لم يبق العالم كما كان في البنية القديمة منغلقا موزعا على ديار كثيرا ما صيغت العلاقة بينها على قاعدة التباين والصراع والحروب. هو العالم الذي دخل مع "الحداثة" نستعمل المفهوم بالقياس إلى المصطلح الذي نشأ مع النهضة في أوروبا منذ خمسة قرون أو ما يزيد بقليل - جولة جديدة لم يعرف لها من نظير من قبل و هي تدعو إلى الاتصال والتعامل والتكتل والائتلاف إلى أنّ أطلت « العولمة « مفهوما جديدا فرض كسرا للمعسكرات وللتقسيم الذي أخضع البلدان لمنطق الايدولوجيا.هي المرحلة التي وِسمت بعصر» الإنسان ذي النزعة الاقتصادية « فلا مناص من إدراك الحقائق الراهنة.وقد يتأتى ذلك بالوقوف عند مراحل الفكر الإسلامي المعاصر. وهل يتسنى الكلام على المعاصرة دونما مرجعية الحداثة ؟ و هل يجوز أن نغفل أنّ الحداثة نتاج بشري ولد في أوروبا ( جغرافيا) وترعرع في الغرب ( اقتصاديا وفكريا ) ولكنه لم يخل البتة من منابت ذات طابع بشري إنساني للقدامى من الإغريق دور فيه، وللحضارة العربية فيه شأن وللثقافة الهندية وظيفة . . . ويمكن أن نعدّد الروافد الأخرى ولكننا لن نغضي عن حقيقة هي أنّ الحداثة الوليدة في أوروبا أفادت من تلك الروافد رغم أنّها تجاوزتها ونحتت لنفسها دلالة أخرجتها عن السياق اللغوي وهو يفيد التجديد - ولم يخل عصر من حداثة بهذا المعنى - وأثبتتها في إطار مفهومي ذي لوازم و مرتكزاتها هي العقلانية والعلمنة والديمقراطية . فالحداثة حدث له بدايات تاريخية هي القرن 16م بأوروبا وله نسق هو التسارع والاتساع وله إطار هو الحدود البشرية برمتها.فلا معنى للحياة المعاصرة خارج دائرة الحداثة ، والتعامل معها ضرورة حتى إن تعالت بعض الأصوات معلنة فترة ما بعد الحداثة ، فهي لم تدع البتة الكفر بالحداثة بل ناشدت القيم وأفسحت المجال للروح في عالم زينت فيه التكنولوجيا وما انجر عنها أن الجسد هو حقيقة الإنسان الأولى . نشأت الحداثة في أوروبا مع الثورة العلمية وبدأت تتمكّن في القرن 16 م.وإذا كانت ملابسات الميلاد مهمّة ، فإننا أثرنا أن نسكت عنها لنقف على الإطار المرجعي ولنلح على النقلة التي بشرت بها . الحداثة رؤية جديدة عن الإنسان والكون و ما يحيط بهما من المسائل التي انطلقت بظهور البورجوازية و بما دعت إليه من يقظة للحس القومي.وقد نجم النظام الرأسمالي عن البورجوازية فاستدعى الإصلاحات الجذرية في السياسة والتشريعات و في الحياة الاجتماعية بكل عناصرها . وكانت الثورة الصناعية التجلي الأكبر لهذه الحركة داخل أوروبا ممّا أفضى إلى تأكّد العقلانية رؤية وموقفا وقد أعلنا بوضوح استقلال الدنيوي على المقدس وبشّر بعلمنة الوعي الفردي والوعي الجماعي. فالحداثة هي التسارع على نمط من المعرفة خرج من الشكل العمودي واختار الشكل الأفقي.مثّل الشكل العمودي المعرفة القديمة وهي تبدأ بالفيض أو الصدور عن الواحد ( الله ) و تنحدر من عالم الجوهر والمعقولات إلى عالم الكون والفساد.الأول هو ما فوق فلك القمر والثاني هو ما تحت فلك القمر.ثم تتغيّر الحركة فتؤول إلى التوق والشوق فتسعى إلى الخلاص بالانعتاق عن الكون والفساد وبالعروج إلى الجوهر الصعّاد حتى تثوب إلى المطلق.هذا الشكل العمودي يلخص نظام المعرفة قديما بشتى تجلياته وتأويلاته واتجاهاته وأما الشكل الأفقي فهو الممتد من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر وهو يعتبر الصيرورة ويرصد الحركة ويضبط العلاقات بين الأشياء والكائنات وقد استعاض عن التماثل بين الإنسان والكون ، بطبيعة الصلة التي تربط بينهما لأن لكل كائن وجودا متميزا خاصا. والانتقال من الشكل العمودي إلى الأفقي هو الذي أفرز جملة من القيم. * أستاذ جامعي تونسي الصباح 07 أفريل 2010