لا شكّ أنّ الإنحسار الخطير لدور الأحزاب السياسية في تأطير المواطنين على الصعيد الدولي في مقابل تنامي دور الجمعيات بمختلف مجالات تدخّلها بما في ذلك الجمعيات الرياضية يستدعي استئناف النظر في واقع هذه الأحزاب وفي أسباب تراجع دورها . إن تراجع هذا الدور لا يخفي الحاجة الملحة للأحزاب خاصة في الدول النامية التي تجد نفسها في هذا الظرف التاريخي أمام تحديات عديدة تستوجب توسيع دائرة الفعل السياسي ومن الأسئلة الملحة التي تفرض نفسها خاصّة في واقع مجتمعاتنا العلاقة بين المثقف والحزب السياسي وما يمكن أن تلعبه طبيعة هذه العلاقة في تراجع دور الأحزاب أو تطويره. وممّا لا شك فيه أن المثقف ورغم التغيير الذي طرأ على ملامحه بفعل تغيّر آليات الإنتاج الثقافي وتبدّل رهاناته فإنه لا يزال مرشّحا للقيام بأدوار تاريخية في رسم مستقبل الشعوب من خلال سعيه الدائم إلى إنتاج الأفكار الكفيلة بفتح آفاق جديدة أمام تجارب الشعوب. إن واقع الأحزاب السياسية يكشف عن علاقة مأزومة بينها وبين المثقف لعلّ أبرز ملامحها إشكالية الإندماج فالمثقف يظل ينظر بالكثير من الريبة والتوجّس إلى الأحزاب السياسية ودورها في المجتمع بل إن النفر القليل من المثقفين الذي يستهويه العمل الحزبي يجد نفسه أمام أمرين إمّا المغادرة السريعة أمام واقع صعوبة الإندماج أو البقاء في وضع قلق لا يرشّحه للعب دور مهمّ في الحياة الحزبية. إن أسباب هذه الظاهرة التاريخية متعدّدة ويمكن الإشارة إلى أهمّها في الحدود التي تسمح بها هذه الورقة . 1 – الثقافة السياسية: إن التصور الأداتي للدولة باعتبارها جهازا تمكّن حيازته من فرض خيارات ومصالح محدّدة جعل مسعى الوصول إلى السلطة هو الغالب على التفكير والفعل السياسيين وهو ما ساهم في اتّساع دائرة التكتيك والعمل اليومي المباشر على حساب دائرة الإستراتيجي وقد أنتج ذلك انحسارا هائلا في مستوى الإنتاج الفكري. إذ لا تزال الكثير من الأحزاب السياسية تعيد إنتاج أفكار تقليدية مجّها التكرار وتستند إلى تقليد "الكراس" الذي هو أقرب إلى التقليد المدرسي. لقد هيمنت "السياسة السياسوية" على السياسة بمفهومها العلمي وصارت الأحزاب تلاحق اليومي في محاولة لتحقيق مكاسب ضئيلة هنا وهناك وساهم ذلك في "تعميم" فكر تبسيطي لا يرصد التغيّرات الطارئة وما توجبه من فتح لمجارٍ جديدة أمام الفكر السياسي كما ساهم في تأبيد سلوك سياسي يشتغل على هوامش المناورة وكل ملحقاتها "الشيطانية" بعيدا عن كل سلوك منتج ينمّي خبرات جديدة على صعيد الممارسة. لقد أصبحت "المناورة العمياء" غير المستندة إلى أي مرجع أخلاقي أو سياسي المرتهنة للإستحقاق الشخصي بكل تجلياته ضربا من ضروب المهارة والحذق بل "الشطارة السياسية" . إن تعميم الخطاب التبسيطي ومن ثمّ السلوك المناور قد ساهم في خلق فجوة بين المؤسسة الحزبية والمثقف فأي دور لهذا المثقف الساعي إلى إنتاج الأفكار في واقع حزبي تلك سماته؟ 2 – التكلّس التنظيمي: تعاني الكثير من الأحزاب من حالة التكلّس التنظيمي وانحسار مساحات صنع القرار إذ تكاد "الاليعارشية الحزبية " تهيمن على كلّ شيء بما لا يفتح المجال واسعا أمام تطوير آليات النقاش ومن ثمّ تنمية فكر سياسي متجدّد مواكب للمتغيّرات المتسارعة. إن هذا التكلّس التنظيمي يعدّ عائقا أمام تنمية دور متزايد للمثقف في المؤسسة الحزبية فتنشأ عن ذلك حالة من "الإغتراب" تترجم عن نفسها في إحساس هذا المثقف بعدم القدرة على القيام بدور تاريخي في الحياة الحزبية يرتبط بمؤهلاته وقدراته. لم تستطع الأحزاب السياسية بفعل " إرثها المركزي" الثقيل وبفعل عجزها عن تطوير مواردها البشرية تطوير مقاربة تنظيمية تسمح بإنتاج أدوار متزايدة لمختلف أعضائها على تعدّد قدراتهم فنشأ عن ذلك إحساس متزايد بفقدان الدّور وهذا الإحساس يبدو أكثر بروزا لدى المثقف بحكم طبيعته الميالة إلى لعب دور ما ينتج "معنى" لإنخراطه في العمل السياسي . 3 – تعالي المثقف وصعوبة الإنتاج: إذا كانت البيئة الحزبية كما وضحنا سابقا بيئة "طاردة" غير جاذبة في علاقتها بالمثقف فإن هذا المثقف يتحمّل قسطا من المسؤولية في عسر عملية الإندماج في الحياة الحزبية. إن الكثير من المثقفين يكتفون بالتأمّل المجرّد في قضايا لا علاقة لها بالأوضاع التاريخية لمجتمعاتهم وهو ما يساهم في تعميق الفجوة بينهم وبين الإنخراط في العمل العام. إن مجتمعاتنا وبحكم أوضاعها التاريخية الراهنة هي في أمسّ الحاجة إلى نمط من المثقفين يميل إلى إنتاج ما يسمّى "الفكر الوظيفي" أي ذلك الفكر الذي يرتبط بالإشكاليات الحقيقية المثارة في مجتمع محدّد لأن هذا الفكر ودون إهمال الدور الذي تلعبه الأنماط الأخرى من التفكير هو وحده الكفيل بقيادة المجتمعات نحو تجاوز مآزقها الراهنة أو تطوير تجربتها الخاصة. وبما أن النسبة الكبيرة من المثقفين في مجتمعاتنا لا تزال تميل إلى التعالي ونبذ هذا النمط من الفكر الوظيفي المرتبط بالمعطى السوسيولوجي التاريخي فإن إشكالية إندماج المثقف في الحياة الحزبية ستظل من أكثر الإشكاليات تعقيدا. إن هذه الأسباب الموضوعية والذاتية لعسر اندماج المثقف في المؤسسة الحزبية ستظل عاملا رئيسا من عوامل انحسار دور الأحزاب لأنها ستحرمها من طاقات قادرة على الإنتاج المتجدّد للأفكار وعلى فتح مسارات واعدة أمام العمل الحزبي الذي لا يزال عملا مهمّا ومطلوبا في واقع مجتمعاتنا. وبالنظر إلى واقع تجربتنا الحزبية في تونس فإن الكثير من الأفكار الشائعة حول دور الأحزاب أضحت في حاجة ماسّة إلى إعادة النظر والمراجعة فهل أن الدور الوحيد الموكول لهذه الأحزاب من أجل تطوير التجربة السياسية وطنيا هو المشاركة في الإستحقاقات الإنتخابية أم أن هناك أدوارا أخرى عليها القيام بها؟ لا شك أن المشاركة في الإستحقاقات الإنتخابية ستظل ثابتا من الثوابت حتى تقوم هذه الأحزاب بدورها في تطوير التجربة ولكن هذه المشاركة لا تكفي لوحدها حتى تستطيع القيام بدور الشريك الفاعل . إن الواجب الوطني يدعوها إلى القيام بدورها في تنمية فكر سياسي عصري حداثي بل إن هذه الأحزاب مدعوّة في سياق مرحلة التحوّل الديمقراطي التي تمرّ بها بلادنا إلى المساهمة في إنتاج المقاربات الكفيلة بتسريع وتائر هذا التحول مع تخفيض كلفته إلى الحدود القصوى . إن الأحزاب التي تتقاعس عن القيام بمثل هذا الدّور إنّما تتقاعس عن القيام بواجب أكيد نحو مجتمعها وما تتطلبه ظروفه الراهنة ويخطئ من يظنّ أن المشاركة السياسية هي مجرّد تنفيذ لخطط عملية ذات محتوى تقني بل إنّ المشاركة السياسية تستوجب أيضا المساهمة في إنتاج الأفكار الكفيلة بفتح آفاق واعدة أمام التجربة المشتركة والقادرة على رسم الآمال العريضة أمام عموم الشعب. إن هذا الدور التاريخي المطلوب من الأحزاب النهوض به يتطلب إزالة المعوّقات أمام إندماج سائر الشرائح في الحياة السياسية وبوجه خاص شريحة المثقفين حتى يتسنى لها لعب دورها التاريخي وحتى يتسنى للمجتمع الإستفادة من كافة طاقاته من أجل تطوير تجربته. صحيفة الوطن التونسية 05.02.2010 المصدر بريد الفجرنيوز