«كلام جرائد» عبارة شائعة نسمعها تتردد هنا أو هناك، وهي تتضمن موقفا سلبيا من المهنة الصحافية، ومن الصحافيين أيضا. فالأكاديميون عندما يريدون الطعن في بحثٍ ما، يشيرون إليه بأنه قد كتب بلغة صحافية. وأذكر أني كنت في نقاش مع أحد الكتاب الإسلاميين المعروفين، وعندما اختلفنا في بعض المسائل الجوهرية، التفت لشخص ثالث معنا ليؤكد على أن هناك قضايا خطيرة لا يمكن التعامل معها بأسلوب صحافي. أي كأنه اعتبر أن الصحافي غير مؤهل بحكم تكوينه ليكون له رأي في القضايا الدينية الشائكة. والسياسيون عندما يرغبون في التهرب من تحمل مسؤولية خبر ما يستعملون عبارة «مصادر صحافية غير موثوقة». حتى القراء العاديون للصحف تراهم في تعاليقهم اليومية قد تصدر عنهم عبارات توحي بالشك والريبة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن السياسات الرسمية الحكومات. إذ كلما تضخم خطاب الدعاية الرسمية في وسائل الإعلام، إلا وازدادت معه نسبة الحذر وعدم التصديق لدى الجمهور المتلقي. وفي مقابل ذلك، كلما انزلق الخطاب المعارض في المزايدة وتضخيم أخطاء أنظمة الحكم، إلا وصاحب ذلك شعور بالحيرة لدى القراء، الذين لا يملكون المعطيات الدقيقة عن أوضاع بلدانهم، لكنهم لا يرتاحون كثيرا للعروض السوداء التي لا تظهر من الصورة إلا أسوأها. الواضح من خلال الأمثلة السابقة أن الخطاب الصحافي في العالم العربي، وبعد مرور حوالي قرنين من صدور أول صحيفة عربية (جريدة الوقائع المصرية التي أصدرها محمد علي باشا سنة 1828)، لا يزال يفتقر للتأسيس، ولم يتحول حتى الآن إلى مصدر شرعي من مصادر المعرفة التي يقع الاطمئنان لها من قبل الجميع. ولعل ذلك قد يفسر قلة انخراط الصحافيين في الجدل الدائر حول أمهات القضايا الفكرية والدينية والسياسية والحقوقية. فباستثناء عدد قليل من الأسماء الإعلامية التي فرضت وجودها خلال ال 20 سنة الماضية، تكتفي الأغلبية من الإعلاميين بالمتابعة أو الاقتصار على إثارة النقاش هنا أو هناك. يجب الإقرار بأن عددا واسعا من الصحافيين المحترفين، غالبا ما يقنعون بالتكوين التقني أو الخبرات العملية التي يكتسبونها من خلال مباشرة العمل في عدد من المؤسسات الإعلامية. ولا شك أن هذا التكوين وتلك الخبرات التقنية ضرورية لكي ينجح الصحافي في عمله، ولكنه إذا ما اكتفى بذلك، فسيحكم على نفسه بالبقاء داخل مربع ضيق مهما اتسعت مساحته. على الصحافي ألا يتردد في اقتحام ميادين أخرى من المعرفة التي ستساعده بالتأكيد على تطوير قدراته في العرض والإقناع والتحليل وتوجيه الرأي العام بما في ذلك التأثير في الأوساط الأكاديمية والسياسية والثقافية. بل لعل مهنة الصحافة من أكثر المهن التي توفر لأصحابها مجالات واسعة للاطلاع، وبناء العلاقات مع مختلف الأوساط، وهو ما يسمح له بتأسيس ثقافة متينة، تنقله في نهاية المطاف من مستوى المستهلك أو المكلف بإلقاء الأسئلة إلى مستوى الإضافة والمشاركة في إنتاج المعرفة. والتجارب الغربية تمدنا بكثير من الأمثلة في هذا المجال. بل حتى في العالم العربي، هناك صحافيون بلغوا هذه المرتبة، وأصبحت كتاباتهم تعتمد كوثائق مرجعية، من أمثال حسنين هيكل، الذي ساعدته ظروفه المهنية والسياسية على أن يكون قريبا من أصحاب القرار في ظل النظام الناصري، لكنه ثقف نفسه ووسع دائرة تكوينه، مما أهله لكي يحافظ على مكانته، حتى بعد أن ابتعد أو أبعد عن الدوائر الرسمية. عندما نعود إلى بواكير الحراك الصحافي في العالم العربي، نجد أن العديد من كبار المثقفين والمتخصصين في العلوم الإسلامية وكذلك سياسيون مرموقون، كانوا في الأصل صحافيين، أو أنهم انخرطوا في العمل الصحافي عندما أدركوا أهمية الإعلام في تبليغ أفكارهم، والتعريف بإنتاجهم، والتأثير في مواطنيهم. ويكفي أن نشير إلى أشخاص من الحجم الثقيل مثل الشيخ محمد عبده عندما أصدر مع رفيقه جمال الدين الأفغاني مجلة «العروة الوثقى» من باريس، أو عبدالرحمن الكواكبي الذي أصدر أول صحيفة أهلية سورية في مدينة حلب عام 1877، أو الزعيم الحبيب بورقيبة الذي أسس صحيفة «العمل» بعد عودته من فرنسا وخلافه مع قيادة الحزب الدستوري القديم، وتحمل مسؤولية رئاسة تحريرها، وعن طريقها نجح في بلورة استراتيجية الحزب الدستوري الجديد، وفرض نفسه كقائد سياسي غير قابل للمنافسة. كذلك الشأن بالنسبة لعلال الفاسي الفقيه والزعيم السياسي المغربي الذي أسس تياره منذ عام 1937 صحيفة (الأطلس) الناطقة باللغة العربية. كانت الصحافة بمثابة الرافعة للحركات الوطنية والتيارات الثقافية المنقسمة بين المحافظة والتجديد، لكن بعد قيام الدولة الوطنية صادرت حريات التعبير والتنظيم، واحتكرت وسائل الإعلام، مما حول العمل الصحافي إلى مجرد وظيفة لخدمة القائد الأوحد والحزب الحاكم، مما جرد النشاط الإعلامي من قدراته الذاتية، وخلق الفجوة بين المثقفين الأحرار وبين المؤسسات الصحافية، حيث لا مجال للكتابة إلا لمثقفي الأنظمة أو المهادنين لها. بل وخلق ذلك بيئة رديئة أنتجت في بعض الحالات أقلاما لا تحسن سوى الإساءة، ولا تنتج إلا البضاعة الفاسدة. إن الصحافيين العرب مدعوون إلى القيام بانتفاضة معرفية ومهنية، تجعل من بعضهم على الأقل قادة رأي فاعلين، يشاركون مع غيرهم من رموز الطبقة الوسطى في نحت ثقافة جديدة وجريئة، وبناء نظم سياسية ديمقراطية. *كاتب وصحافي تونسي العرب القطرية 2010-02-15