لن أكتب هذه المرة عن قرار لجنة المتابعة العربية بالموافقة على استئناف المفاوضات العبثية، وإن بصورة غير مباشرة؛ لأن هذا الموقف كان متوقعاً. فطالما أن العرب أسقطوا جميع الخيارات والبدائل باستثناء خيار المفاوضات كأسلوب وحيد، لن يكون بمقدورهم سوى أن يستأنفوا المفاوضات بعد كل مرة تقف فيها، لأسباب تتعلق غالباً بعدم استقرار الحكومة الإسرائيلية وذهاب إسرائيل لانتخابات مبكرة. نتمنى لمرة واحدة أن يتم وقف المفاوضات؛ احتجاجاً على مجزرة أو عدوان أو على التعنت الإسرائيلي، بحيث لا تستأنف إلاّ إذا التزمت إسرائيل بمرجعية واضحة ملزمة أساسها إنهاء الاحتلال ووقف جميع الخطوات التي يقوم بها الاحتلال لخلق أمر واقع يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن عملياً. استئناف المفاوضات وفقاً للشروط الإسرائيلية يعني أن العرب مغلوبون على أمرهم، وأنها محكومة للفشل وأن ما تعرضه إسرائيل على الفلسطينيين (خصوصاً في ظل حكومة نتنياهو) أقل بكثير مما يمكن أن يقبله أكثر الفلسطينيين اعتدالاً، يكفي تعليقاً على هذا القرار أن نذكر بالمثل الشعبي "إللي بجرب المجرب عقله مخرب". في هذا المقال سأكتب عن التعذيب في المعتقلات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ما دفعني إلى ذلك هو البرنامج المميز "لجنة تقصي الحقائق" الذي بثته (بي.بي.سي عربي) وكان مخصصاً في الأسبوع الماضي للتعذيب في المعتقلات الفلسطينية. آخر ما كان يتوقعه الواحد فينا أن يتعرض الفلسطيني للاعتقال ومن ثم للتعذيب على يد فلسطيني آخر، لأن الفلسطينيين جميعاً ضحايا الاحتلال، وتعرض حوالى مليون منهم للاعتقال منذ الاحتلال الإسرائيلي في العام 1967، وعانى الآلاف منهم من التعذيب بكل أنواعه. وبرزت هذه الظاهرة بعد توقيع اتفاق (أوسلو) وما أحدثه من خلاف حاد، خصوصاً بعد تأسيس السلطة، وتفاقمت كثيراً بعد الانقسام السياسي والجغرافي في حزيران من العام 2007. المأساة تظهر بكل بشاعتها، عندما نعرف أن بعض الذين يمارسون التعذيب بحق أبناء شعبهم هم أنفسهم كانوا عرضة للاعتقال والتعذيب على أيدي سلطات الاحتلال. ظاهرة الاعتقال لا تنحصر في حالات فردية، بل لقد اعتقل الآلاف منذ الانقسام السياسي والجغرافي، غالبيتهم على خلفية سياسية تمس غالباً انتماءهم ل"فتح" أو "حماس"، وتعرض المئات منهم إلى التعذيب، وبعضهم إلى حد الموت. كما شهدنا حالات إطلاق نار في غزة على "ركب" عدد كبير من الفلسطينيين. إن السبب الأساسي وراء هذه الظاهرة هو الانقسام وسعي كل طرف للدفاع عن سلطته وتعزيزها ومحاربة كل ما يعتقد أنه يهددها، وذلك رغم أن التهديد الأساسي للفلسطينيين، "وسلطاتهم" المتعددة المتحاربة، هو الاحتلال الذي لا يميز بين فلسطيني وآخر، بين "فتح" و"حماس"، بين معتدل ومتطرف. فالفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، أو الذي خارج فلسطين أو الذي رفع أو مستعد لرفع الراية البيضاء تعايشاً مع أو استسلاماً للاحتلال. من حيث المبدأ، يفترض أن يكون الاعتقال السياسي ممنوعاً ومحرماً، فهو جريمة يعاقب عليها القانون مثله مثل التعذيب. فالدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته ومصالح الإنسان هو الواجب الأولي لأية سلطة وطنية وعصرية وديمقراطية، وهنا لا ينفع التلطي وراء أن المعتقلين اعتقلوا على خلفية جنائية تتعلق بتهريب المال أو السلاح أو تهديد الأمن، لأن مثل هذه التهم تلقى جزافاً دون دلائل بحيث يمكن أن يتعرض لها أي إنسان. كما من غير المقبول تحميل المسؤولية عن التعذيب إلى التجاوزات الفردية، لان من يتجاوز القانون يجب أن يحاسب حساباً عسيراً يتناسب مع الجريمة التي ارتكبها. المعيار الأساسي الذي يجب أن يحكم، والقاعدة الأساسية التي يجب أن تتبع هي أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لا العكس، بحيث يتم التعامل مع الإنسان كمدان حتى تثبت براءته. إن الدليل الدامغ على كذب ادعاءات "السلطتين" في الضفة الغربية وقطاع غزة حول عدم وجود معتقلين سياسيين، أن الغالبية الساحقة من المعتقلين الذين أطلق سراحهم أو لا يزالون رهن الاعتقال (والذي بلغ عددهم الآلاف)، لم توجه إليهم أية تهم حقيقية، أو لم يحولوا إلى محاكمة، وأن من عرضت قضيته على محكمة العدل العليا تمت تبرئته. ف100% من المعروضين على محكمة العدل العليا تم تبرئتهم لعدم وجود قضية أو لعدم سلامة الإجراءات القانونية في اعتقالهم. ولتجنب المحاكم المدنية تم تحويل بعض المعتقلين للمحاكم العسكرية في انتهاك آخر للقانون. وعندما تسأل لماذا يحدث ذلك، يقال لك إن القانون ناقص، و المحاكم المدنية ضعيفة، وإن هذا و ذاك هو المسؤول عن الانتهاكات التعسفية لحقوق وحريات الإنسان الفلسطيني. ياللهول!!. لا أستطيع أن أنهي هذا المقال دون أن أسجل أن هناك تحسناً ملموساً في كيفية التعامل مع مسألة المعتقلين في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث هناك انخفاض ملموس في عدد المعتقلين، وفي التعذيب، وتحسن في المعاملة، وهذا يرجع إلى غضب الشعب من هذه الظاهرة وإلى حملة الانتقادات الفلسطينية والدولية خصوصاً التي مارستها منظمات حقوق الإنسان، وإلى وهذا هو الأهم أن "السلطتين" شعرتا بالاستقرار وتراجع التهديدات من الواحدة للأخرى، بحيث أصبح هناك نوع من التعايش مع الانقسام، ونوع من الاعتراف الواقعي من كل سلطة بالسلطة الأخرى. إن ما سبق يتضح من أن الحديث الآن يدور، كما ورد في الورقة المصرية عن لجنة فصائلية مشتركة، تنسق عملياً بين "السلطتين"، وليس عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو وفاق وطني على أساس برنامج سياسي مشترك. إن السلطة التي تدعي أنها ديمقراطية ووطنية وشفافة، عليها أن تقدم نموذجاً مختلفاً يتم فيه احترام حقوق وحريات الإنسان والحريات العامة، خصوصاً حرية الإعلام وحرية التجمع والتظاهر والاعتصام، وحرية التعبير التي تشمل حق انتقاد الحكام والسياسات وكل شيء دون الوقوع بالتشهير والتحريض والقذف. فالمسألة لا تنحصر بالاعتقالات والتعذيب فقط، بل إن هناك انتهاكات تمس جميع الحريات وتهدد بسيادة أنظمة بوليسية وقمعية. وهنا لا ينفع أن تدعي كل سلطة أنها أقل انتهاكاً للقانون والحريات وحقوق الإنسان من السلطة الأخرى، بل نريد أن نرى سباقاً على احترام سيادة القانون والحريات وحقوق الإنسان، ومن يقدم نموذجاً في هذا الاتجاه، يستحق الدعم والتشجيع والثقة من الشعب، ومن يفعل ذلك سيعطي لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الأولوية القصوى على أي شيء خر. فدون وحدة وطنية تضيع القضية، والبرنامج الوطني يغيب، والإنسان الفلسطيني يعاني معاناة مضاعفة!!.