منذ زمن ليس ببعيد، تخلّت اللوحة السرياليّة الكابوسيّة للثقافة في بلادنا عن سرياليّتها دون (أن تتخلّى عن كابوسيّتها) وانحنى شاربا "سلفادور دالي" ليأرجحا اأرضيّة المثقف التونسي تحت إشارات عصا "فرانكو" الجديد-المتجدد، أرجحة ليس القصد منها هدهدة النوم فقط، وإنما زعزعة الأرض الثابتة وخلخلة ترابها حتى لا يشبّ الطفل المثقف عن الطوق ويغامر خارج رحاب البيت، بيت الطاعة. ومنذ زمن قريب جدّا، تجاوزت كوابيسنا الثقافيّة طموح إفزاعنا، بعد أن تجسّدت وخرجت من أثيريّتها، فكففنا عن الصراخ وقد كبرت آثار مخالبها على أجسادنا. ويبدو أن الطموح الشره لمخلوقات الشواش والعوالم السفليّة قد تضخّم حتى مدّ أذرعه إلى كل ركن من لوحة الثقافة ليحتلّه ويشوّهه. آخر هذه الأركان، ركح كان بوّابة لتكوين شعوب عريقة النضج، ومتنفسا ترتاده الآلهة كلما احتدمت الأزمة واستحال الحلّ Deus es machinae لتفتح الأفق للانفراج ولو بجسّ حبال اللعبة. هو المسرح الذي فوجئنا منذ أيام (8 مارس 2008) في الحلقة الأولى من الاستشارة الوطنيّة حوله والجهويّة (بصفاقس) في إطارها - إطار الهيكلة والتنظيم في المهن الدراميّة - فوجئنا، لا فقط بتهميش أهمّ قضاياه من أزمات الإنتاج والتلقي والرقابة والهواية والاحتراف وغيرها من القضايا التي ذرف الحبر روحه فيها حتى جفت منابعه وجفت عيون قارئيه، وإنما أدخلوه سوق "السوق" من أوسع أبوابها، فصارت وزارة الثقافة تدعو إلى إخضاعه لقاعدة العرض والطلب، حيث صرّحت مسؤولة "التسويق" بها، في مداخلتها التي افتتحت اللقاء، "بضرورة تكييف "المنتوج" المسرحي حسب الحاجيات الاقتصاديّة للجهات التي تطلب العرض". هكذا - لم تخطئ الأذن السمع ولا القلم طريقه إلى المعنى - تدعونا وزارة الثقافة والتراث إلى "إنتاج" مسرح يخدم المصالح الاقتصادية الضيقة للجهة التي تطلبه، فننتج بذلك "مسرح خدمات" و"مسرح سياحة" ومسرح... ليس لدينا صناعات تستوجب مسرحا إلا ما قلّن وإلا كنا دعينا لإنتاج "مسرح للسيارات" و"مسرح للحبوب" و"مسرح للتكنولوجيا...لكننا - ضرورة - سندعى لإنتاج "مسرح للقنانة" وآخر "للاستهلاك" ومسرح "للتطبيع"... وغير ذلك من أشكال الإنتاج المحوّر جينيّا حسب رغائب وحاجات أهل المال والأعمال. والأخطر من هذا، حديث وجوه المسرح وأربابه (وليتهم خرسوا) عن المسرح المعولب بعلامة "م.ت" الموجّه للتصدير، حتى كدنا نسمعهم يتحدّثون عن إلحاق المسرح بالصناعات التقليديّة، وقد نسوا أن الأجدى أن نحقق اكتفاءنا الذاتي من المسرح قبل أن نوجّهه إلى "أسواق" تشبّعت به، حين سأل أحدهم - فداس "شيكسبير" في ذهني - "هل نحن بحاجة إلى المسرح؟". فهل نحن بحاجة إلى الفن يا سيدي؟ وهل نحن بحاجة إلى فضاء للتعبير حتى وإن حاصرته الكلاب؟ ما شاهدناه في هذا اللقاء الأوّل "للاستخارة" الجهويّة-"الوطنيّة" حول المسرح، كان بلا شكّ مسرحيّة هزليّة حدّ النخاع، لم يخل كن من أركانها الركحيّة من طرافة، سواء كان النصّ، أو الإخراج، أو الممثلين، أو الإضاءة الغائبة أو الديكور... وعلى ذكر الديكور: خارج قاعة الاجتماع، انتنظم معرض لتاريخ الحركة المسرحية بصفاقس، وجد مُعِدّه فيه فسحة لعرض تاريخه الشخصيّ، ولم يجد مثلها للحديث عن دور مسرح الجهة في معركة التحرر من الاستعمار، بل نسي - وهو في خضمّ الحديث عن جمعيّة الهلال المسرحي، مثلا، ومؤسسها محمد التيجاني السلامي - أن هذا الأخير قد باع أملاكه ليموّل الجمعيّة، بل وسجن بسبب جرأة مسرحيّاته وخطرها على المستعمر بما تفرزه من وعي لدى الشعب بقضاياه الوطنيّة، نسي هذا، ونسيه الذين تحدّثو عن الدعم والتمويل، ونسي المشرفون على اللقاء (تذاكروا فيما بينهم)أن المسرح مدرسة للوعي، وأنه أهم من الخبز، وأن ضحايا سقطوا ومازالوا يسقطون صرعى وشهداء رابع الفنون لأنهم آمنوا بالركح "ولم ينته الطرح" بعد! معز الباي