجهلون أنَّ شكر من لا يستحقّ الشكر محرَّمٌ شرعاً ، ومذمومٌ ديانةً ، وأنه يُفضي إلى سخط الله وعذابه ، فقد جاء في الخبر أنّه من شكر من لا يستحق الشكر لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ، وما أشده زجراً ، وأعظم به تذكيرا وخطرا .
وقد قالت العرب في أمثالها السائرة فيما يتَّصل بشكر من لا يستحقُّ الشُّكر ، ومدح من لا يستحق الثناء :" لا تَهْرِفْ بما لا تعْرِف " ، وهذا ممَّا يُكتب بمداد من ذهب عند ذوي الطباع السَّليمة ، وينبغي حفظُهُ والعملُ به ، ومعناه كما يقول الميداني : "يُضرب لمن يتعدَّى في مدح الشَّيء قبل تمام معرفته " مجمع الأمثال : 3/191 .أي أنه ينبغي على الإنسان أن يتأنّى ويتمهّل في توجيه شكره فلا يعمَّ به المسيءَ والمحسنَ ، وأن يضع ألفاظَ شكره موطنَها بعد تحققٍ وتبصّر .
وممَّا يتصل بأحوال الشُّكر في أيامنا الحاضرة إنّه قد ظهرت علينا شهاداتٌ ، وأوراقٌ توضع في صناديق جميلة تسمّى ( شهادات الشكر والتقدير ) يعلِّقها الناسُ في حيطان بيوتهم على أماكن ظاهرة للزائرين ، وقد كتبت بخطوطٍ حسنةٍ ، وزخرفت بزخارفَ متقنةٍ ، وهذه الشهاداتُ -وإخالك تعلم- صارت لا قيمةَ لها ؛ لأنَّها تُعطى لمن يستحقّ ، ومن لا يستحق ، وقد تُمنع عمّن يستحقّ ، وهي غالبا تُمنح في أجواء المناسبات الكبرى ، أوعند انتهاء مدّة الحياة الوظيفية للموظَّف ، ترافقُها طقوس التَّقديم كالموسيقا والتصفيق ، وقد كُتبَ فيها ما يشير إلى حسن أدائه في عمله ، وسموِّ سلوكه مع إخوانه ، وبذله وعطائه ، وقد يكون هذا المُعطاة له منحرفاً ، خان مهنتَه ، وضيع الأمانة ، ووشى وارتشى ، والحقيقة أنهُ سُرّت بخروجه حجرةُ عمله ، ومقعدُهُ ومكتبُهُ ، ولو أنطقها الله زمنَ تسلُّمه شهادة الشُّكر والزور لذمَّته بكل لفظ مشين .
وفي الختام لا يهدف هذا المقال إلى إلغاء تكريم الناس ، وشكرهم على صنائعهم ومعروفهم ، وما قدَّموه لمجتمعهم فقد قال الشاعر :
من يصنع الخيرَ لا يعدم جوازيه : لا يذهب العُرف بين الله والناس
، لكنَّه يطلب الرويّة ، وينشد الصدقَ والنور في منح هذا الشكر فلا يُوهب إلَّا لأهله حتى يكون لشهادات الشُّكر عندنا قيمة ، وتدلّ على صاحبها حقا وصدقاً، و يتنافس في تحصيلها المتنافسون .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.