ثمة نقاش متنام في الأوساط الإسلامية الحركية حول الاستفادة من التجربة التركية الراهنة، بين رأي رافض وصل حد التحذير مما وصفه بلوثة التجربة التركية واستهجان كل تفاعل إيجابي معها، وبين رأي يقدمها كنموذج ملهم يستشرف من خلاله مستقبله ويبحث عبره عن أجوبة لإشكالاته؛ مما أنتج حالة من التقاطب والجدل، لم يستقر على موقف بل ما تلبث المواقف التركية الداخلية والخارجية أن تزيد من تعميق هذا التقاطب، وآخره ما ارتبط بالموقف التركي من قضية الأرمن والتوتر الذي نشأ مع الإدارة الأميركية بعد السعي داخل الكونغرس الأميركي لاتخاذ قرار مناهض لتركيا في موضوع الأرمن. والواقع أن منطق الموقف القطعي سواء السلبي منه أو الإيجابي من التجربة التركية ينتج مقاربة غير موضوعية لهذه الإشكالية المركّبة، ويقود إلى إعاقة التفكير حول حدود الاتفاق والاختلاف مع هذه التجربة، ومنهجية الاستفادة منها، وسبل التفاعل معها، كما ينتج أيضا حالة من التعاطي السطحي والاختزالي للتجربة، في حين أن هناك حاجة ملحة لدراسة هذه التجربة وما كشفت عنه من نجاحات في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية، وفي تدبير العلاقة مع محيط سياسي جزء منه مُعادٍ لا يتوقف عن التآمر لإفشال التجربة ومحيط دولي مركب ومتقلب يقف في حالة من العجز عن الحسم بين خياري الدعم الكلي للتجربة أو تشجيع جهود الانقلاب عنها، بحيث أصبحت -بالنظر للبعض- وكأنها شر لا بد منه. السعي لدراسة النجاحات لا ينفي وجود اختلافات جذرية بين النظام السياسي التركي وباقي الأنظمة الموجودة في المنطقة العربية، أقلها صراحته الصارمة في الدفاع عن علمانية النظام ورفض إحياء الجذور الإسلامية له، فضلا عن وجود حد أدنى من المعايير الديمقراطية في تدبير الحياة السياسية وتراجع قدرة المؤسسة العسكرية وكذا القضائية عن الانقلاب على تلك المعايير، وهو ما تجلى في فشل آخر مناورة قضائية في أغسطس من سنة 2008، كما يضاف إلى ذلك ما يثيره المحللون من أسباب وراء الفشل القضائي والعسكري تقدمه في الوقت نفسه عناصر التأثير المتزايد للتجربة التركية على العقل السياسي الحركي في المنطقة العربية، وعلى رأس هذه الأسباب النجاح في ثلاثة أمور، التنمية الاقتصادية بمضاعفة الناتج الداخلي الخام ومضاعفة الصادرات ومضاعفة الدخل الفردي، والتطور السياسي الديمقراطي من خلال 34 تعديلاً دستورياً، ومراجعة عميقة للقانون المدني، والتقدم الشجاع لتدبير المشكلة الكردية، ثم الإشعاع الخارجي الذي برز في التقدم في الالتحاق بالاتحاد بالأوروبي ورفض المشاركة في العدوان على العراق وإخضاع قرار من هذا المستوى للتصويت البرلماني الذي رفضه بوضوح، فضلا عن السياسة الجديدة إزاء الكيان الصهيوني، ذلك أنه بالرغم من ثقل الإرث المتراكم في هذا المجال، وإشراف المؤسسة العسكرية التركية ذات العلاقة المتوترة مع الحكومة عليه، فقد تمكنت تركيا من كسب معركة الاعتذار الصهيوني في الأزمة الأخيرة. من المفيد هنا التوقف لمناقشة الاختلاف القائم في المناخ الديمقراطي السياسي والذي يجعل من خيار المشاركة السياسية خيارا مثمرا. في حال النجاح يتيح للمنخرطين فيه تحقيق قدر من برنامجهم الانتخابي، وهو الأمر غير الموجود في المنطقة العربية، لكن يبقى أن هذا الاختلاف يفيد فقط في الانتباه لقصور استعمال النموذج التركي في الإقناع بصوابية خيار المشاركة السياسية في بلد آخر؛ لأن هذه الحيثيات ينبغي أن ترتبط أكثر بشروط الحياة السياسية في هذا البلد، وإلا يسقط المدافعون عن خيار المشاركة في تسويق الأوهام، وعوضاً عن ذلك فالتجربة التركية عنصر مهم في التدليل على دور العمل التراكمي في الإصلاح السياسي والديمقراطي، خاصة وأن الحالة التركية عرفت في تاريخها سلسلة انقلابات جعلت المسلسل الديمقراطي هشا في علاقته بالتيار الإسلامي. ومن عناصر الدراسة المطلوبة تحليل السياسة الخارجية لتركيا في السنوات الثماني الماضية، وسجلّ المواقف الإيجابية أو السلبية المتراكمة منذ مجيء العدالة والتنمية مقارنة مع مواقف الأنظمة العربية، بدءا من الحرب على العراق في 2003 وانتهاء باستدعاء السفير التركي في أميركا في قضية الأرمن. سيكون مثيراً في هذا الجانب ملاحظة منطق التراكم الإيجابي الذي يجمع بين توجهين، الأول تعميق الاندراج في سياسة التقارب مع الاتحاد الأوروبي واعتبار ذلك رافعة سياسية واقتصادية لتركيا، دون عقدة في التفاعل الإيجابي مع المعايير الأوروبية الخاصة بالعضوية في الاتحاد، وكيف تحولت إلى جدار في مواجهة سياسات الانقلاب على التطور الديمقراطي بتركيا، أما التوجه الثاني فيهمّ تعزيز منطق الانطلاق من المصلحة الوطنية وصيانة السيادة التركية في صياغة مواقف السياسة الخارجية، نعم هناك منطق المبادئ لكن مؤطر بمنطق المصالح وحساباتها؛ مما جعل عددا من مواقف السياسة الخارجية ذات العلاقة بقضايا العالم الإسلامي تعيد الاعتبار لتاريخ الانتماء التركي للعالم الإسلامي، لكن في الوقت نفسه وفق قواعد المصلحة التي تضع سيادة ومصالح تركيا فوق كل اعتبار. ثمة حاجة لدراسة علمية وجماعية للتجربة والانفتاح عليها والاستفادة من منهجية نجاحها التي قامت على الاشتغال بمنطق التراكم والاعتدال والتفاعل الاستباقي مع التهديدات الناجمة عن التدافع في الواقع، والاجتهاد المستمر في إبداع المواقف والتركيز على الإنجاز الميداني وتقوية العلاقة مع المجتمع، واعتماد منطق المصالح المتبادلة في العلاقة مع الآخر. أما السعي لاستنساخ المواقف والهياكل والبرامج والمبادرات وأحياناً دون وعي بشروطها ومسبقاتها فهو تعبير عن قصور كبير في الاستفادة من التجربة التركية. العرب 2010-03-19