جاءتْ الاعتقالاتُ الأخيرة التي شنتها الدولة المصرية ضد حركة الإخوان المسلمين لتزيد الصورة قتامةً وتؤكد الانطباع السائد أن الالتقاء بين الحركة الإسلامية والدولة المصرية هو أمر دونه خرط القتاد!!!! فعلى إثر انتخاب المرشد العام الجديد للجماعة د.محمد بديع شنَّت أجهزة الأمن المصرية حملةَ اعتقالات واسعة في صفوف الجماعة اتَّسمت بنوعيتها، والتي طالت أربعةً من مكتب الإرشاد منهم النائب الأول للمرشد العام ود.عصام العريان مسئول القسم السياسي في الجماعة وآخرون وصل عددهم في اليوم الأول للحملة إلى أربعة عشر معتقلًا تم تقديمُهم جميعًا إلى نيابة أمن الدولة المصرية. ردود فعل الجماعة وفي ردّ فعل على الحملة اعتبر عبد المنعم عبد المقصود محامي الجماعة لموقع "إخوان أون لاين" أنها المرة الأولى التي يُستهدف فيها أربعة من أعضاء مكتب الإرشاد في حملة واحدة، مشيرًا إلى أن هدف تلك الحملات على طول الخط هو الحدّ من حركة الجماعة وتقويض نشاطها وتواصلها مع أفراد المجتمع. وعن ردّ فعل الجماعة على الاعتقالات قال الدكتور محمد مرسي: "ردّ فعلنا هو المزيد من العمل المتوازن والعمل الشعبي واستمرار حركة الجماعة، وذلك دون تهور أو تراجع" مضيفًا: "إن عمل الإخوان سلمي، ويهدف إلى الحفاظ على المجتمع، والنظام يخيّل لنفسه أننا خطر، إلا أن الإخوان لا يمثلون أي خطر على النظام أو الوطن، ولكن نمارس حقنا الدستوري في العمل العام". وقد توالت ردود الأفعال على عملية الاعتقالات.. فمن جانبه أرجع الدكتور عمرو الشوبكي -الخبير في شئون الجماعات الإسلامية- أن تصريحات الجماعة بخوض انتخابات مجلسي الشعب والشورى القادمة، إلى جانب تصريحات الدكتور عصام العريان حول توسيع جبهة التحالف مع المعارضة كانت السبب في توجيه تلك الضربة التي وصفها الشوبكي ب "الضربة التقليدية الوقائية" وإن جاءت مبكرًا بعض الوقت، نافيًا أن تكون الانتخابات الداخلية للإخوان هي السبب الرئيسي في تلك الحملة. وقال الشوبكي: إن تصريحات الدكتور محمد بديع -المرشد الجديد للجماعة-كانت تشير للتهدئة. إلا أن هذا الاتجاه لم يشفعْ للجماعة، وأُلقي القبض على أربعة عشر من كبار قيادات الجماعة. وأكد الشوبكي أن الأمر يتطلب من قيادات الجماعة تحديد موقفها وأن تكون تيارًا سياسيًّا يمارس السياسية دون ارتباط بتنظيم الجماعة وتكوين برنامج سياسي مدني حقيقي. من جانبه اعتبر الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية في تصريح له لموقع " إيلاف": "إن الرسالة من وراء الاعتقالات الأمنية لقيادات الجماعة واضحة ومتوقعة من جانب النظام الذي يريد توصيل رسالة إلى الإخوان مضمونها أن التنسيق مع القوى السياسية خط أحمر وغير مسموح به". وعلى الطرف المقابل يحمل الأستاذ محمود سلطان ما أسماه "الإعلام الإخواني" مسئولية ما حدث معتبرًا أن العلاقة بين النظام والإخوان لم تصلْ إلى مرحلة السوداوية التي يستحيل معها الحوار فيقول في مقاله اليومي في جريدة "المصريون": "هل العلاقة بين النظام والإخوان سوداوية على نحو يحملنا على الاعتقاد باستحالة الحوار والتنسيق بينهما؟! لا شك في أن جزءًا من "الغيبوبة" التي أصابت القدرة على "الإحساس" بموضوعية الواقع، يتحمل مسئوليتها "الإعلام الإخواني" في صورته الأكثر تخلفًا وغباءًا وعدوانية.. والذي شطر مصر إلى فسطاطين: إما مع الإخوان وإما مع الصهاينة والأمريكان". بهذا المنطق "البوشي" ورّط الإعلام الإخواني الجماعة في مأزق الانغلاق على الذات والقطيعة مع المجتمع السياسي الذي "يختلف" مع الإخوان في أمور و"يتفق" معها في أمور أخرى.. ويدخل معها أحيانًا كثيرة في سجال وتجاذبات يتعاطى معها الإعلام الإخواني باعتبارها "مؤامرةً" على الإسلام وتنفيذًا لأجندة الصهاينة". واعتبر سلطان أن القيادة السياسية للإخوان تساهلت في التعامل مع هذا المنطق الإعلامي الإخواني: "ربما لانشغالها بما تعتقد بأن له الأولوية عنه، أو ربما لتصورها بأن ضعف إعلامها يحميه من التصيد الأمني له ولها.. غيرَ مدركةٍ بأن هذا الأداء العدواني لإعلامها، ورطها في صدام حقيقي مع قوى وطنية ورسمية كانت في غِنًى عنه، ووسط بيئة علمانية وأمنية شديدة التطرف في مواقفها من الجماعة. والأمثلة على ذلك كثيرة كان أكثرها "غباوةً" اتهامه للأستاذ مكرم محمد أحمد بأنه تلقى تمويلًا إسرائيليًّا لحملته الانتخابية الأخيرة على مقعد نقيب الصحفيين!". تحديات مشتركة على الرغم من نقاط الاختلاف التي قد تبدو للوهلة الأولى بين الطرفين إلا أن التحديات التي تواجه الدولةَ المصرية تحتِّم على الطرفين البحث عن نقاط للالتقاء، مما يتيح العمل المشترك من أجل مواجهة التحديات المتنامية والتي نذكر منها: - تنامي التحرش الطائفي، والذي يقوده غلاة الأقباط والعلمانيين (من المسلمين) في الداخل إضافةً إلى أقباط المهجر في الخارج، وقد استطاع هذا اللوبي المدعوم بالمال ووسائل الإعلام أن يجد له موطئ قدم على أرض الأحداث، ويومًا بعد الآخر تتسع مطالبُه، والتي تخطَّت المطالب القبطية المعتادة إلى محاولة تحجيم الكثرة الكاثرة من المسلمين، والتي تشكل حوالي 96% من إجمالي عدد سكان مصر، وبِتنا نسمع -دون خجلٍ أو حياء- مطالب تتحدث عن المادة الثانية من الدستور المصري والتي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، أو الحديث عن هوية الدولة المصرية ومحاولة طمس الهوية الإسلامية لها، والحديث عن الأذان وحصص التربية الدينية والحجاب.. إلى غير ذلك من المطالب التي كان يعدّ مجرد التفكير فيها خطًّا أحمر لا يستطيع أحد الاقتراب منه، ومثل هذه التحركات قد يستهين بها البعض اليوم، ولكن معظم النار من مستصغر الشرر. - الخطر الإسرائيلي المتنامي، والذي يمثل في مجمله أكبر تحدٍّ تواجهه المنطقة، والذي يسعى وفق أجندة موضوعة إلى الانتهاء من تهويد القدس بل الدولة بأكملها وترحيل ما تبقى فيها من عرب فلسطين، والسعي الدءوب لهدم المسجد الأقصى والذء تظهر إرهاصاتُه جليًّة في الحفريات التي تتم على الدوام أسفل المسجد، واستباحته المتكررة من قِبل المتطرفين اليهود. - سعي النخب العلمانية المتطرفة إلى تمييع الهوية الإسلامية لصالح أجندات عديدة تعمل في خدمتها وتظهر تلك الحملة جليَّةً في الهجوم الدائم على الشريعة الإسلامية والحجاب وكل ما تفوح منه رائحة الارتباط بالدين، ولا ننسى هنا حملة هذا اللوبي على حسن شحاتة مدرب المنتخب المصري لكرة القدم، والذي صرَّح بأن الالتزام بالدين والأخلاق هو أهم معاييره لاختيار اللاعبين.. هذه النُّخَب صارت عبئًا على مقتضيات الأمن القومي ذاته بتحالفاتها المشبوهة وتعاونها الخارجي الذي لا يخفى على أحد. هذه التحديات وغيرها تشكِّل تحديًا مشتركًا للدولة المصرية والحركة الإسلامية تستوجب منهم أن يطوُوا صفحة الماضي حمايةً لثوابت لا يختلف عليها اثنان. عقبات على طريق اللقاء أما العقبة الأولى: فهي عقبة المواجهات المسلحة، ولقد تحملت الجماعة الإسلامية المسئولية الكبرى في التنظير والتنفيذ لهذه المواجهات، كما أنها تحمَّلَت المسئولية وحدها من أجل إنهائها فكرًا وسلوكًا، وبالرغم من أن جهدَهَا لم يأخذ حقه الكافي إلى الآن ولكنه استطاع أن يفتح الباب واسعًا أمام حركة واسعة من المراجعات المماثلة في مصر والعالم العربي. ووجه الأنظار إلى إمكانية مراجعة النفس دون القضاء عليها وسحقِها أو الانزواء بها، بل وساهمت حركة المراجعات إلى انحسار العنف، اللهم بعض النتوءات التي تظهر هنا أو هناك ولا يمثِّل ظهورها عودة بالمجتمع إلى عنف التسعينيات. وتأتى العقبة الثانية: والمتمثلة في المواجهات السياسية، والتي مثَّلت –كما قلت من قبلُ– حسمًا من رصيد الإخوان المسلمين الدعوي والتربوي، وساهمت المواجهات السياسية المحتدمة في تحويل جماعة الإخوان من حركة دعوية إلى ما يشبه الحزب السياسي، وللأسف فقد توقفت حركتها في منتصف الطريق، فلا هي استطاعت تكوين حزبها الذي ظلَّت عقودًا تناضل من أجله، ولا هي قامت بمهمتها الدعوية والإصلاحية وانسحبت تحت وطأة المواجهات المتتالية إلى فضاء التصريحات والفضائيات ومعترك السياسة ودروبها، وتركت المجتمع المصري نهبًا للأمراض الأخلاقية، فوصل إلى حالة من التردِّي غير مسبوقة ولم يلتفت إليه أحد. فالجميع مشغولٌ بحساب المقاعد التي من المتوقع أن تحصل عليها الجماعة في الانتخابات البرلمانية القادمة!! إضافةً إلى الجَرْد الختامي لحساب انتخابات نقابة المحامين ومن الفائز فيها والخاسر!! وملف التوريث.. إلخ!! في يونيو 2007 أطلق د. سليم العوا دعوة هامة –في حوار له مع إسلام أون لاين-لم تجدْ لها آذانًا صاغيةً، وتمَّ تجاهلُها عمدًا وقصدًا، واليوم أُعيد بعضًا منها، يقول فيها: "أنا أدعو جماعة الإخوان المسلمين إلى إعلان التوقف عن مباشرة الحقوق السياسية ترشيحًا وانتخابًا وتصويتًا، والتحول تمامًا عن العمل السياسي فيما يتعلق بممارسة السلطة أو الحصول على جزء من السلطة؛ إلى ممارسة العمل التوعوي والترشيدي، عن طريق إحياء روح النهضة في الجماهير، وإحياء روح مقاومة الظلم والاستبداد. وليست مقاومةُ الظلم والاستبداد مقصورةً على أن ترشِّح نفسك لانتخابات مجلس الشعب ومجلس الشورى.. أنت إذا ربيت الناس، واشتغلت في محو الأمية، وفي تنظيف الشوارع وفي الرعاية الصحية، وفي الرعاية التربوية.. أنت بذلك تحيي الأمة من جديد!". ويقول أيضًا: ثم إن الجماعة لا تستفيد شيئًا من العمل السياسي، فالإخوان لهم الآن 88 نائبًا في البرلمان، ماذا فعلنا بهم نحن كشعب مسلم؟! لم نستطعْ أن نحقق شيئًا، حتى إن اثنين منهم رفعت عنهم الحصانة مؤخرًا.. فهذا العمل السياسي قد أثبت في رأيي عدم جدواه، وتركت الجماعة في مقابل هذا العمل السياسي معظم نشاطاتها التربوية الأخرى، التي تنشئ الناس نشأة إسلامية صحيحة". ونادى الرجل يومها بأعلى صوته قائلًا: "دعنا نجرِّب أن يخرج الصوت الإسلامي من قُمْقم العمل السياسي إلى فضاء العمل الثقافي والاجتماعي والتربوي، وسنرى ماذا ستكون النتيجة.. قد أكون مخطئًا.. لكن هذه دعوتي". أما العقبة الثالثة: فهي إصرار الحركة الإسلامية على حشر نفسها في الأطر التنظيمية الصارمة، والأشكال المتوارثة للعمل الإسلامي، ولم تتجشم عناء البحث عن صيغ جديدة لوجودها تكون أكثر قبولًا من الدولة، وتوافقًا مع الظروف الراهنة. فالدولة حسمت أمرَهَا ولم يعُدْ لديها سبيل لتواجد الحركة الإسلامية بشكلِهَا التنظيمى القديم الموازي لكيان الدولة والمناوئ له، وإصرار الحركة الإسلامية على أُطُرِها التنظيمية التقليدية لن يزيدها إلا رهَقًا، خاصة والسلطة الحاكمة تشعر أن هذه الكيانات تتحرك لإزالتها والقفز عليها. فهل من الممكن أن تستدرك الحركةُ أخطاءَها؟ وهل من الممكن أن تعيد الدولة المصرية سياساتها تجاه الحركة الإسلامية؟ وبجملة القول.. هل من أملٍ لِلِقاءٍ يُرجَى بين الطرفين؟!!