يتوجه التونسيون يوم 9 ماي القادم إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في المجالس البلدية. ومن المعلوم أن هذ الاستحقاقات تجري في وضع سياسي لا يختلف كثيرا عن الوضع العام الذي كان سائدا خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية في الخريف الماضي بكل سلبياته وايجابياته . غير إن اللافت للانتباه هذه المرة هو أن هذه الانتخابات تجري للمرة الأولى وفق التحوير الجديد الذي منح المعارضة نسبة أرفع في تواجدها بالمجالس التمثيلية تصل إلى مستوى الربع الذي يوزع بين القائمات غير التجمعية، حسب ترتيبها في دوائرها انطلاقا من حد أدنى يجب أن تبلغه وهو 3 %. غير أن أغلب الملاحظين يؤكدون في المقابل أن مشاركة المعارضة باختلاف مواقعها وأطيافها لن تغطي على أقصى تقدير ثلث المجالس البلدية التي تعد264 مجلسا. وهو ما يعني أن التجمع الدستوري سيظل وحيدا في الأغلبية الساحقة من المجالس مجسدا بلا نقاش أجلى صورة من صور هيمنة الأحزاب الحاكمة في البلدان المحجوبة إلى حد الآن عن مراحل التحقق الناجز للتغيير الديمقراطي. إن هذا الضعف العام الذي أبدته المعارضة التونسية هو السمة المشتركة لكل الأحزاب القانونية بمن فيها الأحزاب التوافقية التي يمتد عمرها في المشهد ألتعددي إلى أوائل الثمانينات.ولعل هذا ما يعد في حقيقة الأمر مؤشرا مقلقا لابد أن يدفع السلطة إلى طرح تساؤلات جدية على مدى التحقق الفعلي لما ظلت تعد به باستمرار من ضرورة تشجيع التعددية بعد آن أصبحت بندا أساسيا في الدستور وفي الوقت الذي يؤكد فيه رئيس الدولة على اعتبار قوة الحزب الحاكم من قوة الأحزاب المنافسة له. إن الديمقراطية المحلية ووضع المشهد التعددي في الجهات هو الذي يكشف دون مساحيق المستوى الفعلي الذي بلغته التنمية السياسية. وإن مدى إقبال المواطنين على الإسهام الايجابي في الشأن العام عبر الانخراط - دون وجل – في الأحزاب والتنظيمات السياسية – غير الحاكمة بالخصوص- هو الذي يمنح مسار التنمية السياسية قيمته الفعلية من حيث هو المدخل السليم لبناء مجتمع المواطنة المحصن من الهزات والمسارات المجهولة . ومن هذا المنطلق فان هذا القصور الذي تعانيه أحزاب المعارضة في الانصهار والانتشار يجب أن لا يكون مصدر فخر للحزب الحاكم، بقدر ما يجب أن يكون مدخلا لحوار وطني جدي ومسؤول حول مآلات التنمية السياسية في البلاد وسبل تفعيلها . لن يستطيع الخطاب الرسمي أن يقنعنا بان الإشعاع الخيالي للحزب الحاكم راجع إلى نجاحاته الإعجازية في كل المستويات، فقد اضطرت السلطة التنفيذية مثلا إلى حل عدد من المجالس البلدية في الدورة المنتهية لأسباب يعلم الرأي العام بعضها ويجهل بعضها الآخر، ولكن ما نحن متأكدون منه أن سوء الأداء في عديد المجالس البلدية التي يقودها التجمعيون ليست أمرا خافيا على الشعب وحتى على السلطة. ومع ذلك فقد ظل الحزب الحاكم في هذه المناطق على الحلبة وحيدا يبارز نفسه باستمرار مما يعني أن مثالية الأداء تبقى مبررا غير مقنع لتفسير سيطرة الحزب الحاكم وضعف المعارضة . إن أسبابا عديدة يجب أن نصارح أنفسنا بها هي التي تقف وراء هذا الضعف الهيكلي الذي ظلت تعاني منه المعارضة بكل أطيافها. وحتى نكون موضوعيين فإننا لن ننكر الأسباب الذاتية التي تتحمل فيها المعارضة نفسها أسباب ضعفها، ولكننا لن نقبل كذلك بالتغافل عن الأسباب الموضوعية التي نمنحها المرتبة الرئيسة في تفسير هيمنة الحزب الحاكم وضعف إشعاع المعارضة .وقد سبق أن أشرنا في مقالات سابقة إلى أن طابع المحافظة والوصاية والاتكال على خدمات الدولة والاختفاء وراء استثمار بعض نجاحات أعلى هرم السلطة وحرص التجمعيين على اعتبار أنفسهم الناطقين باسم رئيس البلاد واعتبار من يعارض خيارات الحزب الحاكم إنما يعارض مباشرة رئيس الدولة، إنما هي كلها آليات دعاية تلعب دورا كبيرا في التجريم غير العلني للمعارضة بألوانها المختلفة، كما تلعب هذه الوسائل دورا في تخويف المواطنين من الانخراط في عمل سياسي معارض قد يحرمهم من خدمات أصبحت مندغمة في مخيالهم برضى رئيس الشعبة الذي يبدو في أحيان كثيرة الممثل الشرعي والوحيد للسلطة التنفيذية. لقد بقي الحزب الحاكم – رغم مجمل التحولات التي شهدها – يتحرك على العموم، وبالخصوص في هياكله المحلية، بأفق تحرري ضيق وبثقافة وسلوك سياسيين مشحونين بمصطلحات إقصائية وصور نمطية سلبية عن المعارضة. وفي تقديرنا فإننا لا نتصور تفعيلا حقيقيا للخطاب الرسمي الذي يعلن نظريا الانتصار للتعددية ما لم نشهد مبادرات حقيقية تحاول ترسيخ قيم التعدد والاختلاف بداية من الحي والقرية والمدينة. ولن يكون ذلك إلا بإجراءات فعلية تحاول الحد من نزوعات الهيمنة الموروثة عن الماضي. لاشك أن البعض قد يتذرع بأن غياب الإكراهات الحقيقية لن تدفع السلطة إلى مثل هذه الإجراءات مادامت تضمن هيمنتها على كامل خلايا المجتمع باعتماد الماكينة المتضخمة للحزب الحاكم، ولكننا نؤكد في المقابل أن السلطة قد بادرت منذ الاستقلال بإجراءات فوقية شجاعة في المجال الاجتماعي للدفع في اتجاه التغيير ولا نرى اليوم مبررا للبطء والحذر في توسيع مجال التعددية عبر تجديد النخبة وإضفاء مصداقية فعلية على المشهد السياسي عبر الانفتاح على طاقات جديدة لاتطمح بالضرورة إلى قلب المشهد القائم واستباق الزمان والمكان، ولكنها لم تعد ترضى كذلك بخطوات محافظة وبطيئة في مجال التنمية السياسية و بآليات بالية لم تعد قادرة على تأهيل البلاد والمجتمع لمواجهة التحديات القادمة لا محالة. إن ضعف المعارضة في هذه الانتخابات البلدية لن يكون إذن مبررا لاطمئنان الحزب الحاكم لهيمنته الأزلية ولكنه في الحقيقة علامة على ارتفاع منسوب خطر الاستقالة والإحباط والمرارة و مبررا لانخفاض أداء بعض الإطارات المتنفذة في الجهات، مما أدى في أحيان كثيرة إلى تعطيل مخططات التنمية الجهوية وارتباكها وهو ما كان وراء عدد من التوترات الجهوية التي بدأت تطل برأسها دوريا . وإذا كان بعض أداء المعارضة قد ساهم في تأبيد الوضع السائد، فان ذلك لا يمنعنا مع ذلك من الإشارة إلى بعض الجهود التي تحاول بذلها أطراف آمنت بان الإصلاح السياسي مسار دائم صبور ومتدرج وأن العمل المواطني منهج واقعي فعال ومتدرج يعمل على إيجاد منافذ الفعل والانصهار والاقتراب من الناس ومشاغلهم بخطاب بناء بعيد عن التشنج. ومن هذا المنطلق كانت الدعوة المشتركة منذ مدة، لدعم قائمات مواطنية للانتخابات البلدية. فقد تجمع عدد من المستقلين وتيار الإصلاح والتنمية وحزب العمل الوطني الديمقراطي حول حركة التجديد والتكتل الديمقراطي للعمل والحريات كحزبين قانونيين، للاشتغال في اتجاه الحضور في هذه الانتخابات حسب ما تتيحه قدراتنا في العاصمة والجهات. وجدير بالتذكير في هذا الإطار، أن رهانات هذه المشاركة كانت واضحة – على حد علمنا – لجميع الأطراف وهي لا تتجاوز في الحقيقة الحضور السياسي، باعتبار المشاركة في الاستحقاقات أقوم المناهج –حسب رأينا – في الإسهام الايجابي لتطوير المشهد السياسي. كما أن هذه المشاركة تحاول استثمار المتاح في انتخابات محلية لتعويد كوادر المعارضة المستقلة على العمل المشترك من القاعدة إلى القمة أولا ثم –وهذا هو المهم– تدريب فعلنا المعارض على شجاعة الانشغال بالاهتمامات المباشرة لعموم المواطنين في إطار تفعيل قوة الاقتراح وخوض المنافسة والعمل على تحقيق التميز قدر الإمكان في الخطاب والممارسة مع الحزب الحاكم وباقي الأطراف، بعيدا عن الرهانات المغلوطة والسقوف والشعارات التي لا تناسب طبيعة الانتخابات البلدية باعتبارها متعلقة بإشكاليات الحياة اليومية للمواطن. ومن هذا المنطلق كانت الدعوة إلى التشجيع على تشكيل قائمات مواطنية، تصوغ خطابها بنبرة الاهتمام بالمحلي في اتجاه إبراز معارضة بناءة ومسؤولة وواقعية ترفض التحليق في سماء الممكنات والفرضيات القصوى، وتحرص على إبراز صورة المعارض كمواطنقريب من الناس ومدرك للمشاغل الحقيقية للمجموعة. ولا شك أن قائمات المواطنة تدرك تماما صعوبة الظروف التي تعمل فيها، مما يجعلها طبعا لا تتوهم نجاحات كاذبة في الإعداد والنتائج، ولكنها ستعتبر هذه التجربة المشتركة يمكن أن تكون دافعا ايجابيا لتطوير العمل الائتلافي بين الأطراف المتقاربة في تقدير الوضع وسبل الفعل فيه، في اتجاه التفكير مستقبلا في صياغة أجندات للعمل المشترك تتجاوز المناسبات الانتخابية الظرفية. وضمن هذه الرؤية وفي سياق هذه الروح وحدها نفهم العمل المشترك وسبل حمايته من النكسات ومخاطر الانفراط، دون إنكار بطبيعة الحال أن القائمات المواطنية تنطلق من إقرار بحق الطاقات المستقلة في الجهات في النأي بنفسها عن كل انخراط في أجندات الأطراف والقوى السياسية المساهمة في تلك القائمات. ومن المهم في هدا السياق، وبعد الإشارات المتعددة التي حرص على إبدائها بعض أصدقائنا في المعارضة الوطنية على هذه المساهمة، أن نرد على بعض الأسئلة المتعلقة بموقفنا من العمل المشترك بعد أن عبرنا عن موقفنا المتحفظ على مبادرة الصديق عياشي الهمامي حول توحيد المعارضة الوطنية على قائمات بلدية بالمراهنة على استثمار هذه الاستحقاقات في بعث حركة مدنية واسعة من اجل التغيير الديمقراطي. وإن كنت سأتكلم في نهاية هذه المقال باعتباري أحد المتحدثين باسم تيار الإصلاح والتنمية، فذلك لأن أحد البيانات الأخيرة لطرف سياسي صديق قد ذكرنا بالإسم في تعليق على موقفنا من مبادرة العياشي، وهو موقف سبق أن وضحه الأخ محمد القوماني في الندوة الوطنية حول الانتخابات البلدية التي نظمت بمقرحركة التجديد يوم 19 فيفري الماضي وتم نشر أهم محتوياتها بجريدة الطريق الجديد. لقد سبق أن بينا أن الحرص على المشاركة في الانتخابات البلدية لا يتجاوز في تقديرنا الالتزام بالرهانات المذكورة أعلاه، ولعل واقعية هذه الرهانات وحدها هي التي جعلتنا بالضبط نختلف مع مبادرة العياشي والتي حرصت على أن ترتفع برهانات البلديات إلى درجة المراهنة على ما أسمته بإحداث الشرخ في جدار الانغلاق وتأسيس حركة مدنية للتغيير الاجتماعي، وهو رهان لا نجد حرجا في تحييد توجهاتنا المختلفة عنه، إضافة إلى كوننا لانعتبر أن المهمة المطروحة حاليا على الحركة الديمقراطية المعارضة هي تشكيل الحركة المدنية من اجل تغيير لم نتفق على مضامينه ولا على مؤدياته و لا على التمشي السياسي الّذي يقربنا منه .ومن ناحية أخرى لا ننكر أبدا – كما أشار الصديق عياشي على حق – أن الخلاف يتعلق فعلا بتباين في التحليل والمواقف السياسية وفي اختيار أشكال النضال الفعالة، فتوصيف الوضع السياسي بمفاهيم لا نرتئيها وطرح صيغ المقاطعة أو المشاركة المشروطة – التي ترتقي في وضع شروطها الدنيا من إعداد ظروف الانتخابات النزيهة إلى تشكيل الهيئة المستقلة للإشراف على الانتخابات وصولا إلى تغيير القانون الانتخابي – تبدو في تقديرنا مبررات لا تسمح بالالتقاء ولا بوحدة المعارضة. وفي ظل الخلافات القائمة، قد ننتهي بسرعة إلى مثال آخر في الانقسام بدل أن نعطى درسا في الوحدة. ومن ناحية أخرى فإن المماحكات التي ارتبطت بالاستحقاقات التشريعية والرئاسية –على عكس التهوين الذي عبر عنه أصدقاؤنا – تلعب دورا إضافيا في تعسير التقاءاتنا المستقبلية، ذلك أن الالتقاء أو مطالبة الالتقاء مع أطراف سبق أن تم وصفها بنعوت شتى، من استثمار الثقوب القانونية إلى ممارسة دور الديكور.. يبدو غير مفهوم من أطراف نصبت نفسها اكليروسا للنضال المبدئي والنظيف، مما يجعل لومها ومطالبتنا للالتقاء معها اليوم على أجندات لا نوافق عليها، أمرا غريبا وغير مفهوم، وإن كنا نتفهم احباطاتها ورغبتها في الحضور المشهدي الذي لا نرانا جزءا من الانخراط فيه. وفي كل الأحوال فبإمكان أصدقائنا الحريصين على وحدة المعارضة على المهام القصوى، ممارسة اختياراتهم بالصيغ التي يرونها مجدية، بعيدا عن اللوم المتبادل. ولتتفتح مائة زهرة كما يقال .