أخطر ما في المثال الذي سقناه عن اختلاف بعض المفسرين للقرآن الكريم في موازنتهم بين كيد الشيطان وكيد المرأة هو أنه يكشف الحاجة إلى صياغة نظرية في التعامل مع الخطاب القرآني. من ذلك المثال، وغيره كثير، نتبين أن عمل المفسر اليوم خاصة يتطلب استحضار «كليات القرآن» المكونة لوحدته الأساسية التي تكشف رؤيته للعالم وموقفه من الحياة وتصوره للإنسان في فرديته ومجتمعيته. من التنبه إلى وحدة النص وإيلائها المكانة البارزة عند التصدي للعمل التفسيري يتحقق لدى المفسر أول شروط التجديد العلمي الذي تحتاجه الأمة لمواجهة تشظي الوعي المعيق عن الاهتداء لأنجع الحلول التي يتطلبها الواقع المتجدد والأحوال المتغيرة. ما يغلب على التفاسير القرآنية التي تصدر اليوم هو هذا التوجه التجزيئي الذي لا يزيد في نهاية الأمر عن إعادة صياغة التفاسير القديمة بلغة مستساغة أو عن الاعتناء بترجيح بعض أقوال المفسرين القدامى في مسائل لغوية وعقدية وتشريعية حتى وإن كان في ذلك مستفيدا من بعض الكشوفات العلمية أو التاريخية الجديدة. في هذه الحالات يظل المفسر مقتصرا جوهريا في تفكيره وفي النسق الذي يعتمده على الجانب الموروث، فهو لن يزيد عن كونه يتيح لتلك الأنساق الفكرية والبنى الثقافية إعادة إنتاج نفسها مع بعض التعديلات الشكلية التي تستعير من بعض المعارف الحديثة ما تحسّن به مظهرها. هو مسلك يحسب أنه يعمل على وحدة الأمة من خلال وحدة تراثها ووحدة معارفها، مُعرضا عن الارتقاء بالجهد التفسيري إلى الأفق المعرفي والمنهجي الذي يستدعيه الوضع الإسلامي. معالجة وحدة الأمة بهذا المنظور التجزيئي لن يزيدها إلا فُرقة وتفككا وهامشية في المسار الإنساني العام. ذلك ما عمل السيد محمد باقر الصدر (ت 1986 م) -أحد أشهر الذين تناولوا المسألة في العصر الحديث- على معالجته عند طرحه قضية التفسير الموضوعي وبيان صلتها الوثيقة بإشكالية المنهج التفسيري. من خلال مقاربته تتبدّى لنا معضلة المنهج التفسيري الذي يمثّل عائقا موضوعيا بين المفسّر في العصر الحديث وبين النص القرآني في وحدته وقدراته الفاعلة. حصيلة ذلك المنظور التجزيئي هي التوصل إلى كم هائل من المعارف والمدلولات القرآنية، لكن في حالة تناثر تحول دون الكشف عن أوجه الارتباط ودون التوصّل إلى التركيب العضوي لهذه المجاميع من الأفكار. بذلك تغدو الحاجة إلى نظرية في التفسير مطلبا معرفيًا وحضاريًا يعيد الاعتبار للتصور القرآني بما ينَسِّب أفهام معظم القدامى ومعالجاتهم وما أحاط بها من مناخ ثقافي واجتماعي خاص. هذا ما انتهى إليه المفكر الباكستاني فضل الرحمن (ت 1988) في مطلع كتابه «الإسلام وضرورة التحديث» حين أكد في دراسته عن التغير الاجتماعي وعلاقته بالنزعة العقلية الإسلامية أن الأمر موصول بأسلوب تفسير القرآن، وأن تعثرات الحاضر وعدم نجاعة الأدوات الفكرية المعتمدة إنما يرجع إلى الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن نفسه. يبقى بعد كل ما سلف جانب أخير يثيره موضوع الشيطان وطلبه الإنظار إلى يوم الدين. في هذا المجال تبدو أصالة الخطاب القرآني كاملة في معالجتها لمسألة الشر من منظور ثقافي مميز. في ظل ما يعرف اليوم بصراع الحضارات، وما ارتبط بهذه المقولة من تنظير وما نتج عنها من اختيارات، تتجاوز الشيطنة المجال الأنطولوجي الفكري والحقل الرمزي الديني لتصب في صميم بؤر التوتر والصدام في المستويين العالمي والإقليمي. ذلك ما يتيح للخطاب القرآني في أصالته ووحدته التي عالج بهما مسألة الشيطان معاصرة ونجاعة لافتتين للانتباه. ماذا نجد إذا عدنا إلى المشاهد التي يتحدث فيها إبليس في البناء القرآني؟ لقد سوّى الله تعالى آدم من طين من حمأ مسنون متغير، وحين صار الطين صلصالا -يَصِلُّ كالفخار إذا ضرب- نفخ فيه من روحه فإذا هو إنسان حي. عندها ظهر إبليس الذي كان من الجن ففسق عن أمر ربه وأبى أن يسجد استكبارًا على اعتبار أنه خير من آدم: «خلقتني من نار وخلقته من طين». اعتمدت الحجة الإبليسية في أنه لا يمكن لمن خُلق من عنصر النار التي هي أشرف من الطين أن يؤمر بالسجود إلى من هو دونه. نحن -دون شك- أمام نظرة جوهرانية (Essentialisme) للكائنات والحضارات. هي نظرة تؤبّد الاختلافات والفروق وتجعل منها حواجز عازلة لا يمكن تخطيها بأية حال. بإزاء هذه الجوهرانية وفي الجانب الآخر من اللوحة القرآنية يظهر الآدمي بأبرز خصوصياته الذاتية: قدرة على النمو من حالة بدئية إلى مرحلة أكثر تطورًا واستعدادا للوعي بأنه صاحب إرادة. الآدمي وإبليس في اللوحة التأسيسية هما المشروع واللامشروع، بهما تتحدد الصورة بأفقها المفتوح وقرينتها المعكوسة التي نزلت إلى درك الخيار النهائي. ما اعتنى به إبليس مما اعتبره ضعة في الآدمي ألهاه عما ينطوي عليه هذا الكائن من قدرات تتيح له إلى جانب الأخطاء الصعود عبر الحرية التي أعطاه إياها الخالق، والتي لم تؤد به إلى خيار نهائي، بل أتاحت له مجالًا مفتوحًا يمكن أن ينتهي بإعانة الله إلى المسلك الأفضل. الآدمي -على هذا هو الإمكان، بينما الشيطان هو الحتمية. في الإمكان انفتاح وحرية، والحرية صبغة إلهية أما الحتمية فطبع شيطاني، من رام الحرية كان متمثلًا لنفخة الروح فيه، ومن انصاع إلى الجبر عاذ بما هو شيطاني. في الأول، مع الإمكان، ارتقاء عن طريق وعي الذات المتناهية الحرة، أما في الثاني، مع الحتمية، فهي صورة للحرية البدئية التي تهبط إلى الجبرية حيث لا ترى في الآدمي إلا خصوصيات ثابتة ونهائية. تلك هي المواجهة القديمة المتجددة. ما يقال اليوم تشهيرًا بالثقافة الإسلامية وقيمها ورموزها وب «عدوانية» الشعوب الإسلامية واستعدادها «الفطري» للعنف والفوضى، كل هذا عود لإنتاج الحتمية الإبليسية التي لم تر في الآدمي إلا مخلوقًا بدائيًا وكائنًا معطوبًا لا يمكن تغيّره. لا تختلف عنصريات المركزيات الثقافية المعاصرة عن جوهرانية البؤس الإبليسي فهي في اعتقادها بتفوقها الذي لا يُطال لا ترى في الآخر إلا مجموعة من الثوابت والطبائع المتناقضة الحاجزة عن كل تغيير. نهاية المطاف تتحدد في علاقة مسلمي اليوم بالمشروع المؤسس للآدمي وبأصالة الخطاب القرآني في وحدته وفي أبعادها الثقافية والعقدية والتربوية. السؤال الأهم هو: كيف يمكن أن نتجاوز بؤس الجوهرانية الإبليسية والانخراط بإيجابية في سيرورة التاريخ وفق الشروط المعرفة البشرية وضمن ثقة لا تفتر في العناية العُلوية؟ ذلك هو التحدي الأكبر الذي يواجه المسلم المدرك للخط الفاصل بين شيطانيته وآدميته. العرب القطرية 2010-01-21