القيروان.. 7 مصابين في حادث مرور    أمين عام الأمم المتحدة.. العالم يجب ألاّ يخشى ردود أفعال إسرائيل    أخبار مستقبل قابس...عزم على ايقاف نزيف النقاط    صفاقس شاطئ الشفار بالمحرس..موسم صيفي ناجح بين التنظيم والخدمات والأمان!    نفذته عصابة في ولاية اريانة ... هجوم بأسلحة بيضاء على مكتب لصرف العملة    استراحة «الويكاند»    28 ألف طالب يستفيدوا من وجبات، منح وسكن: شوف كل ما يوفره ديوان الشمال!    ميناء جرجيس يختتم موسمه الصيفي بآخر رحلة نحو مرسيليا... التفاصيل    توقّف مؤقت للخدمات    محرز الغنوشي:''الليلة القادمة عنوانها النسمات الشرقية المنعشة''    مع الشروق : العربدة الصهيونية تحت جناح الحماية الأمريكية    رئيس "الفيفا" يستقبل وفدا من الجامعة التونسية لكرة القدم    عاجل/ عقوبة ثقيلة ضد ماهر الكنزاري    هذا ما قرره القضاء في حق رجل الأعمال رضا شرف الدين    الاتحاد الدولي للنقل الجوي يؤكد استعداده لدعم تونس في تنفيذ مشاريعها ذات الصلة    بنزرت: مداهمة ورشة عشوائية لصنع "السلامي" وحجز كميات من اللحوم    عاجل/ المغرب تفرض التأشيرة على التونسيين.. وتكشف السبب    عفاف الهمامي: أكثر من 100 ألف شخص يعانون من الزهايمر بشكل مباشر في تونس    الترجي الجرجيسي ينتدب الظهير الأيمن جاسر العيفي والمدافع المحوري محمد سيسوكو    رابطة أبطال إفريقيا: الترجي يتجه إلى النيجر لمواجهة القوات المسلحة بغياب البلايلي    عاجل/ غزّة: جيش الاحتلال يهدّد باستخدام "قوة غير مسبوقة" ويدعو إلى إخلاء المدينة    قريبا: الأوكسجين المضغوط في سوسة ومدنين... كيف يساعد في حالات الاختناق والغوص والسكري؟ إليك ما يجب معرفته    البنك التونسي للتضامن يقر اجراءات جديدة لفائدة صغار مزارعي الحبوب    عائدات زيت الزيتون المصدّر تتراجع ب29،5 بالمائة إلى موفى أوت 2025    أريانة: عملية سطو مسلح على مكتب لصرف العملة ببرج الوزير    سطو على فرع بنكي ببرج الوزير اريانة    أكثر من 400 فنان عالمي يطالبون بإزالة أغانيهم من المنصات في إسرائيل    عاجل: تونس تنجو من كارثة جراد كادت تلتهم 20 ألف هكتار!    دعوة للترشح لصالون "سي فود إكسبو 2026" المبرمج من 21 إلى 23 أفريل 2026 ببرشلونة    بعد 20 عاماً.. رجل يستعيد بصره بعملية "زرع سن في العين"    توزر: حملة جهوية للتحسيس وتقصي سرطان القولون في عدد من المؤسسات الصحية    10 أسرار غريبة على ''العطسة'' ما كنتش تعرفهم!    عاجل- قريبا : تركيز اختصاص العلاج بالأوكسيجين المضغوط بولايتي مدنين وسوسة    عاجل/ مقتل أكثر من 75 مدنيا في قصف لمسجد بهذه المنطقة..    مهذّب الرميلي يشارك في السباق الرمضاني من خلال هذا العمل..    قريبا القمح والشعير يركبوا في ''train''؟ تعرف على خطة النقل الجديدة    شنية حكاية النظارات الذكية الجديدة الى تعمل بالذكاء الاصطناعي...؟    بلاغ مهم لمستعملي طريق المدخل الجنوبي للعاصمة – قسط 03    نقابة الصيدليات الخاصة تدعو الحكومة إلى تدخل عاجل لإنقاذ المنظومة    مجلس الأمن يصوّت اليوم على احتمال إعادة فرض العقوبات على إيران    أغنية محمد الجبالي "إلا وأنا معاكو" تثير عاصفة من ردود الأفعال بين التنويه والسخرية    البطولة العربية لكرة الطاولة - تونس تنهي مشاركتها بحصيلة 6 ميداليات منها ذهبيتان    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    حملة تلقيح مجانية للقطط والكلاب يوم الاحد المقبل بحديقة النافورة ببلدية الزهراء    المعهد الوطني للتراث يصدر العدد 28 من المجلة العلمية "افريقية"    افتتاح شهر السينما الوثائقية بالعرض ما قبل الأول لفيلم "خرافة / تصويرة"    جريمة مروعة/ رجل يقتل أطفاله الثلاثة ويطعن زوجته..ثم ينتحر..!    بطولة العالم للكرة الطائرة رجال الفلبين: تونس تواجه منتخب التشيك في هذا الموعد    شهداء وجرحى بينهم أطفال في قصف الاحتلال عدة مناطق في قطاع غزة..# خبر_عاجل    هذه الشركة تفتح مناظرة هامة لانتداب 60 عونا..#خبر_عاجل    في أحدث ظهور له: هكذا بدا الزعيم عادل إمام    تصدرت محركات البحث : من هي المخرجة العربية المعروفة التي ستحتفل بزفافها في السبعين؟    عاجل : شيرين عبد الوهاب تواجه أزمة جديدة    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    سعيد: "لم يعد مقبولا إدارة شؤون الدولة بردود الفعل وانتظار الأزمات للتحرّك"    خطبة الجمعة .. أخطار النميمة    وخالق الناس بخلق حسن    يا توانسة: آخر أيام الصيف قُربت.. تعرف على الموعد بالضبط!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في مفتتح سنة جديدة.. تونس إلى أين؟ : راشد الغنوشي
نشر في الفجر نيوز يوم 14 - 01 - 2010

يعدّ الوطن العربي في ميزان التنمية الشاملة وخصوصا التنمية السياسية المتقوّمة بالمقاييس الديمقراطية في مؤخرة الركب العالمي والثقب الأسود الذي ظل بمنأى عن أمواج الديمقراطية الجائلة في القارات الخمس، لا بسبب زهد ذاتي في الحرية أو عشق للأغلال، فلقد دفعت شعوبنا أثمانا عالية كبتا وتسجينا وقتلا وتشريدا للأحرار، لكنها لا تزال غير كافية لتعديل الميزان لصالح الحرية وحقوق الإنسان، أمام إصرار القوى الدولية على دعمها للمستبدين خدمة لمصالحها. وما جرى ويجري في فلسطين ومصر وغيرهما شاهد، فكيف الحال والمستقبل في تونس؟
1- لا يختلف حال تونس عن كثير من بلاد العرب من حيث الطبيعة الفردية للحكم، بتمركز السلطات في شخص الحاكم وإفراغ بقية المؤسسات من سلطاتها، تشريعا وقضاء وهيئات تنفيذية مركزية وجهوية وصحافة ومجتمعا مدنيا، مع حصانة دستورية للرئيس من كل مساءلة وتضخم للجهاز الأمني باعتباره العمود الفقري للسلطة ويدها الطولى، المطلقة في أعراض الناس وأموالهم وأرواحهم وفي مؤسسات الدولة والمجتمع كالنقابات والمساجد ودور الثقافة فضلا عن السياسة، حيث تطبّق بصرامة آليات الإقصاء والقمع والاحتواء للمخالفين.
أما الثروة العامة فقد تفاقمت أخبار خصخصتها والاستحواذ عليها، في غياب صحافة حرة وقضاء مستقل ومعارضة قوية، مما كان له انعكاساته السلبية على الأحوال المعيشية لعامة الناس، فتفاقم التداين والبطالة والشعور بالغبن، مضافة إلى انعكاسات الأزمة الاقتصادية الدولية في مستوى السياحة والتصدير والاستثمار الخارجي، وذلك رغم دعم الاتحاد الأوروبي وتغاضيه عما يرتكب من انتهاكات للحقوق والحريات ورفض للإيفاء بمتطلبات الإصلاح الديمقراطي المنصوص عليها في اتفاقية الشراكة التي تزعم أوروبا حرصها عليها، في ازدواجية مفضوحة.
2- مثلت أول انتخابات في "العهد الجديد" سنة 1989اختبارا لشعارات التغيير، حيث ووجه الحزب الحاكم (منذ 1956) لأول مرة بحركة شعبية شابة "حركة النهضة"، علّق عليها الناس آمالا عريضة في التغيير، بعد أن ملّوا حزبا أسن، وسلطة لا تفي بوعودها ، فلم تتردد في اللجوء إلى ما أدمنت، من التزييف لانتخابات، ساور الشعب الأمل في أن تحترم فيها إرادته، فأقبل عليها جادا.
ورغم أن السلطة لم تعترف للنهضة إلا بحوالي 20%، ومع أن ذلك دون الحقيقة بكثير، إلا أنه كاف ليجعلها زعيمة المعارضة، لكنه لم يكن كافيا حتى للاعتراف بها على غرار بقية الأحزاب، بل كان مبررا لشطبها من الخريطة السياسية جملة، وما يعنيه ذلك من اعتداء على مبادئ التعددية وتمهيد لإلغاء المعارضة بعد إدخالها إلى البرلمان عبر أسلوب الكوتا المهين، مقابل الصمت أو الولاء، والانخراط بكل مؤسسات الدولة في مخطط استئصالي غير مسبوق للنهضة (ثلاثين ألف سجينا وعشرات من القتلى والمعوقين وآلاف من المشردين)، وتحويل أكبر ملف سياسي في البلاد، ملف الحركة الإسلامية ، ملفا أمنيا لا سياسيا كما هي حقيقته منذ الإعلان عن "حركة الاتجاه الإسلامي" 1981 .
3-إن حشد أجهزة الأمن والإعلام والقضاء في مواجهة حركة النهضة لاستئصالها واعتماد سياسات الإقصاء والملاحقة إزاءها وإزاء غيرها من القوى السياسية كان من نتائجه إضعاف البلاد وهدر الطاقات وتفشي المظالم وثقافة العنف والانتقام، بديلا عن ثقافة الحوار والسماحة، بما أساء إلى سمعة الوطن ووضع على الرف مشروع الإصلاحات الموعودة.
4- غير أن القمع لئن أنهك جسم النهضة فإنه لم يستأصل فكرتها بل زادها رسوخا وانفتاحا وقد نجحت بفضل الله في إفشال خطة إستدراجها إلى مستنقع العنف، ردّا على العنف الرسمي، على غرار ما حصل في أوضاع مشابهة، وبذلك جنّب تعقّلها –حسب تعبير الأستاذ محمد المصمودي- البلاد كارثة أكبر، بل بادرت رغم عمق جراحاتها إلى القيام بتقويم جاد لتجربتها السياسية للوقوف على مواطن الخلل فيها، متحمّلة نصيبها من التبعة فيما حصل من تدهور مريع للآمال في التغيير الديمقراطي- بصرف النظر عن جدّيتها أصلا-، وذلك بأثر مشاركتها الواسعة في انتخابات 1989 المشاركة التي لم تحسن فيها الحركة تقدير حجم الاندفاعة الشعبية الواسعة في اتجاهها، رغبة في التغيير، بما هدد التوازنات القائمة التي لم يكن للحركة قصد للإخلال بها، حتى أنها قبلت مقترح الحزب الحاكم دخول كل الأحزاب في قائمة انتخابية واحدة تحدد فيها الأنصبة سلفا.
إلا أن المقترح رفض، وهكذا فتح الطريق أمام مصارعة انتخابية حرة، حملت مفاجآت لنا وللآخرين، هددت بانهيار التوازنات القائمة وفقدان الحزب الحاكم هيبته وهيمنته. ومن ثمة ازدادت الشكوك وتنامت عوامل التوتر وردود الأفعال، زادها تأجيجا من لهم مصلحة في قمع الحركة ومواجهتها .
5- بينما في وضع مشابه، في ثلاثينيات القرن الماضي، دعا رئيس وزراء مصر الإمام البنا وقد علم أنه يزمع الترشح للانتخابات، فأفهمه أن وضع البلاد وهي تحت الاحتلال لا يحتمل مشاركته، عارضا عليه بدائل أخرى، قبلها الإمام، بما أنقذ الموقف وحافظ على الاستقرار.
كما نقل عن الملك المغربي الراحل أنه بلغه أن إسلاميي"الجماعة الإسلامية"- وهم اليوم -العدالة والتنمية-زعماء المعارضة في البرلمان- يزمعون الإعلان عن تشكيل حزب إسلامي( سنة1992 )" فأرسل إليهم مستشاره أحمد بن سودة، فقال لهم ما معناه: أنتم ترون ما يحدث في الجزائر، وإذا رخصنا لكم بحزب الآن فليس ذلك من مصلحتنا ولا مصلحتكم، ولذا لا يمكننا الترخيص لكم حاليا، ويمكن النظر في الموضوع بعد إجراء الاستفتاء في الصحراء "(نقلا عن الدكتور عبد السلام البلاجي) فهموا الرسالة، وأجّلوا مبادرتهم، حتى حان حينها، فتجنب المغرب كارثة شبيهة بما حصل في تونس.
6- لقد ظل إسلاميو تونس باستمرار - بحكم اعتدالهم- باحثين عن تسوية مع الدولة –ولكنهم لم يجدوا منها استعدادا للحوار، ليندمجوا في المنتظم السياسي، بدل قمعهم، بما حرم بلدنا من ريادة وتوفير طاقات، التنمية أولى بها. والسؤال: إلى متى تستمر الدولة في اعتماد سياسة تقوم على تسليط التونسي على التونسي، يكيد له ويطارده داخل البلاد وخارجها، وتشحن القلوب والعقول بالأحقاد والثارات وتبدد الثروات في مراكمة وسائل القمع بدل وسائل النمو؟
7- لقد وضع البلاد مشروع فوقي للتحديث العنيف المغشوش على طريق التفكك والتوتر المنذرين بأشد الأخطار (الأول عربيا في نسب الطلاق والعزوبية والتدخين والانتحار وتدهور نسبة زيادة النسل، لدرجة استشراف شيخوخة للمجتمع، والاضطرار لإغلاق عديد المدارس بسبب انخفاض عدد الأطفال الملتحقين لأول مرة بالمدرسة بحوالي سبعين ألف طفلا عن السنة التي قبلها، زيادة عن التفاوت المجحف في التنمية بين الجهات والتفاوت المتزايد بين الفئات والحجم المخيف لنسب البطالة وما تفرزه من أمراض اجتماعية كالانحراف والتفكك الأسري وتنامي الأوبئة ومنها المخدرات الخ) إن الأمراض والآفات التي تهدد نسيج مجتمعاتنا بالتفتيت ليست قليلة والإجراءات والسياسات المتبعة بعيدة عن أن تحقق المناعة الاجتماعية والتنمية المتوازنة والرخاء والأمن الاجتماعي لقصور في أسسها ووجهتها ولاعتمادها أساليب الإكراه.
8- ومرة أخرى، بدل أن تجدد الانتخابات الشرعية وتطلق الأمل، لم تتحمل السلطة النقد اللاذع لانتخاباتها الشكلية التي أجرتها السنة المنصرمة، النقد الذي نهض به عدد من الصحفيين الشجعان في دوريات محلية كالموقف والطريق الجديد و"مواطنون" .. وفي الصحافة الدولية ومواقع الانترنت .. كما لم تتحمل انتقادات المناضلين الحقوقيين ومنظماتهم ، فلجأت إلى الاعتقال واستخدام القضاء لفرض الصمت، كما فعلت من قبل مع الدكتور الصادق شورو ..وسخرت"الإعلام" الدائر في فلكها لشن حملات ، ضربت المثل الأسفل في الإسفاف وهتك الأعراض.
9- ومن عادات دولة الاستقلال ركوبها صهوة كل موجة تنبعث في الغرب.. ركبت قطار الحداثة وحرية المرأة والاشتراكية والاقتصاد الحر والمجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنذ سنوات وهي تركب موجة الحرب على الإرهاب، ذريعة لتعزيز ترسانتها القانونية المحاصرة للحريات والانخراط فيما تسميه المجهود الدولي للحرب على الإرهاب، جلبا للمساعدات وشراء للصمت، فزجت بأفواج من شباب تونس في عمر الزهور، في المعتقلات وسلطت عليهم صنوفا من النكال والأحكام القاسية.
وهؤلاء يكادون يغدون نسيا منسيا في أدبيات بعض مدعي الحداثة المتواطئين مع سياسات الإكراه والقمع ، شأن محنة مرتديات الخمار، وكأنهم ليسوا بشرا، ومواطنين مظلومين.. لولا جهود حقوقيين شجعان تشبعوا بان حقوق وكرامة المواطن فوق كل اختلاف وهي أما أن تكون للجميع وإلا فلن تدوم لأحد.
10- غير أنه مع ما سلط على المجتمع من ضروب المحن وسياسات الخوف فقد توالت وتصاعدت مبادراته المعبرة عن حيويته النضالية وأصالته الدينية وعمق مواريثه الإصلاحية التحررية:
أ- لقد تصاعدت في المجتمع حالات التذمر الشعبي إزاء تفشي البطالة وأخبار التمييز او الاعتداء على المال العام ، فاستأنف مبادراته الاحتجاجية رفضا للاستغلال ومطالبة بالعدالة ، ومن ذلك ما حدث السنة الماضية في منطقة المناجم، إذ انتفضت مدينة الرديف، وتوجست السلطة شرا من هذا التحرك الجماعي خشية أن يغري مناطق أخرى مشابهة بتحرك مشابه واجهته السلطة بكل عنف فكان القتلى والجرحى والزج بالعشرات في غياهب السجون، وتولى القضاء الباقي.
ولا يمر يوم دون وقوع إضرابات في مؤسسات كبيرة وصغيرة متنوعة .. واللافت للنظر تعدد وقائع الإضراب عن الطعام، خصوصية تونسية دالة على مدنية هذا المجتمع.
ب- شهدت السنوات الأخيرة حركة حقوقية نشطة، داخل البلاد وخارجها لم تنتظر إذنا رسميا للقيام بواجبها في شجب ما يتعرض له المناضلون وحتى عامة المواطنين من ضروب انتهاك لحقوقهم.. متحملة ضروبا شتى من المحاصرة والملاحقة وحتى القمع .. الأمر الذي أحرج السلطة وزاد من تشنجها وردود أفعالها العنيفة وساهم في حملها على إطلاق سراح مساجين الانتفاضة المنجمية ونقابييها، كما أطلق من قبلهم سراح بقية سجناء حركة النهضة بعد قضاء ثماني عشرة سنة، باستثناء رئيسها السابق د. صادق شورو الذي أعادوه للسجن بعد ثلاثة أسابيع من خروجه عقابا له على إعلانه اعتزازه بالانتماء لحركة النهضة وتمسكه بحقه في التعبير عن راية.
ج_ كما شهدت البلاد تناميا للإعلام الحر وبخاصة عبر فضاء الإنترنت المتحرر من سيف الحجاج رغم كل الجهود والوسائل الأمنية والتقنية التي سخرتها السلطة لحجب المواقع وملاحقة المدونين وقطع البريد الالكتروني وقطع الانترنت. وكانت مبادرة مئات من الصحفيين الجسورين بتأسيس نقابة صحفية مستقلة -سارعت السلطة إلى الانقلاب عليها، كما فعلت بجمعية القضاة- جزء من حركة مجتمعية متنامية تتجه إلى رفع وصاية السلطة عن المجتمع.
د- أخذت الحركة الطلابية تنتعش، بسبيلها إلى استعادة دورها الطليعي في الحراك المجتمعي التحرري، وذلك رغم ما يتعرض له الطلبة من ملاحقة ومحاكمات لمنع استئناف مسيرتهم التاريخية عودا إلى جامعة محايثة للمجتمع حاملة لهمومه وليست منعزلة عنه، متمحورة حول ذاتها ولذّاتها.
ذ- كثيرا ما كانت الحركة السياسية تزداد ثقة وفاعلية بوجود وسند الحركة النقابية العمالية والطلابية ولما دجنت القيادة النقابية اتجهت السلطة إلى استهداف الحركة الإسلامية ثم الطلابية ثم استفردت ببقية الأطراف السياسية فمزقتها أو دجنتها حتى الذين تحالفوا معها في قمع الإسلاميين، ولأن هناك بوادر كثيرة تبشر بعودة الحركة المجتمعية، منتظر انتعاش الحركة السياسية لا سيما وقد نجحت جماعاتها الأساسية في حركة 18أ كتوبر/تشرين الأول في إدارة حوار مثمر بينها أثمر عددا من الوثائق المهمة تشكل أرضية مشتركة لمعالم أساسية لتصور مجتمعي يسعى إليه الجميع، بما نزع ذريعة التشتت، اتكأ عليها البعض، فشاغب لتسويغ الانعزالية والاستئصال .
لم يبق اليوم مسوغ أمام مكونات 18/10 للانتظار والتردد في ترجمة مشتركاتهم تحالفا معارضا يتسع لكل القوى المناهضة للانغلاق والداعية لانتقال ديمقراطي جدير به شعبنا ويفتح أمامه أفاقا أرحب ووسائل أنجع لمعالجة مشاكله وإصلاح أمره.
11- لايبدو بعيدا عن الصواب- باعتبارتونس جزء من وضع عربي قد تخلف- بسبب الدعم الدولي للدكتاتوريات- عن السير في موكب التحولات الديمقراطية ، أن أزمتها -مثله- تشتد ، بما قد يغريها أو يسوقها إلى تطبيع صريح مع الكيان الصهيوني خضوعا لضغوط الخارج وطمعا في العطاء وهربا من استحقاقات الواقع.
12- وفي ضوء الخبرات السابقة يكون التساؤل هل ستطور السلطة سياستها وتستجيب لمقتضيات العدل والصالح الوطني فتتعامل مع ملف حركة النهضة كملف سياسي كما تفعل عموم الدول العربية والإسلامية؟ أم ستستمر في إقصائها والتعاطي معها كمشكلة امنية وعبر جهاز الامن الذي لا يدخر أي جهد لتشديد قبضته الحديدية والتخويف من كل إنفتاح اعلامي او سياسي او حقوقي او نقابي؟ وهل تراها ستعمد إلى تخليق كيانات مصطنعة بديلة، كما فعلت مع تيارات أخرى؟
13-- انبعثت السنوات الاخيرة صحوة دينية واسعة اخترقت كل الفئات والجهات تؤكد تشبث التونسي بالبقاء ومواجهة أخطار تفكك مقومات شخصيته، وتشهد على عمقه الديني وفشل الحل الامني في تجفيف ينابيعه، فهل ستستمر السلطة في رفض التعامل السياسي مع هذا التيار المتعاظم معتصمة بمنطق أمني تجزيئي،عبر القمع والمحاكمات يستدرج الضحايا إلى القبول به، فيسلخون عشرات السنين من أعمارهم في المطالبة بالخروج من السجن المضيق ليجدوا أنفسهم وقد نقلوا إلى ما يشبه السجن الموسع، فيبدأ نضالهم لاستعادة الدرجة الاولى من الحقوق كالحق في الشغل والتنقل والعلاج، فضلا عن الحقوق العالية كالحق في الكلام –أعيد الشيخ الصادق شورو إلى السجن لأنه تجرأ على ممارسة هذا الحق.
وما إن أخذت السجون المضيقة تخلى من النهضويين، ليحل محلهم جيل آخر من الاسلاميين، حتى فتح مئات المهجرين، فبدأوا يطالبون بحق العودة، فلم يجدوا غير التعامل الامني وأساليب الابتزاز والمساومات والعودة المحفوفة بالمخاطر. وهكذا بدت خشية أن تتقزم مطالب النضال السياسي والحقوقي في مطالب حقوقية جزئية تتبدد فيها الاعمار بدل الاتجاه بإرادة جماعية لمعالجة القضية الكبرى قضية الحريات، فتتضاءل الاختلافات في مواجهة الهم الاعظم
14- إن فرص التسعينيات التي قدمت سندا للقمع ومنها تأزم المحيط التونسي والازدهار الغربي، يتسارع تراجعها بما يراكم أسباب الأزمة، لا ينجي منها، غير التعامل السياسي مع الملفات السياسية بديلا عن الحلول الامنية، وذلك بالإقدام على إصلاحات حقيقية تبدأ بإطلاق سراح المساجين واسترداد حقوقهم وعودة المهجرين وإطلاق حرية الصحافة والاحزاب والجمعيات بما يفسح المجال أمام حوار عام حول الخيارات الكبرى لا يقصي طرفا.. يفضي إلى إصلاحات دستورية وقانونية تنهي تمركز السلطات وتكرس الفصل بينها وتوازنها واستقلالها وتحترم المجتمع المدني وتدعم اللامركزية على كل المستويات الوطني والجهوي وتوقف او تحد في الاقل من النهب.
شيء من ذلك بدأ يحدث في المغرب وليبيا..، إذا تواصل, يمكن أن يمثل سابقة في الإصلاح الذاتي الذي يجنب البلاد الهزات والازمات. فهل ستشهد السنة الجديدة في بلادنا وأشباهها إصلاحات جادة لا مناص منها، سواء فرضتها تحركات شعبية تقودها جبهات وتحالفات ديمقراطية؟ أم مبادرات جادة من قبل أهل الحكم ؟ وهل العمل المعارض سيغادر مواقع التشرذم متجها إلى أصل الداء ؟ أم سينحبس في جزئيات مطلبية تتفنن في براعة الخطاب، بينما الإزمة تتفاقم، ومصائر البلاد لعقود قادمة تطبخ في مطابخ خارج البلاد وداخلها لنفاجأ بالمجهول لا قدر الله؟
المصدر: الجزيرة
الخميس 28/1/1431 ه - الموافق14/1/2010 م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.